مأمون أحمد مصطفى زيدان
“مُهْداة إلى ابنتي لينا”
6- 2006
شهر جديد، لا علاقة له بأشهر العمر التي مرت وقطعت سنين عمري المثقل بالوجع والهم، فيه تكوَّنَ حزنُ الفرح، ومنه انبثقت دموع عذبة، خالصة الصفاء، وفيه توزعت نفسي على مرافئ الأحاسيس المجهولة المغلفة بوضوح الغموض، وصفاء المجهول.
10- 06- 2006
بدأت الأيام تنهب حواف الزمن، وميناءُ الساعةِ تَقَعَّر، والعقاربُ الْتَوَتْ، وثواني اللحظات اندفعت كدبابيس فولاذية في عمق روحي، ونواة قلبي، خلعت الساعة، طَوَّحَتْها بعيدا، وأمسكت بلولبة الزمن بيدين فولاذيتين، حاولت تسطيحه، لكنه مضى ينهب الأيام والساعات.
20- 06- 2006
بدأت ملامح البيت تتغير، تأخذ شكلا آخر، تزاحمت الأشياء واللحظات والوجوه والمجهول، في ذاكرتي حدث قريب، لم يتبق عليه سوى أيام قليلة، وتنقلب الأمور، ببساطة نحو مصب النهر المندفع في دوامة الزمن المتآكل، حدث قريب، يسير بنا نحو معلم جديد من معالم الكون، لم نَعْهَدْهُ من قبل، لم نعرفه من قبل، ترى، كيف ستكون الأيام التي تليه، وردية، أم كحلية؟ قال الناس: حدث ويمر، التعود نعمة من نعم الله على الإنسان، والسير المتلاحق المندفع نحو نهر الحياة الغامر كفيل بإعادة النفس إلى مسارها، والروح إلى مساربها.
كم تمنيت اليوم تحديدا، وفي لحظة انتظار الحدث القادم، لو نهض والدي من قبره، ليضمني إلى صدره الواسع، لأغسل دموعي بشعيرات صدره الأبيض، كم تمنيت لو زارني في الحلم ليقف بجانبي وأنا موزع بين حزن ممزوج بفرح غامر، وكم تمنيت أن أُقَبّلَ اليومَ يدَه الطاهرة الوَضّاءَةَ، لأسحب نسْغَها إلى روحي الراقصة على رؤوس الحيرة والتشتت.
25- 06- 2006
اندفعت أمي من قبرها، إلى ذاكرتي، كجدول عذب، وانتشرت في الأفق كشمس لا تخبو، تمددت على امتداد السماء، فأينما وليت وجهي وجدتها، تنثر حنانها وبسمتها المغلفة بمجهول الغابة، وغموض المحيط، مدت يديها الطاهرتين، وانتشلتني من بين جدران تغيرت ملامحُها، دفعتني إلى جوفها، بين الروح والقلب، ومنحتني منهما زادا لا يَنْضَبُ، وبلَمْحَةِ عينٍ تلاشت من الأفق، وعادت إلى قبرها الغارق بالظلمة.
29- 06- 2006
يوم مثقل، كغيمة حبلى بالغيث، تسير في الآفاق حيث لا تعلم، تجر نفسها، بقوة خفية، إلى مواطن مأهولة، وغير مأهولة، تفتح روحها النابضة، فتَهْمِي الحياة، حيث تَهْمِي، ويَنْبُزُ البُرْعُمُ، على استحياء وخجل، وتتفتح الأزهار، فتضج الأرض بالخضرة والحياة واللون، تخرج الأحياء من مكامنها، جَذِلَةً، مَزْهُوَّةً بالتشقق الأزلي لخصوبة الكون والحياة.
تتنفس الصحارى، وهي تستقبل الغيث، تلتقطه بعزم جبار، تدسه في مساماتها، تفوح رائحة الرمل بالرطوبة، تتوغل جذور النخيل بالعمق، تطارد قطرات الغيث المندسة، تمتصها، فيخرج البلح والرطب والتمر، يتزواج النخيل، يلمس أرض الصحراء العارية طَلْعٌ تتناقله الرياح، تهتز الصحارى بالخصوبة، فتورق أشواكها، وتخرج أحياءها لتبدأ مرحلة الحياة.
