ترجمة: سعيد بوخليط
*جوليا كريستيفا: كتبتُ جزءا كبيرا من كتاب ”غرباء عن ذواتنا”(1988)، داخل حجرة مكتبي في جزيرة ري Ré، ولومارتري، وكذا مقهى التجارة في مرفأ الفنون، أو أيضا لحظات انتظاري دافيد وقد صار آنذاك مراهقا، إنهاء حصته في نادي القوارب الشرعية. لقد أصبحت حينئذ مفرطة الحساسية حيال التمييز ضد المهاجرين، وكذا صعود الجبهة الوطنية، ثم تراجع التضامن. حالة وضعية”الأجنبية”التي اختبرتُها بدوري، وحظيت بترحيب من طرف رولان بارت، طرحت على نفسها تساؤلا بخصوص إمكانية أن تعيش منفاها ثانية. صوب كندا، على سبيل المثال، وقد توصلتُ باقتراحات مهمة من طرف جامعة تورنتو. لكني لم أستجب، في نهاية المطاف. مادمتُ هنا في مكاني، عند لغة حياتي، وفكري. بدا تحقيق مشروع من هذا القبيل، معقدا جدا، ولن يدعمني في سبيل تفعيل خطوات هذه الفكرة، سواء مرضاي ولافيليب و لادافيد. توخيتُ في كتاب”غرباء عن ذواتنا”، محاولة إعادة اكتشاف، حسب تشاؤمية فَعّالة، مثلما أحببتُ التعبير عن ذلك، الوقائع والأساطير التي أسست لذاكرة الغرابة (كما فعلتُ مع الحب). من راعوث الموابية، الأجنبية الجميلة التي كانت أصل دولة الملك دافيد، غاية الرواقيين، مرورا بالنزعة الإنسانية الكونية لعصر النهضة، ثم الإعلان عن حقوق الإنسان.
*صامويل دوك:أوضحتم في كتابكم ”أمراض النفس الجديدة”، الصادر سنة 1993، كيف أدى هيمنة الصورة إلى تسوية التباينات والانفعالات، واستأصلت قدرتها فيما يتعلق بإظهار تجربتها الخاصة وكذا قيم الذات. هل الفضاء النفسي بصدد الاختفاء؟أظهرت دراستكم هذه الإشكالية المقلقة التي توحي ليس فقط بعلاج نفسي فوري، بل أيضا إشكالية حضارية.
*جوليا كريستيفا:ربما يوجد مرضى جدد؟ أمراض جديدة؟بحيث نلاحظ تصاعد وتيرة وكذا تنوع أنواع فظيعة للاكتئاب، أمراض نفسية-جسدية، أعمال التخريب، إدمان المخدرات، وأخيرا، تطرف”أمراض مثالية”قادت نحو الراديكالية وكذا الجريمة المنظمة. تطور الأعراف، إعادة تشَكّل العائلات، تفشي البطالة، الاضطرابات النفسية التي أحدثتها ثم ضاعفتها وسائل التواصل الحديثة؛مثلما أوجدت أيضا ترياقها، وسائل جديدة للمقاومة، وتوخي إعادة البناء. فضلا عن ذلك، يتجلى المتغيِّر، في قدرات التحليل النفسي على اكتشاف، مصاحبة، وكذا معالجة مختلف مشاعر الاستياء المعاصرة. لقد دفعتني ممارستي للتحليل النفسي صوب التكلم عن”مرضى جدد”، يتموقعون خارج إطار المقولات المعتادة لعلم النفس المرضي(الهستيريا أو العُصَاب الوسواسي).
