حوار: ناندا دايساو/ لوس آنجلس رفيو أوف بوكس
ترجمة: أحمد شافعي
جوجي وا تيونجو كاتب كيني عالمي الشهرة، وهو أيضا باحث وناشط اجتماعي. تتضمن أعماله المتعددة روايات وقصصا قصيرة ومسرحيات وأبحاثا ومقالات وقصائد ترجمت إلى أكثر من ستين لغة. هو أستاذ مرموق للأدب المقارن في جامعة يو سي إرفين. حصل على العديد من الجوائز علاوة على 11 دكتوراه فخرية. يطلق جوجي على نفسه وصف «المقاتل من أجل اللغة» بسبب نضاله من أجل الاعتراف بلغته الأم المعروفة بالجيكووايو وغيرها من اللغات المهمشة. وقد وافق مشكورا على إجراء هذا الحوار بمناسبة حصوله على تكريم آخر يتمثل هذه المرة في جائزة الإنجاز الإبداعي السنوية المقدمة من مجلة لوس أنجلوس بوك رفيو وUCR والتي تمنح هذا العام للمرة الثانية.
•هل خطر لك قط في سنوات نشأتك أنك قد تصبح كاتبا ذا شهرة عالمية وأن قصصك التي تكتبها عن كينيا سوف تترجم إلى ستين لغة مختلفة؟
ـ لا، مطلقا، لم يخطر لي حتى أنني قد أصبح كاتبا. كان الكفاح من أجل ضمان اقتناص فرص التعليم التي تسنح للمرء كافيا ليشغلني. كان التنافس ضاريا على الأماكن المتاحة في المدارس والكليات القليلة. منذ المرحلة الابتدائية وحتى المرحلة الجامعية كان هناك امتحان مفصلي كل سنتين. ولم تكن تتاح الفرصة الثانية إلا نادرا. فلا يكاد أحد يغادر القطار، لأي سبب مهما يكن، حتى تنعدم فرصه تقريبا في ركوبه مرة أخرى. ولكنني كنت دائما أريد أن أقرأ. ومثلما حكيت في سيرتي بيت المترجم، فقد طمحت يوم دخلت مكتبة للمرة الأولى في حياتي إلى أن أقرأ كل كتب العالم. وسرعان ما كبح الواقع أجنحة ذلك الطموح، ولكن الرغبة بقيت على حالها.
* ما الذي تعتبره دورك في الوسط الكتابي في هذه المرحلة من حياتك؟
ـ لقد أصبحت محاربا باللغة. أريد أن أنضم إلى كل المقاتلين في شتى أرجاء العالم من أجل اللغات المهمشة. فما من لغة هامشيةٌ بالنسبة للمجتمع الذي خلقها. اللغات كالأدوات الموسيقية، فلا ينبغي أن يقول أحد بالاكتفاء بقليل من الآلات العالمية، أو بالاكتفاء بصوت واحد يغني به كل المغنين.
* عرفت النجاح في النشر مبكرا. مسرحيتك الأولى «الناسك الأسود» أنتجت سنة 1962 ونشرت سنة 1963. وكتبت روايتيك الأوليين «النهر الفاصل» (1965) و«لا تبك يا ولدي» (1964) فحققتا نجاحا نقديا وأنت بعد في سنتك الجامعية الثانية. هل تخوفت قط من أنك قد تعجز عن تكرار نجاحك المبكر في العشرينيات من عمرك؟
ـ في الواقع، ولسنوات كثيرة، فكرت في روايتي الأوليين باعتبارهما تدريبا. فبرغم الروايتين والمسرحية التي ذكرتها، وكذلك ثماني قصص قصيرة أو نحو ذلك، وأكثر من ستين عملا صحفيا، كان يصعب عليَّ أن أقول إنني كاتب. كنت أرى أنني لم أكتب بعد الرواية التي أردت أن أكتبها لأنال الحق في القول بأنني كاتب. كانت «حبة قمح» (1967) و«بتلات الدم» (1975) محاولتين لكتابة رواية. لكن بحلول الوقت الذي أنهيت فيه ذينك العملين، كنت قد غيرت موقفي من اللغة الإنجليزية بوصفها لغتي الإبداعية الأساسية وتبنيت لغة الجيكووايو. ولكن حتى مع الكتابة بلغة الجيكووايو، أحاول كتابة الرواية التي كافحت من أجل كتابتها ولم أكتبها. الشيطان على الصليب (1980) وساحر الغراب (2006) كانتا نتيجة لالتزامي الجديد. الآن بت أدرك أنه ليس في الكتابة ما يعرف بلحظة الوصول، أو أن لحظة الوصول هي بالأحرى بداية مرحلة جديدة في الرحلة. التحدي مستمر.