على بعد، أشاهد أختَيَّ وهما تَبْذُرانِ الأرض القاحلة بحنان إخوة، تبتسمان وهما تعالجان الموت بالحياة، أندفِعُ كسراب ظامئ إليهما، وأنا أرقب الغيمة وهي تغادر مكانها إلى موطن آخر، هو الرحيل إذن، رحيل الغمامة الحبلى بالخير والبركة.
صباح- 30- 06- 2006
الاستعداد للفراق، لخلع قلبي من مكانه، قلبي الذي عاش في كل سنين عمري، غرفة الجراحة جاهزة، وطبيب التخدير جاهز، والمباضع، والجراح، قالوا: الضرورة تقتضي خلع قلبك، لأن الحياة لا تسير على نسقها الصحيح، ولا تستقيم أمورها، إلا إذا استبدلنا قلبك الذي تعرف، والذي تحب، بقلب آخر، هي الحياة يا “مأمون”، الحياة التي لم تتعلم منها إلا ما قالته الكتب، وما قاله الشعراء.
قلت: وكيف تظنون أني سأسمح لكم بانتزاع قلبي، ألأنه متعب؟ أم لأنه أصبح لا يحتمل من آلام الحياة أكثر؟ وكيف تظنون بأني قادر على التنازل عن قلبي، قلبي الذي رافق رحلة حياتي، وعاش تقلباتها وتصارعاتها، قلبي الذي منحني الحياة، وتنسم من روحي ما تنسم، هَفِيفُهُ الطريُّ لا زال يدور بأعماقي، بوجودي، بكياني، بروحي، بنواتي، دورة حب وعشق لا تنتهي.
أنتم تملكون المبضع، وتملكون الخبرة في خلع القلوب من جذورها، وتملكون قدرة زرع قلب، قلب غريب بصدور الناس، لكنكم لا تملكون زرع شعور من فرح أو حزن، لا تملكون حتمية توافق القلب الجديد، مع الجسد المعجون بروائح الزمن وعبير الأيام.
أنا سأتحداكم جميعا، سأتحدى علمكم وتجربتكم وخبرتكم، وسأُبقي على قلبي مكانه، كما هو، متعب، مكلوم ومجروح، بل وسأقسمه إلى نصفين، نصف يبقى بداخلي، وقسم يشارك بالحدث القادم، وسترون، كيف سينتصر قلبي على كل علمكم وتجربتكم؟
ظُهْـر- 30- 06- 2006
بدأت نبضات قلبي تتسارع، وأنفاسي هبطت نحو قاع له مذاق البئر المهجور، وروحي توثبت، انتفضت، اهتزّت، ساعات قليلة، قليلة جدا، على موعد الحدث، طاقم المشفى لم يبتعد كثيرا، وغرفة الجراحة معقمة جاهزة، والمباضع الحادة، والكشاف الوقح، والتخدير، والناس من حولي تحدق بملامحي التي بدأت تحتقن، لترتسم على وجهي سوادا قاتما، الوجوه والعيون متأهبة مستنفرة، وأنا موزع بين شعور بالحياة، وشعور بالقلب المُعَنَّى.
30- 06- 2006 “السادسة مساء”
ساعتان فقط، ساعتان وتظهر النتيجة، تتعرى الأشياء من ملامحها، ويخلع الزمن رباطه المشدود على كَمٍّ من الانفعالات المُكَوَّمَةِ في النفس والقلب، الأرض والسماء، البحار والمحيطات، الصحارى والجبال، الجداول والشلالات، كل الأشياء والأشياء، بدأت تجتمع الآن في مجرى القلب الموصول بالروح، وكل النظرات، كل العيون، وكل الترقب والاستنفار، بدأ يعوم على مساحات الوقت المتبقَّى، ينتظر النتيجة.
30- 06- 2006- “السابعة والربع تماما”
دخلت البيت، أحسست برائحة المتوسط تغزوني، واقتحمتني رائحة الليمون والنرجس، وصلني صوت والديَّ وهما يناجيان قلبي، وفي لحظة اختُطِفَتْ من بُؤرة الزمن ونواتِه، غَطَّتِ الكونَ زغرودةُ أمّي الغنية بالعطف والحنان، زغرودة من قبر يَغُصُّ بالظلمة.