*صامويل دوك:هل يوجد جامع مشترك بين هؤلاء ”المرضى الجدد”الذين يعكسون أعراضا مختلفة جدا، رغم موجة النزعة التدميرية التي تنتجها؟
*جوليا كريستيفا:إنهم يعانون من جروح نرجسية أساسية، وأعراض مزعجة، بل وأوشك بعضهم على الانزلاق نحو الذهان. يكابد جميعهم صعوبة خاصة فيما يتعلق بتجسيد مخاوف قديمة. ديديي، الذي لخصتُ علاجه في كتابي”أمراض النفس الجديدة”، يتطلع نحو خوض تحليل، مترددا في القيام به، بل ويجد صعوبة على مستوى مباشرته، قدر كون طريقته في التعبير مصطنعة، متوافق عليها، خاطئة. غير أنه صحبة لوحاته وبفضلها، أمكنه القيام بالتحليل؛لقد أظهر لي صورا عن أعماله، هكذا تغير خطابه، ثم تجلى تاريخ من المشاعر والعلاقات استطاعت الإفصاح عن نفسها وتتغير. هل لازال ممكنا بالنسبة لأرِيكة التحليل، أن تشكِّل المكان الوحيد، الذي يمنحنا القدرة على ”ملامسة”الأحزان الخاصة؟شريطة أن نأخذ بعين الاعتبار السلطة، السامة، لهذه العناصر الجديدة الفاعلة نفسيا والمتمثلة في الصور، كما حصل مع ديديي، أو أيضا الرقمي، وألعاب الفيديو، ثم مواقع التواصل الاجتماعي بالنسبة للآخرين. ألامس هذه الأعراض وأتبيَّن علاجات(الفن، الأريكة، الديني)، بحيث يلزمها أن تحظى بكل أهميتها خلال القرن 21، ولم أتوقف منذئذ عن إعادة النظر، بكيفية تركيبية أكثر ومباشرة جدا.
*صامويل دوك: واصلتم في كتابيكم”معنى ولامعنى التمرد”(1996)، وكذا”التمرد الباطني”(1997)، التساؤل حول التالي:هل لازال التمرد ممكنا وفق معنى الانكشاف حسب منحاه الاشتقاقي والبروستي(بروست)، والانقلاب، والتحول، وإعادة بناء الماضي، والذاكرة والمعنى؟فهل بوسعنا تشييد وإحياء ثقافة- متمردة، أمام ثقافة- الترفيه؟
*جوليا كريستيفا: كتبتُ نصوص”ثوراتي”تلك حسب اعتقادي خلال حقبة ركود وكذا شلل السياسيين، فترة إدوار بالادور، اتسمت إبانها”السلطة السياسية”بالضعف، جراء ترهل”ديمقراطية الرأي”، بمعنى ثان مجتمع الفرجة. تفتت زادت حدة إيقاعه نتيجة إفراط الاتصال كونيا، فصار الوضع بديهيا جدا… لقد انبثق مفهوم التمرد، كما الشأن بالنسبة لمفهوم الدناءة حين تناول سخرية سيلين:هل لازال ممكنا إبداء التمرد؟إذا كان الجواب ايجابيا، فأيّ تمرد نقصد ؟أتطلع كي أكون طرفا داخل بلد شغل خلاله التمرد نواة الديمقراطية، إبان سنة 1789، ومن خلال أنواره، سواء باعتباري مواطنة أو ذَرَّة حرة. بماذا أخبرنا فرويد؟يتعلق التمرد الأول بتمرد الابن على أبيه، أوديب؛وتأخذ وجهة أكثر تعقيدا فيما يخص الفتاة وفق طريقتين لأوديب، عملتُ على توضيحهما، تؤكد بأن:”الثنائية الجنسية النفسية أكثر تجليا لدى المرأة مقارنة مع الرجل”، هكذا استبق فرويد ذلك. تصور سمح لي بمقاربة جديدة لمسألة الاختلاف بين الجنسين على مستوى القدرات الإبداعية عامة ثم التمرد بشكل خاص.
*صامويل دوك:قاربتم تجارب جديرة بالتأمل، وليس نماذج ينبغي اتباعها، حين إعادة قراءة ثلاثة متمردين مشهورين بالنسبة للمشهد الثقافي الفرنسي:أراغون، سارتر–نفهم دواعي هذا الاختيار- غير أنكم أضفتم رولان بارت، أمر لم يكن متوقعا أبدا.
*جوليا كريستيفا:يفرض أراغون نفسه حتما قصد استحضار الثورتين الكبيرتين خلال القرن العشرين:السوريالية وكذا الشيوعية. التحدي وكذا الخداع. التمرد كفكر يتعايش في ذاته مع العقل السياسي الذي رسخ العصيان ثم يلغيه في نهاية المطاف. لقد رفض سارتر نوبل، وامتطى الحواجز. تعتبر روايته الغثيان الرواية الفلسفية المفضلة عندي، لأنها تمنح الرفض مرة أخرى موقعه المركزي في الوجود:”تتصدر الحرية الإنسانية ماهية الإنسان، تبدو ماهية الوجود الإنساني عالقة في الحرية”.