* مسرحيتك الأولى «جرح القلب» منعت من الإنتاج لذكرها اغتصاب ضابط بريطاني زوجة جندي في جيش ماو ماو. كافحت كثيرا للتعايش مع هذه الرقابة السياسية، مثلما يتبين من سيرتك «ميلاد ناسج الأحلام: صحوة كاتب» (2016)
ـ تلك كانت الكذبة الكبرى لتبرير حظر المسرحية من العرض في مسرح كمبالا الوطني، وهي التي جعلتني أتوقف للتفكير في الأعمال الوحشية التي اقترفتها الدولة الكولونيالية البريطانية في حق الكينيين. من أكاذيب أي دولة استعمارية أن حكمها أرقّ وأرفق من حكم الدول الاستعمارية المنافسة. كان ذلك هو المنطق: حكمهم أسوأ من حكمنا، حكمنا إذن أفضل، والأفضل درجة عليا من الجيد، وإذن حكمنا جيد. كانت لحظة مهمة في حياتي لأنها حفزتني ـ بطريقة غريبة ـ على الكتابة. ولذلك استهللت السيرة بهذه الواقعة. ولكنني أرجع النظر فأرى أنها استشرفت ما هو تال في سنواتي التالية، وبسبب المسرح دائما، من قبيل اعتقالي في سجن فائق التأمين في كينيا بين 1977 و107.
• تحقق كثير من نجاحك خارج كينيا، وأنت منفي من أرضك لأكثر من ثلاثة عقود. هل حدث أن انحسر إحساس الاغتراب النابع من واقعك هذا؟
ـ لا، ليس تماما، لكنني أحاول مواجهة ذلك بمعرفة أن المنفى ترك في التاريخ تأثيرات غريبة وفاتنة أيضا. ولنتذكر موسى ويسوع في مصر، ومحمدا وأتباعه إذ لاذوا بالحبشة المسيحية، وماركس في فرنسا ولندن. تجربة المنفى أثمرت أفكارا كان لها تأثيرها لاحقا على الوطن. أعتقد أن ذلك ما كان يرمي إليه الكاتب الأفروكاريبي جورج لامينج بعنوانه الشهير ملذات المنفى (1960). كما أنني استحدثت نظرة أطلق عليها «الخيال الجلوبالكتيكالي» في كتابي الجلوبالكتيكا: نظرية المعرفة وسياساتها (2012). هي في الحقيقة توسعة لرؤية بليك للعالم في حبة رمل، الأبدية في ساعة. ثمة ترابط بيننا.
* هل ابتعادك فيزيقيا عن كينيا مشكلة لك، أم أن كل ما تحتاجه للكتابة حي في ذكرياتك؟ ما الصعوبات الخاصة التي شهدتها وأنت تكتب من على البعد؟
ـ كينيا دائما في عقلي. أفتقد الحياة اليومية الكينية. لغة جيكووايو شائعة غالبا في كينيا. هي واحدة من لغات أفريقية عديدة. فسيفساء لغات، تلك هي كينيا. لكن بما أنني أكتب الآن بالجيكووايو في المقام الأول، أود لو أكون جزءا من الأفق اللغوي الذي يشهد تغيرها.
* لا أعرف إن كنت قلقت يوما من أن لا تحظى بقراءة كافية لكتابتك عن أمة وعصر من التاريخ لم يسمع أغلب الناس به أو يقرأون عنه. هل شغلتك العالمية يوما ما؟
ـ أعتقد أن العالمية ابنة الخصوصية. ولنتذكر هنا حبة الرمل. حبة الرمل التي تحتوي العالم. على الكاتب أن يخلص لتلك الحبة فيبصر العالم.
* هل تعتقد أن بوسع الجمهور الغربي أن يفهم كتبك تمام الفهم؟ هل في كتبك أجزاء تشعر أن جمهورا معينا ـ من الكينيين بالخصوص ـ هو الذي سوف يفهمها؟
ـ لا أعتقد أن هناك عملا لا يمكن أن يفهمه غير مجتمع معين. فإن وجد فهو فن رديء. ولكن كل قارئ يدخل العمل الفني برؤية للعالم شكلتها تجاربه في التاريخ. فمثلا، بوسع النقاد الذي عرفوا الكولنيالية أن يروا فجوات في أعمال المراكز الإمبريالية، بل ويروا ما تصمت عنه.