اجتاحتني راحة مفاجئة، وغمرتني سعادة غامرة، توسطت البيت، فوجدت قلبي يتنازع الطول والقصر، ناصع البياض، مُشْرَبٌ بحمرة دماء خَجْلَى، تتناوب عيونه الإغلاق والانفتاح، ينتصب، بشموخ اللحظة وهيبتها وسعادتها، يرمقني بنظرات مترعة بالحب والحنان، وعلى رأسه، وبين خصلات شعره، تتوزع ورود الأمل، ورياحين المستقبل، وعلى خديه، تتوزع ألوان الإيمان والوفاء، اقتربت منه، ضممته إلى صدري، ففاحت روائح الأرض والأهل والوطن والزمن والتاريخ، تطايرت الروائح كلها، لتخضب الأجواء وتحنيها.
تعالت الزغاريد، سحبتنا دوامة الفرحة، جرتنا إلى أعماقها، أمسكت بيده الصغيرة، وباليد الأخرى أمسك الأخ الأكبر، وانتصف الأخ الثاني الجمع، وانطلقنا نحو الباب الخارجي، الخطوات الأخيرة، للانتقال من حال إلى حال، رفعنا بدلة العرس الموشاة بالألوان البيضاء على أديم أشدَّ بياضا، تعالت الزغاريد من جديد، أحسست بيد أبي وهي تمتد نحو القلب الخارج من صحن الروح، يدٌ مُعَرَّقَةٌ، تشد على قلبي، فتعصر منه كل هموم العمر، وجراح الأيام، تقدمنا قليلا، كانت سيارتي مزينة، معطرة، تتماوج مع وهج الشمس، وذهب الكون، وعلى الباب، وقف العريس ينتظر، وحين وصلنا، ضممته إلى صدري، بحب لا ينضب، ضمني إلى صدره، بوفاء لا ينضب، وقَبَّلَ رأسي، فأحسستُ بالعذوبة، بالحب يَنْثالُ بأعماقي، كان يشكرني، وكنت أوصيه، قبّل رأسي مرة أخرى، وقال ما قال، قال: “لِينَا” في حبة العين، ووسط القلب، ومَرْبَعِ الروح، لينا هي كل ما أملك من أمل ورجاء، فلتكن مطمئنا، هادئ النفس، قرير العين.
وانطلقت بالسيارة إلى صالة الحفل، تَتَرَغْرَغُ الدموع بالعينين، لكنها تأبى السقوط، تأبى أن تهمي، تبقى معلقة على اتساع العينين، وعلى الكرسي الخلفي، العروس تهمس في أذن العريس، والعريس يهمس في أذنها، وزوجتي تجلس بجانبي، وهي تصارع الفرح والحزن.
استقبلت السيارة، بالحفاوة والزغاريد، أوصلتها وإخوتها إلى سدة اللوج، فبدت وهي تتوسط الكرسي، بحلتها البيضاء، كملاك يرفرف بأجنحته على كون مغمور بالسعادة والفرح، كانت بسمتها ضياءً سحريا، يقتحم أعماقي المهتزة، فيحولها إلى بسمات فياضة بأب يزف ابنته إلى بيت جديد، لينشق، بعد أشهر، عن أطفال يحملون ملامح جدهم الرابض على نار الانتظار، انتظار امتداده في جيل جديد.
30- 06- 2006 “الحادية عشر ليلا”
تحركتُ وزوجتي بسيارتنا، حملناهما، بأحضان القلب، إلى منزلهما، وعند الباب الخارجي، ضممتها، إلى صدري، قَبَّلْتُ جبهتَها، وقبْلَ أن تفيض الدموع، أدرت ظهري، وانطلقت، فانهال الدمع مطرا غزيرا، وقبل أن تغيب السيارة، أدرت رأسي، فوجدتها تنتظر غياب السيارة عن الشارع، وهي تودعني بنظرات الحب والرجاء.
31- 06- 2006
بقيت مستيقظا، وكأن بيني وبين النوم جفاءً وخصومةً، وما هي سوى لحظات، حتى رَنَّ جرس الهاتف، رفعت السماعة، جاءني صوت القلب منسابا أنشودة بَرْدِ سلام: “كيف حالك يابا”؟
أغلقت السماعة، وانطلقت نحو السرير، لأنام وأنا قرير العين، هادئ البال.
بارك الله فيك ولك يا ابنتي الغالية.
اليوم، واليوم فقط، عرفت كيف ينكسر حاجز الزمن.
…………………..
فلسطين- مخيم طول كرم