رولان بارت، غير المنتظر قط ضمن هؤلاء المتمردين؟غير أن السيميولوجي-الكاتب لايفتقد أبدا للرؤية السياسية النقدية. لقد عُوِّضت كلمة تمرد مصطلحات أخر مثل”اتخاذه وشاحا”، ”عُقْدة”، “قَطْع”، ”إعادة الصياغة”، وأحالتها إلى كتابة. سيتحدث”عن حيز المعنى، دون تسميته قط”، يشكل في الوقت نفسه”فعلا للتضامن التاريخي”. وإذا طرح العمل”أسئلة حول الحياة”، فإنه”أكثر كمالا، وشمولية من الحياة”.
*صامويل دوك:ليس بوسعي سوى أن أبدي إعجابا بمؤهلاتكم الفكرية، ومدى قدرتكم بخصوص بناء مشروع زاخر ومتنوع. ماهي أساليبكم في العمل؟وكذا مكمن السر لديكم؟
*جوليا كريستيفا: أستثمر. الاستثمار مفهوم واسع نستعمله في التحليل النفسي (تركيز الطاقة النفسية)وبالتأكيد في الاقتصاد. لقد ألهمني أستاذي، إميل بينفنست، الجذور السنسكريتية:ل(kred، strad)، صيغة لغوية تعني تركيز القوة الحيوية نحو الإلهي، في انتظار جزاء؛مثلما سيتجلى لكم من خلال الكلمة اللاتينية(credo)(عقيدة)، الاشتقاقيين التاليين:الإيمان، والائتمان المصرفي. باعتباري مثقفة، مواطنة فرنسية وأوروبية، أستثمر قدراتي الحيوية في أشياء، موضوعات وميادين تبلور رغباتي التي هزمت العوائق. لكن دون ترقب لاستحقاق، تبعا لمجانية كاملة، مادمتُ وحيدة –دون ألوهية- مع حرية الوضع البشري بخصوص استثماراتي.
*صامويل دوك:أتخيل، ورود جملة للبحث أساسية جدا قصد توثيق هذه الأعمال. يشعر القارئ حين قراءة نصوصكم بأنكم تعيشون زخم تجاور، أو ”تعايش” مثلما تقولون مع كتابات سارتر بارت وفرويد.
*جوليا كريستيفا: نعم. أنا مولعة بالمكتبات !أعشق الكتب، المسودات، الوثائق القديمة والجديدة. أحب أن أقرأ نهارا، ليلا، وكذا إبان توقف بين حصتين للعلاج النفسي السريري. أحب المكتبة الوطنية الباريسية، والمتحف البريطاني في لندن، حيث يأتيكَ موظف محمَّلا بعناوين الكتب التي طلبتها. أكثر من هذا، بوسعي التجول بين الرفوف والبحث عن الكتاب الذي يهمني. تقول إحدى مقاطع بودلير الشعرية بأن:”الأموات، الأموات الكبار، لهم انتظارات كبرى”، على ذات المنوال، الكتب، بمثابة أموات كبيرة، لها انتظارات كبيرة… راهنا لست على مايرام بخصوص المكتبة الوطنية الفرنسية، أتجمد صقيعا على ضفتي السين، وتلك الفضاءات المترامية الأطراف، وكذا السلالم الفظيعة. بالتالي، لاتغريني العودة إلى هناك. لذلك، أرسل مساعدين أو أصدقاء مهتمين بالتوثيق أكافئهم بتوجيههم نحو أبحاث مهمة. القراءة على الانترنيت تتعبني عندما أتجاوز صفحات معينة، ينساب المعنى كالماء على زجاجة نافذة، لأني أنحدر من جيل الكتاب والورق.
*صامويل دوك:ماإن يتحقق لديكم ترسّب لمختلف هذه المواد، تنكبون ليلا على إعادة توضيب مختلف ذلك.
*جوليا كريستيفا: تماما. إبان المرحلة الوسطى التي تركز على مختلف الملاحظات: خلاصات، إشارات، عبارات، فعالة تحتاج إلى إعادة الوصل ثانية. يلزمني بين حصتين، القيام ببعض المهام العائلية، التسلية، الترفيه وكذا توقفات أخرى لاتزعجني قط، غير أنه بمجرد انطلاق”مسار التداخل النصي”، فلا شيء حينئذ يمكنه الوقوف أمامي.