* في عام 1977، بعد إنتاج مسرحيتك المثيرة للجدل «سأتزوج حينما أريد»، قبض عليك واعتقلت سنة بدون محاكمة. السبب الجوهري لحبسك هو استعمالك فنونا أدائية ولغتك المحلية تمكينا لأهلك. في ذلك الوقت فكرتَ في المعاني الضمنية للكتابة باللغة الإنجليزية، وآنذاك اتخذت قرارك أن تكتب بلغتك الأم، لغة الجيكووايو. وذاع أنك كتبت «الشيطان على الصليب» على ورق المرحاض في سجن كاميتي فائق التأمين. ومنذ ذلك الحين وأنت في صدارة من يشجعون الكتاب الأفارقة على استعمال لغاتهم الأصلية. كيف يمضي هذا النضال وما شعورك حين ترجع النظر إلى بداية رحلتك مع الجيكووايو؟
ـ النضال مستمر. نحن بحاجة إلى ثالوث الدولة والناشر والكاتب لخلق المساحة اللازمة للغات الأفريقية. والدولة إلى الآن غائبة. فسياساتها المتبعة تدلل اللغات الأوربية وتكبت اللغات الأفريقية. وفي بعض الأحيان تنشط الدولة ما بعد الكولونيالية في معاداة اللغات الأفريقية.
*حينما رجعت إلى كينيا، تعرضت لهجوم قاس أنت وزوجتك جيري وا جوجي. هل زعزع ذلك إيمانك ببلدك أو أبناء بلدك؟ هل تعتقد أن بوسعك الرجوع بصفة دائمة، أو هل ترغب في ذلك؟
ـ كان ذلك متوقعا. في عام 1977، كما سبق وتكلمنا في ذلك، اعتقلت في سجن فائق التأمين بعيد حظر أول مسرحية حديثة بلغة الجيكووايو (شارك في كتابتها جوجي وا ميري ومثَّلها المزارعون والعمال من كاميريثو). في عام 1982، قبل أسبوعين من نشر روايتي Caitaani Mũtharabainĩ المكتوبة بلغة الجيكووايو، تعرض ناشري الكيني هنري تشاكافا للهجوم أمام منزله في نيروبي. وبتر أحد أصابعه بمنجل، فلزمت إعادة تركيبه. وقع الهجوم بعد أسابيع من مكالمات تهديد من مجهولين. في عام 1987، أصدر الديكتاتور مواي أمر اعتقال لبطل روايتي الثانية المكتوبة بالجيكووايو وهي رواية Matigari. في 2003، وقبل أحد عشر يوما من نشر روايتي الثالثة بالجيكووايو وهي رواية Mũrogi wa Kagogo قام ثلاثة مسلحين بمهاجمتي وزوجتي. لكن كينيا هي الشعب. والشعب الكيني يدعمني. لا يمكن أن أيأس من الشعب الكيني، لذلك أرجع ثم أرجع، وأكتب ثم أكتب عن كينيا وشعبها العظيم. وبكلامي مع الشعب الكيني أكلم العالم.
* برغم ذلك كله، لم ترتدع وواصلت الكتابة، لماذا وكيف؟
ـ أنا مدفوع إلى الكتابة. الكتَّاب جزء من التراث النبوي. في قصيدة «صيد الكلمات برفقة أبي» لابني موكوما وا جوجي ـ وهو نفسه كاتب وأستاذ للإنجليزية في كورنيل ـ هناك شخصية تقول إن الصيد بالكلمات شديد الخطورة. انظر إلى جميع الأنبياء الذين لاقوا السجن والنفي بل والقتل نفسه. لم يكن لديهم غير الكلمة. أكتب لأنني أعيش.
