كان فيدال رجلا مدهشا حقا، تنوعت حروفه حتى أصبح من أشهر الكتاب الأمريكان في العصر الحديث، وقد برزت موهبته الكتابية بعد خدمته في الحرب العالمية الثانية، فعاش على قلمه متناولا كتابة العديد من المسرحيات المنتجة للتلفزيون ومسارح برودواي، أشهرها مسرحية: “أفضل الرجال”. انتقل بعدها الى السينما حيث قدم سيناريوهات لأفلام معروفة كفيلم: “بن هور” الشهير عام 1959، والذي قام ببطولته تشارلتون هيستون، كما أتحف المكتبة الأمريكية بروائع رواياته مثل: “بور” و ميريا بريكنفريدج”، وفاز باستحسان النقاد والباحثين والقراء العاديين عن رواياته التاريخية مثل: “جوليان” و “لنكولن”. وقد وصفه الناقد الإنكليزي المعروف جونثان كيتس بأنه من أفضل كتاب المقالات في القرن العشرين، التي كان يتناول فيها فيدال الفن والسياسة والدين والجنس، ما أهلته كتاباته تلك لنيل الجائزة الوطنية للكتاب عام 1993، كما كانت تستضيفه قنوات عديدة للتلفزيون أظهر خلالها مواقف شجاعة ضد ما أسماه: بالعنجهية الأمريكية تجاه الشعوب الضعيفة، وكثيرا ما انتقد جورج بوش الابن خلالها.
ولد فيدال في 3 أكتوبر / تشرين الأول 1925 في ويست بوينت في نيويورك، حيث كان والده يوجين فيدال يعمل في الأكاديمية العسكرية لتعليم الطيران، أما والدته نينا فكانت ابنة لأحد الوجوه الاجتماعية المعروفة في أوكلاهوما، حمل كاتبنا الاسم الأول لجده غور والثاني لجده من أبيه، مع أن والده كان يكره أن يحمل ابنه الاسم الأول بسبب عداءه لوالدته، التي توقفت عن رؤية فيدال لها خلال السنوات ال 25 الأخيرة من حياتها، مما عزز من تمسكه بحب والده كثيرا.
قضى الشاب فيدال الكثير من طفولته في واشنطن، وجرى ضمه الى جده الذي كان عضو في مجلس الشيوخ بعد طلاق والدته من أبيه، ما سمح له بالتعلم وقضاء ساعات طويلة بالقراءة، نهل خلالها من مكتبة جده العامرة بمئات الكتب على اختلاف صنوفها، فقرأ أثناء ذلك لفرانك باوم ومغامرات طرزان لأدغار رايس بوروز التي شغف بها. وانتقل بعدها لقراءة الكتب التاريخية خاصة عن التاريخ الأمريكي خلال القرن التاسع عشر، والتي قال عنها: (أردت أن أعرف كل تاريخ العالم بأسره)، ومع دخوله سن المراهقة أرسل الى مدرسة داخلية في فيليبس اكستر بنيوهامبشاير تخرج منها عام 1934، وبدلا من الذهاب الى جامعة هارفارد لإكمال دراسته، ذهب الى الجبهة ليشارك في الحرب العالمية الثانية ولما يزل في الثامنة عشر من العمر، ليخدم على ظهر إحدى سفن الإمداد الحربية الصغيرة التي أوحت له كتابة أولى رواياته عام 1946، والتي حازت على الإعجاب خاصة من بعض النقاد الذين اعتبروها جزءا لا يتجزأ من أدب الحرب آنذاك.