*صامويل دوك: عناوين المؤلفات التي استحضرناها كتبت أغلبها سنوات 1980، حقبة خصبة جدا على المستوى الفكري والإبداعي، تزامنت من جهة ثانية مع نهاية طور تلك المشاريع ثم تحول تركيز اهتمامكم صوب العلاج النفسي. اتجه تصوركم بداية وجهة التحليل النفسي للطفل، وأخيرا طفولة البالغ. أكدتم على تطور كتاباتكم خلال هذه اللحظة، مادام العلاج”يرَوِّض اللغة اليومية”، لغتكم الفرنسية الخاصة بكم. وقد استفادت من”انتفاء للحماسة” مثمر. ماذا تقصدون بهذا؟
*جوليا كريستيفا:تمثل حسب نظري، نهاية التحليل، وكذا العلاقة انتقال/ضد الانتقال، تجارب نوعية جدا ل”انتفاء الحماسة”:لايتعلق الأمر ب”اللا-استثمار”، لكن بالأحرى تنويع الاستثمارات. أنفتح على موضوعات جديدة، أشياء، روافد ثقافية، ثم مبادرات اجتماعية مختلفة؛ أنكب تماما على هذه العلاقات المتعددة. إنها تبرز مشاعر جديدة، لكنهاشفافة أكثر. لاتنهكني هذه العلاقات، مادام النزوع نحو تقويض الشغف يتحول إلى كتابة، بالكيفية التي قصدها رولان بارت، مع دلالة أكثر تدقيقا وتفاعلا أفضِّلها عن”التسامي”في التحليل النفسي. لاتختفي قط، المثيرات وكذا العنف، بل يصبحان تحت تصرف، الرنات الأذواق والألوان التي تحويها العلامات؛وكذا الأحاسيس والدلالات التي تحيط بنا. أجدني بكل ثقة خارج ذاتي؛نتيجة هذا النسج، وكذا الاستثمار في جسد الكلمات؛مما يبعث على الطمأنينة، والانسجام، والاستنارة. أفق أكثر خِفَّة، يغدو ممكنا:لاإخضاع ولاعداوة. مزيدا من التصعيد الذهاني. زخم مهيأ. تكرست بعد نهاية التحليل هذه الحركات التي يعرفها الجميع، وفق درجات مختلفة قاربتها بكيفية متباينة ضمن نصوص بروست، جورج باطاي، أو لدى المتصوفة، من الأستاذ الميستر إيكهرت ثم تيريزا الأفيلاوية. ربما ضاعت الصلة ذاتها، الواقعية و البراغماتية مع الموضوع، المؤلم أو الحميمي. لكن استثمار أثر الذاكرة لايموت أبدا. لم يمت سواء الأنا والآخر، ضمن هذا التجاور حيث كيفية كتابة ذلك.
*صامويل دوك: يُلتمس منكم غالبا تقديم مساهمات، تحظى باهتمام كبير، من طرف جمعية التحليل النفسي الباريسية. تزعجكم مختلف الصراعات الجارية بين المذاهب النفسية، وتحاولون الإبقاء على مسافة حيالها. كيف تجلت طبيعة علاقاتكم مع جمعية باريس للتحليل النفسي.
*جوليا كريستيفا:تودون العودة بي ثانية إلى الأرض ! لن أستعيد في سياقنا هذا قول بروست:”الحقيقة بمثابة نِفاية التجربة”. تعتبر جمعية باريس للتحليل النفسي أفضل جمعية للتحليل النفسي عملت على استضافتي!أسماء تكبرني سِنَّا، مثل إيلز باروند، سيرج فيديرمان، ميشيل نايرولت، ميشيل دو ميوزان، جون لوك دوني، وخاصة أندري غرين، جميع هؤلاء أبانوا عن حساسية مفرطة نحو أعمالي”غير النمطية”مثلما أشرت إلى ذلك سابقا. إنها مسألة بسيطة قياسا لما يجري بين المحلِّلين النفسانيين، وقد لايحدث دائما نفس الأمر. فقد شجعوني، وقدموا لي الدعم طيلة فترة تكويني وكذا إدماجي ضمن مراتب جمعيتنا. أما بخصوص الوضع مع أفراد جيلي، كما الشأن بالنسبة ل:ماريليا إيزنشتاين، بيرنار بروسي، بيرنار شيرفي، جيلبير دياتكين، تيري بوكانوفسكي، جاكلين شيفر، دينيس ريباز، جان لوي بالداسي، لوران دانون-بوالو، آلان غيبو، وأكتفي بهذه الأسماء، فقد تطور البحث دون دوغماطيقية، بالانتباه إلى إسهامات التحليل النفسي الانجليزي، الأمريكي، وكذا اللاتيني-الأمريكي. هكذا، درسنا، وناقشنا، وعرضنا نصوص ميلاني كلاين، دونالد وينيكوت، ويلفريد بيون، ثم جاك لاكان. يتمثل الأمر الذي أثارني، في انفتاح حركة التحليل النفسي على بلدان جديدة، تنتمي إلى شرق أوروبا، وروسيا ثم الصين. باعتباري واحدة من القلائل الذين يتكلمون الروسية في باريس، بعد اختفاء الروس البيض، أستثمر–حضور نفس الكلمة مرة أخرى !- كثيرا، هذا الامتياز بخصوص الإشراف على تحليلات زملاء روسيين، قدموا إلى باريس قصد الحصول على تكوينات مكثفة.