* في «ميلاد ناسج الأحلام» أشرت إلى تراثك التاريخي وذكرياتك بقولك إن «صور الأعمال الوحشية العديدة التي اقترفها نظام الحكم الاستيطاني الأبيض في كينيا تتبارى بداخلي». وقلت إنك كنت ضحية محاولات اغتيال، واعتقال، وقمع وإدراج على القوائم السوداء. هل ذكرى كل العنف الذي رأيته ومررت به غيَّرت طريقتك في الكتابة؟
ـ ذكريات العنف الكولونيالي لا تزال مستولية عليَّ. وكذلك العنف الذي مورس على أسرتي. حينما أرى المذابح في الشرق الأوسط، أو عنف الشرطة العبثي مع السود في شوارع الولايات المتحدة، تعاودني تلك الصور. فأزداد جدية في العمل. أريد أن ارى عالما بلا سجون أو معتقلات. أريد أن أرى عالما بلا تشرد أو جوع. أريد أن أرى نهاية للمنطق الذي تقوم عليه التنمية الحديثة الذي من أجل أن يكون فيه واحد، لا بد أن لا يكون آخر. أريد أن أشهد نهاية لمنطق أنه لكي يوجد ألف مليونير أو بليونير، لا بد أن يوجد بليون فقير. علينا أن ننهي هذا العته في التفكير الذي يقيس التنمية في بلد بقدر ما فيها من بليونيرات. ماذا عن البليون فقير الذي تسبب فيها البليونيرات؟
* هل ثمة شيء يعجزك الألم عن كتابته؟
ـ نحن نكتب عن الألم لنساعد في التعايش مع الألم ـ لنساعد في القضاء عليه، في ما نرجو. نريد أن نساعد البشر على الكفاح لمداواة جراح الإنسان. مرة تساءل بريخت «في أوقات الشدة / هل يكون غناء أيضا؟/ نعم، يكون غناء / عن أوقات الشدة»؟ هذه القصيدة مفتتح سيرتي أحلام في زمن الحرب (2010).
* ما الذي تعتبره أعظم إنجازاتك على الصعيد المهني حتى الآن؟ ما العمل الذي تفخر به من أعمالك أكثر مما عداه؟
ـ لكل نص ذكرياته معي. ولهذا السبب كلها مفضلة عندي بالقدر نفسه. لو اخترت الشيطان على الصليب، فذلك للظروف التي كتبتها فيها. كانت أيضا أولى رواياتي بلغة الجيكووايو، وهو ما يجعلها أول رواية حديثة بهذه اللغة. يسعدني أيضا أن رواية أخرى بالجيكووايو هي ساحر الغراب قد كتبت في سنوات المنفى، وفازت بوسام كاليفورنيا الذهبي سنة 2006 الذي فاز به جون شتاينبك يوما ما. وكثيرا ما أمزح قائلا إن ساحر الغراب هي الرواية الوحيدة التي كتبت على مدار التاريخ بين برتقالتين، فقد بدأتها في مدينة أورانج [برتقالة] في نيو جيرسي وأكملتها في مقاطعة أورانج بكاليفورنيا.
* كيف تحكم على نجاح كتاب من كتبك؟
ـ هذا أمر صعب. لكنني أستشعر فرحة خاصة حين يخبرني قارئ من أي مكان في العالم بأن نصا معينا ترك أثرا في حياته. مرة قابلت ناشطا سياسيا هنديا في حيدر أباد فشكرني على الشيطان على الصليب. كان يخطط للانتحار، ثم تصادف أن دخل متجر كتب، واشترى كتابي وقرأه، فوجد هدفا جديدا. في لحظات كتلك، يترقرق الدمع في عيني، إذ أدرك أن ما بذلته من جهد في إبداع العمل لم يكن سدى. أفرح حينما يقول لي قرائي إن ساحر الغراب أضحكتهم. في حفل استقبال بجامعة ديوك قابلت أستاذين تأثر اختيارهما لمهنتيهما ـ كأستاذ للقانون وأستاذ للأدب ـ بمصادفتهما شخصة المحامي التقدمي في بتلات الدم. كان أستاذ الأدب في الأصل مهتما بالقانون فلما رأى ما يمكن أن تفعله رواية تحول إلى الأدب، بينما كان أستاذ القانون مهتما بالأدب، فلما رأى المحامي الخيالي، تحول إلى القانون.
• بالنسبة لشخص لم يقرأ لك من قبل، أي من كتبك تعتقد أنه يجب أن يبدأ به؟
ـ لم لا يبدأ بـ أحلام في زمن الحرب ولا تبك يا ولدي (1964)؟ كلاهما مستلهم من فترة واحدة في طفولتي، وسيكون مثيرا أن يرى القارئ كيف يختلف الأدب عن السيرة في معالجتهما للواقع. أما إذا كنت تريد أن تضحك حتى البكاء، فلم لا تقرأ ساحر الغراب؟ وعموما رواياتي ستقودك إلى بعضها بعضا.
