” خرجنا ذات ليلة من بيت احدى المخبولات/ ثلاثة مخمورين يذرعون الظلام/ استوقفنا الشاحنات وفحصنا رخص سائقيها/ وبينما يغادرون بسلامة أوراقهم/ انفجرت ضحكاتنا خلف عجلاتهم الكبيرة” .
وتمثل قصيدة الطحان التي هي من أفضل قصائد الديوان نموذجا لطريقة كتابة اللحظات القصوى، فلحظة القصيدة من القوة بحيث تدفعك إلى تأملها في ذاتها وإلى أن تترك سياقات عديدة تتداعى داخلك، ولا تتسرع في حصرها في دلالة بعينها ويظل المشهد بمفرداته البصرية ماثلا أمام عينيك متجاوزا أي تعليق أو تفسير وإن أضمرت نبرة القصيدة سخرية حادة من صمت يظن أن كل شيء يسير على منواله
” بينما يهجع المخبز الافرنجي بين ورديتين/ وتنام النار في بيتها قليلا/ دفق بوله أصفر ساخنا/ في جوال الدقيق المنخول ”
وتشكل المسافة بين الواقعة وذكراها هاجسا أساسيا في كتابة تلك القصائد سواء كانت مسافة على مستوى الزمن أو الرؤية. فقصيدة جولة ليلية مشغولة برصد التغيرات أو التبدلات التي حدثت للمكان او للأشخاص، والتذكر ليس إلا محاولة لمعاينة تلك التغيرات واكتمال الدوائر ” ثمة مطعم بزاوية شارع/ واجهاته الزجاجية التي غبشها البخار تعرض طعاما شهيا رخيص الثمن/ يبدو قريبا .. هناك عند المنحنى/ ستؤجل تناول عشائك به ليلة بعد الأخرى/لتنساق خلف ضرورات السهر والتعب/ ويوم تقرر/ تكون يد شيطانية قد رفعت المكان كله/ بضربة/ من خارطة الوجود”.وهذه التغيرات المكانية في قصيدة ” من علم العمران ” أدت إلى ارتفاع الكوبري أمام نوافذ الراهبات العالية وأتاحت إلى المتسكعين أن ” يتلصصوا على العري المقدس ” وتلك المفارقة التي انبنت عليها هذه القصيدة تماثلها قصيدة ” الساحرة الشقراء” التي يختلس العساكر في أبراجهم النظر إلى غرفتها.
المفارقات المكانية تكشف عن علاقات إنسانية يخلقها المكان، ويجمع بين أفراد سمحت التغيرات والتجاورات المكانية فقط في الجمع بينهم وأن يكونوا فوق نفس المسرح، فالمكان هنا ليس بغرابة معالمه واحتشاده بتاريخ معروف لكن بقدرته أن يكون هو الصانع الحقيقي لتجارب إنسانية وأن تصبح معالمه وأشياؤه هي اللغة المتبادلة بين أطراف هذه التجارب.
وفي قصيدة لحن جديد يصير المسرح الذي تقف فوقه أم كلثوم مكانا لرصد علامات مرور الزمن، فتأمل دلالة أماكن العازفين خلفها وموضع كل منهم يشكل جزءا من اللحن الذي تهيمن عليه القادرة، ومكان العازف يصير مرآة لوجوده وعنوانا يدل عليه:
” الأستاذ العجوز محني على عوده/مجرد عازف خلفها/عازف لموسيقى غيره من أبناء درسه/ تجاوزه الزمن، يعرف/ ولا يهتم كثيرا/ فقط يترك نفسه لينساب فوق هذه الموسيقى… يقف باب الفردوس/ ليرى قطوف العسل دانية/ فتنفتح تحت قدميه هوة من جحيم “
وفي هذه القصيدة نتذكر الصفات التي أطلقها الشاعر على نفسه في قصيدة جولة ليلية ” متفرج وناشط بالكواليس ” وهما الصفتان اللتان تشكلان إيقاع هذا الديوان فبقدر ما يرصد ويتفرج على الحدث المتاح والذي تتكرر رؤيته ويبدو كسرٍ معروف للجميع يحاول في نفس الوقت أن يمد هذا الحدث الى كواليس تشمل ” القطر بأكمله ” وما طرأ عليه من تغيرات غير معلنة لكن مؤثرة فيمن يحبسون أنفاسهم ” لتهدر القادرة/ جددت حبك ليه”.