* صامويل دوك:يحترم الأطباء الإكلينيكيون الشباب، انفتاحكم على العلوم الإنسانية والاجتماعية. بفضلكم، ولج مهتمون غير متوقعين غرفة التحليل النفسي. تتحدثون عن المجتمع، والحضارة، والسياسة، وأوروبا…بالنسبة لشخص من جيلي، تقويض حاجز من هذا القبيل نحو التحليل النفسي، سيمثل شرطا أوليا فيما يتعلق بالانتماء إلى هذا المجال.
*جوليا كريستيفا: كيف بوسع الأمر أن يكون على غير هدى ذلك؟لقد فرضت العولمة تغيرا على مستوى فضاءاتنا النفسية، غالبا بقسوة، وبكيفية مبالغ فيه، مما أحدث انفجارات هوياتية، ثم أمراض روحية جديدة تحدثنا عنها ونعيد التذكير بها. كُنّا خلال سنوات 1960، عند بواكير هذا التفعيل:بلغارية صحبة فيليب سوليرز في سان جيرمان، وكذا جزيرة ري Ré، الصين، توزُّع حياتي بين باريس ونيويورك. لم أذهب”عند الآخرين”كي أجعلهم يلجون عوالم التحليل النفسي:فأنا هؤلاء الآخرين. يعتبر أغلب الخاضعين لعلاجي النفسي، أجنبيين أو ينحدرون من أصل أجنبي، أو يشعرون بكونهم ”أجانب عن ذواتهم”وكذا فرنسا. أيضا، لاأطرح نفسي كنموذج يحتذي، بل وأهمل مسؤوليات إدارية تهم الاتصالات، يحق لجمعية التحليل النفسي أن تطلبها مني، غير أنها مسألة لاتتكرر باستمرار !في المقابل، يستند البعض على مضامين محاضراتي حول”التأويل في التحليل النفسي”تساعدني إلينا ميلونا في تنظيمها، بينما يفعل البعض الآخر ذلك بشكل أقل. أفضِّل”التداول”وأنا أستمع وأتناقش مع المشاركين، الذين أتوا أساسا بهدف الإنصات إلى خطابي، ثم أشرح ممارستي للتأويل من خلال تعليقي على خطابهم. تواضع؟ليس بالضبط. ربما، هي أفضل طريقة للتحليل. نضيف قراءة نصوص أساسية يرتكز عليها البحث الإكلينيكي:حتما، أساسية، تلاشى راهنا الشغف بها. لكنه ربما يعود، يبعثه النقاش الذي أخوضه حاليا.
*صامويل دوك: تكرسون العلاقة من خلال بثكم لحمولتكم المعرفية ووفائكم لفكركم المشرئب نحو فتح ذهن الآخرين على أصالتهم الذاتية. أيّ دور بوسع التحليل النفسي القيام به تبعا لسياق العولمة ؟ترى بعض البلدان في شخصيتكم حظا بالنسبة للتخصص.