* كيف تغير أسلوبك النثري وبنيتك السردية على مدار السنين؟
ـ روايتاي الأوليان لا تبك يا ولد والنهر الفاصل (1965) تتسمان ببنيتين سرديتين خطيتين وجمل قصيرة. بعد ذلك صرت مهتما في حبة القمح وبتلات الدم بطبقات الأزمنة والأماكن. بدلا من الخطية حلت الخطوط العديدة إذ تتقاطع فتنتج العديد من الشخصيات، والعديد من الفضاءات، والعديد من خطوط التطور. احتاج ذلك تنويعة من الجمل بين القصيرة وشديدة الطول.
* مثل تطور أسلوبك، يمكن أن يتتبع المرء تطور أفكارك الاجتماعية والاقتصادية من قراءة أعمالك بالترتيب.
ـ أنا مهتم بفعل السلطة في المجتمع. ليس في الحياة جانب إلا ويتأثر بالطبقة الاجتماعية صاحبة السلطة في المجتمع، والغاية التي تسعى إليها هذه السلطة. بالفعل أنا متورط. ولكنني ثابت دائما على النظر إلى العالم من منظور احتياجات الأقل بيننا. يوشك كتاب الجلوبالكتيكا أن يوجز نظرتي الآن: الحياة متصلة ـ الأرض والماء والسماء وكل الخلق وكل ما يمكِّن من الخلق ويديمه. الآن أنا أفهم لماذا عبد القدماء الشمس، وأجلّوا الماء والنار والتراب والحيوان والنبات. في جيكووايو ما قبل الاستعمار كان عليك أن تغرس شجرا في موضع الشجرة التي قطعتها أو اجتثثتها. الأرض أمنا جميعا وما لأحد من الناس أو الأشخاص أن يزعم له نفسه حقا فيها أكبر ممن عداه. ولذلك أيضا أومن الآن أن الانتهاكات البيئية الجسيمة هي جرائم ضد الإنسانية وضد الحياة. فتلوث الماء والهواء في أي مكان يؤثر على الخلق في كل مكان.
ـ ما الذي وجّهك إلى السيرة كقالب كتابي؟
ـ السيرة تساعدني أن أوضح مواقفي. أستعملها لأقول «هاي، أنا لا أزال على قيد الحياة، ولا زلت أومن باللغات الإفريقية، ونعم، عليَّ أن أناضل بكل وسيلة أدبية ممكنة». أحصل أحيانا على جوائز غير منتظرة. هناك قصة كتبتها بلغة الجيكووايو وترجمت إلى إحدى وستين لغة حتى الآن، منها أربعون لغة أفريقية عنوانها «الثورة المنتصبة: أو لماذا يسير البشر منتصبي القامات». ما يبهجني هو أن القائمين على هذا المشروع مجموعة من الشباب المناصرين لأفريقيا ومشروع جالادا للنشر. ويقودهم موسى كيلولو، هو رئيس التحرير.
ـ لك ثلاثة كتب سيرية هي «أحلام في زمن الحرب» و«في بيت المترجم» و«مولد ناسج الأحلام». هل تعتقد أنك سوف تكتب غيرها، لتتناول ما لم يتناوله ناسج الأحلام؟
ـ السير الثلاث تصل إلى عام 1964. أود لو أكتب المزيد، لكنني أريد أولا أن أكتب رواية أخرى. الرواية تأخذني إلى أماكن وعوالم ليس بوسع نوع آخر أن يأخذني إليها. المفارقة أن أثر المسرح كان أكبر على حياتي من الرواية، ومن ذلك أثره على حرفة القص. فقد كانت مسرحية في نهاية المطاف هي التي أودت بي إلى سجن كاميتي، وهناك أعدت النظر في مسألة اللغة برمتها، وبدأت روايتي الأولى بلغة الجيكووايو.