بعد أن تم تسريحه من الجيش استقر في نيويورك وليتفرغ لكتاباته، التي قربته من كاتب اليوميات المعروف أنيس نين صديق الكاتب المسرحي الشهير تينيسي وليامز، نين أصبح من أقرب الأصدقاء الى نفسه والذي كان يطلعه على كتاباته دائما، ومنها روايته: “عمود في المدينة” التي صدرت عام 1948، ومع أنها عمل ينظر إليه باعتباره عملا رائدا في الأدب المثلي الجنسي والذي لم يرق للكثير من النقاد، إلا أن العديد من الصحف الصادرة آنذاك، كنيويورك تايمز ومجلة تايم ونيوزويك أشادوا بها وبمؤلفها، ونتيجة لذلك كتب فيدال لاحقا: (أنه منذ ذلك الوقت وأنا ألتقط بعناية درر التاريخ الأمريكي لأصوغ منها قلائد فريدة وبرؤية جديدة، بعد ان لم تكن هناك دراسات أكاديمية رصينة تعنى به منذ ما يقرب من خمسمائة عام)، ولم يكتف فيدال بكتابة الرواية فقد حاول التوسع في رزقه من خلال كتابة المسلسلات التلفزيونية والمسرحيات، فقدم مسرحية: “المسيح” عام 1954، اضافة الى ما كان يقدمه من أعمال للسينما كسب خلالها أصدقاء جدد من الفنانين والفنانات، أمثال جوان وودوارد وبول نيومان اللذان أصبحا من أقرب أصدقائه، وخلال تلك الفترة توسعت دائرة معارفه لتشمل ضباطا كبارا، واقترب كثيرا من جون كينيدي والأميرة البريطانية آنذاك مارغريت، وعلى الرغم من تمتعه بكل تلك المكانة الاجتماعية لكنه ظل يعمل بجد في برودواي، منتقدا في مسرحياته مجتمعه كما في مسرحية: “زيارة لكوكب صغير” التي قدمها عام 1957، أما مساهماته الجدية في السينما باعتباره كاتب سيناريو، فقد قدم عام 1950 “بندقية الأعسر” مع بول نيومان وبيلي ذاكيد، و”بن هور” تلك الملحمة التاريخية الشهيرة، ثم مع تينيسي وليامز في “فجأة في الصيف الماضي” مع اليزابث تايلور ومونتغمري كليفت في السنوات الأخيرة من حياته، وفي فيلم “الفجر” عام 1972 تخلى عن كتابة السيناريو لينضم الى طاقم تمثيله الذي تولى اخراجه فيديريكو فيلليني، مع أنه كان مترددا في خوض تلك التجربة لكن وسامته هي التي رشحته لذلك.
بعد عشر سنوات من كتابته المتواصلة للمسرح وسيناريوهات الأفلام، التي حقق خلالها نجاحات كبيرة وهو لما يزل يعيش عقوده الأربعة، نراه في عقوده الثلاثة المقبلة يقضي جزءا كبيرا من حياته في ايطاليا، زائرا لكبريات مكتباتها في روما بحثا عن الامبراطور جوليان الذي توجه بكتابة رواية تاريخية ضخمة عنه، تربعت على أعلى المبيعات في قائمة الكتب آنذاك، استأنف بعدها مسيرته في كتابة الرواية لكنه لم يتخل عن كتابته لمقالاته اللاذعة، التي وجه من خلالها انتقادات شديدة لمجتمعه الأمريكي ولشخصيات شهيرة فيه، حتى طالت تلك الانتقادات بعض المفكرين الأمريكان من أصل يهودي، الذين وصفهم بأنهم عبارة عن طابور خامس لاسرائيل، وفي عام 1968 قاد حملة كبيرة على ما وصفها بحرية التعبير الناقصة في بلاده، انتهى فيها بتبادل الشتائم مع عدد من النقاد، ومنهم وليام باكلي الذي وصفه بالمريض، بعدها قام بشن هجوم عنيف وساخر على الكثير من خصومه من المثقفين، الذين كانوا يشككون بمقدرته الابداعية، منهم: كابوتي ترومان وجون أبدايك وجون بارث وغاس وليام وتوماس بينشون، جمع كل ذلك في مجلد ضخم احتوى على الكثير من مقالاته أسماه: “الولايات المتحدة” الذي تضمن كتاباته في الفن والسياسة والخواطر الذاتية، حاز بسببه على جائزة الكتاب الوطنية عام 1993، وعلى الرغم من نجاحاته تلك في المجالات الثقافية والفكرية إلا أنه فشل في محاولاته العديدة للحصول على منصب سياسي، منها ركضه مرتين دون جدوى في الانتخابات والحملات الانتخابية للكونغرس عام 1960، عندما كان يعيش في إيدجووتر ومن ثم حملته لمجلس الشيوخ عام 1982 كان يقيم حينها في كاليفورنيا، السياسة لم تكن في دمه منذ الطفولة كما يقول ويعلم لعبتها منذ فرانكلين روزفلت الى جون كينيدي وجيمي كارتر وآل غور وأقاربه البعيدين الذين عملوا في السياسة.
في السنوات الأخيرة من حياته، بدا فيدال أكثر عنفا في قناعاته السياسية والتحدث علنا ضد الامبريالية الأمريكية، حتى مع هجمات 11 سبتمبر 2001، لام فيها حكام بلاده بالتسبب فيها، وأدان غزو العراق ومحاولات الولايات المتحدة بالسيطرة على العالم، ومن أحاديثه الطريفة أن شجرة عائلته تتحدر من بترونيوس، جوفينال، أبوليوس ثم شكسبير حتى بروست، ولذلك تراه يقسو من وقته على كل ما هو بربري.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جور فيدال
(ولد 3 أكتوبر 1925 – توفي 31 يوليو، 2012)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مايكل ديردا
الناقد الأدبي لصحيفة: واشنطن بوست
نقلاعن: واشنطن بوست
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