* جوليا كريستيفا: أريد من هؤلاء المختصين الشباب في التحليل النفسي التفكير من خلال أنفسهم أو أنفسهن. ليس فقط أن لاشخص يقرأ، غير صحيح، أو تقريبا، لكن تضاعف مستوى الإحجام عن التحليل النفسي. طبعا، حقيقة ظلت ماثلة، بيد أنه يلزم العثور على وسائل جديدة قصد مواجهة ذلك. حينما تطلع أندريه غرين نحو الترشح إلى كوليج دوفرانس، أجابه ميشيل فوكو:”نعم، عزيزي، ولماذا ليس بمختص في الفلك، وكذا التنجيم”. حينها، أدرك غرين، بأنه خسر إمكانية نجاحه. حينما يقال لي بأنها حالة لاتنطبق علي، مادمتُ”لست فقط معالجة نفسانية”. طيب !فهل أعرف أنا، طبيعة وضعيتي ؟أنا خارج ذاتي (قهقهات).
*صامويل دوك: كلِّيّا.
*جوليا كريستيفا: لقد عثرتم على الكلمة !لكن وفق معنى تيريزا الأفيلاوية: ”كل شيء أو لاشيء”.
*صامويل دوك: فضلا عن ذلك، التزمتم جدا بخصوص إدراج فرويد ضمن ذاكرة العالم في اليونسكو.
*جوليا كريستيفا: إنها مبادرة من طرف مجلة”passages ”، تحديدا مديرها إميل ماليت وكذا المختص النفساني شارل ميلمان. مشروع طويل الأمد، يقتضي إخبار وكذا تعبئة الرأي العام الدولي بخصوص أهمية فكر فرويد بخصوص تشنجات الهويات، تصادم الديانات، ضعف الأنظمة التربوية، ثم تفتيش المالي للسياسي. لقد بدأنا بسلسلة لقاءات نظمت في باريس، نيويورك، إسرائيل، تونس… حاليا، يبقى إقناع اليونسكو.
*صامويل دوك:ما أطلقتم عليه وصف الدناءة أثار كثيرا من الفنانين المعاصرين لاسيما في الولايات المتحدة الأمريكية، لكن أيضا وأكثر فأكثر أطباء نفسانيين منشغلين بالعلاقات المبكرة أمّ/طفل وكذا حالات اضطرابات الشخصية الضمنية فيما يتعلق باندلاع الأفعال العنيفة الخاصة وكذا الجماعية. بالنسبة إلي، يتردد صدى هذه الكلمة مع سديم عالم مفرط في الحداثة، الفظاعات السياسية والأخلاقية التي اندلعت في كل مكان وعجز الحاكمين أمامها نظرا لعجز تفكيرهم بخصوص”جذور الكائنات”، مثلما تقولون. يندرج تأملكم في ضجر المعاصرين ضمن اقتفاء أثر الانزعاج داخل الحضارة. قياسا للأهمية التي أضفاها فرويد على إيتيقا المجتمع، فقد طرح مقابل ذلك ترسُّخ الثاناتوس واشتغاله في النفسية البشرية. فماذا بوسع التحليل النفسي القيام به اليوم؟
*جوليا كريستيفا: لاتوجد سياسة للتحليل النفسي. خلال الألفية الثالثة، نحن المحللون النفسانيون، بمثابة حُرَّاس الليل على الفضاء النفسي، تكمن مسؤوليتنا في اكتشاف منطقه، ودعم تحولاته ثم تلافي كوارثه أو العناية بها. أيضا، يقع على عاتقنا واجب أن نجعل مشتركا هذا البحث، وننتقل به صوب الفضاء العام الذي اكتسحه الفرجوي والرقمي. يلزمنا تطوير المصاحبة المُشَخْصنة:كل تحليل بمثابة شعرية. لن أتردد في سبيل تكرار ذلك. تجربة التحويل والتحويل المضاد، التأويل، ثم النظرية التي تتأسس حولها، فيما يتعلق بالحميمي، وتكمن مهمتنا الأولى في العثور ثانية على ذلك وإعادة خلقه. دون الوقوع في الابتذال الذي يفزع الكثيرين مما يرغمهم على الانغلاق داخل انعزال يتطلع من خلاله نحو الصفاء، وجب تجديد وكذا اقتراح مقاربات جديدة لانحرافات الحضارة فيما يتعلق ب: المدرسة، مستشفيات الطب النفسي، صحبة الأسر، داخل المقاولات، التفاعل مع الميديا وكذا وسائل الإعلام ثم قنوات التواصل الاجتماعية، حينما تسمح لنا ظروفنا وأوضاعنا الشخصية.
( يتبع )
*مصدر الحوار:
جوليا كريستيفا: حوارات مع صامويل دوك؛ فايار 2016، ص(182- 189).