ـ تشتبك كتابتك مع القضايا الضخمة التي تعصف بالمجتمع، ومع قضايا شخوص أبطالك التي لا تقل حساسية. أيهما يكون ألح على ذهنك حينما تبدأ العمل على رواية؟
ـ يختلف الأمر من رواية لرواية، لكن الأمر غالبا ما يبدأ بصورة، أو فكرة غائمة. الكتابة الإبداعية شأن ارتياد المجهول. في كثير من الأحيان تفاجئني شخصيات بالظهور بل وبإثارة قضايا. لذلك تختلف الرواية التالية دائمًا عن السابقة. لكنها مسارد أدبية لمستكشف واحد، وبسجاياه المحددة. الزهرة التي أتوقف للنظر إليها قد تختلف عن الزهرة التي يفتتن بها مستكشف آخر.
ـ هل توجد ثيمة أو موضوع كنت تود الكتابة عنه لكنك لم تتناوله إلى الآن؟
ـ ليست ثيمة بالضبط، بل هي تحديات الرواية التالية. أتعرف، أفضل رواياتي هي التي عليَّ أن أكتبها.
ـ مثير! هل لديك أي مخطوطات غير منشورة في أدراج مكتبك؟
ـ نعم، كثيرة. لعلها سبع إجمالا، وكلها بلغة الجيكووايو، ومنها ثلاث ترجمات لموليير وجوجول.
ـ كتبت في «الشيطان على الصليب» ما يلي:
«حيواتنا ميدان تستعر فيه بلا توقف حرب قوى عازمة على تأكيد إنسانيتنا وقوى عازمة على تقطيع أوصالها، قوى تكافح كي تحمينا بسور تقيمه حولنا، وقوى تعمل على تقويضه، قوى ترسخه، وقوى تنال منه، قوى غايتها فتح أعيننا فترى النور وتنظر إلى الغد […] وقوى تهددنا عسانا نغمضها».
يبدو هذا الكلام ملائمًا تمامًا اليوم للولايات المتحدة، التي تقيم فيها. في رأيك ما دور الفنان والباحث والمثقف في مناخنا السياسي الأمريكي الراهن؟
ـ أعتقد أن عثمان سيمباني، الكاتب والسينمائي السنغالي هو الذي تكلم عن الكاتب بوصفه صوت من لا صوت لهم. لا يزال هذا ينطبق على كل المجتمعات. يجب أن يحفز الفن على الحلم بعالم أكثر إنسانية.
ـ أعرف أن هذا سؤال عام، لكن ما الذي ترجو تحقيقه من كتابتك؟
ـ تعزيز مكانة اللغات الإفريقية، وكل لغات العالم المهمشة. لقد أصبحت محاربًا من أجل اللغة. وأحب ذلك، هو أمر محبط طبعًا، ولكنني أعتنق هذا الكفاح.
ـ بدأت تكتب بلغة الجيكووايو على سبيل المقاومة. في السنوات الأربعين الماضية أضأت هذه الشعلة فاتبعك في طريقك كتّاب أفارقة آخرون. هل تغيَّر الأفق الأدبي بدرجة كافية؟
ـ ليس كثيرًا من حيث الكتابة والنشر باللغات الأفريقية. ولكن المواقف تغيرت. حينما نشرت كتابي «تحرير العقل من الاستعمار» سنة 1986، قوبلت بالكثير من العداوة والاشمئزاز والسخرية والاستهزاء. لم أعد أرى هذا. لكن للأمانة كان هناك دائما كتَّاب أفارقة يكتبون باللغات الإفريقية. في مؤتمر أقيم في أسمرة بإريتريا سنة 2000، كان المشاركون كتَّابا يكتبون بلغات أفريقية، وكانوا مئات من شتى أركان القارة. وخرجوا بوثيقة ذاع أمرها الآن، هي أقرب إلى مانيفستو عن اللغات الأفريقية تحمل عنوان إعلان أسمرة The Asmara Declaration.
ـ هناك حوالي ستة ملايين ناطق بلغة الجيكووايو في كينيا، وكتبك بالجيكووايو تصادف من النجاح ما تصادفه كتبك بالإنجليزية. هل يعطيك هذا إحساسًا بأنك على حق؟
ـ كانت تلك مفاجأة سعيدة، حتى بالنسبة لي. لست متأكدًا من قدرة كتبي المؤلفة بالجيكووايو على تحقيق هذا المستوى من الاهتمام. المدرسة لا تدعم اللغات الأفريقية، وكذلك نظام التعليم كله. فمثلا، نصوصي باللغة الإنجليزية قد تدرس في المدارس والكليات، فهي لا تعتمد بالكلية على القارئ العام. أما كتب الجيكووايو فليست جزءًا من مناهج المدارس والكليات.
ـ هل تعتقد أن الكتَّاب ينبغي أن يكتبوا بلغاتهم الأصلية ثم يترجموا أعمالهم إلى الإنجليزية؟
ـ أولًا، لا ينبغي أن يشعر الكتّاب أنهم ملزمون بترجمة أعمالهم إلى الإنجليزية. أنا أفعل ذلك لأنني في جدال مع من يقولون إن الكتابة باللغة الأفريقية تنكر على الأفارقة الآخرين والشعوب الأخرى الاطلاع على أعمالهم. ولا بد من ملاحظة أن هذا لا يقال مطلقًا عمن يكتبون باللغات الأوروبية، وتترجم أعمالهم على نطاق أوسع. المشكلة للأسف هي أن من يكتبون باللغات الأفريقية يبقون في الخفاء، ونادرًا ما يكتب عن أعمالهم أو تتم ترجمتها. منافذ النشر محدودة. وبرغم العراقيل، هناك بالطبع أعمال باللغة الكيسواحيلية Kiswahili على سبيل المثال. والكيسواحيلية لغة أفريقية في شرق أفريقيا ووسطها. ولها تراث أدبي عظيم أثمر ولا يزال يثمر كتابة عظيمة لكتاب مثل شعبان روبرت وعبداللطيف عبدالله.
ـ قلت إن الترجمة طريقة للإسهام في التواصل العابر للثقافات. لذلك تترجم كتبك إلى الإنجليزية بنفسك. ولكن البعض يقولون إن في ذلك نفيًا لما تريد إثباته بكتابتك بالجيكووايو.
ـ أصف الترجمة بأنها اللغة المشتركة بين اللغات. لذلك لست ضد الإنجليزية أو أي لغة. ما أعارضه تماما هو علاقة القوة القائمة بينهما على غير المساواة. الإنجليزية كلغة لا تزيد عن أي لغة أخرى. وهذا ينطبق على جميع اللغات، كبيرها وصغيرها. وأنا كنت ولا أزال مع إتاحة أعمال لغة في لغات أخرى. وأود لو أرى الآداب الأوروبية والآسيوية والأمريكية اللاتينية مترجمة إلى اللغات الأفريقية والعكس. بعض أعمالي ترجمت إلى الإنجليزية بقلم وانجو واجورو. وبعضها ترجمه آخرون إلى الألمانية والسويدية واليابانية.
ـ في «تحرير العقل من الاستعمار» قلت: إن «اللغة وسيلة إخضاع روحي»، وكتبت أيضا أن «الاستعمار يطبِّع غير الطبيعي» مشيرًا إلى أن لغة المستعمِر تصبح لغة النتاج الثقافي في الأرض المستعمَرة. ووصفت الترجمة بالفعل السياسي. هل يمكن أن توضح ذلك؟
ـ العملية المعرفية الطبيعية تبدأ من حيث يكون المرء، من حيث ما يعرفه أصلًا، ثم يضيف إلى تلك المعرفة. والأمر في حالة اللغات بسيط. امتلك لغتك، ثم أضف لغات أخرى: وهذا هو التمكين.
ـ قلت مرارًا: إن «الإنجليزية ليست لغة إفريقية» وأعربت عن إحباطك من حقيقة أن أغلب جوائز الأدب تمنح لمن يكتبون من الكتاب الأفارقة باللغة الإنجليزية.
ـ لو كتب بعض البريطانيين باليابانية هل يجعل ذلك من اليابانية لغة إنجلترا؟ أنا ببساطة مستفز مما يرقى إلى سرقة هوية أدبية، حيث يتخذ الأدب الذي يكتبه الأفارقة بلغات أوروبية هوية إفريقية. فبأي اسم إذن نسمي الكتابة الأفريقية المكتوبة باللغات الإفريقية؟
ـ في حين أن كتابًا كثيرين قد يكتبون بلغاتهم الأصلية ثم يترجمون أعمالهم إلى الإنجليزية، هناك نقص في الترجمة من الإنجليزية إلى اللغات الأفريقية. وأنت قلت إن «ما يترجم من الإنجليزية وإلى الإنجليزية ـ نوعا وكما ـ هو مسألة قوة». ما الذي تراه مرجحا أن يقوم بذلك العمل الضروري؟
ـ أعتقد أنه نفس ثالوث الدولة والناشر والمترجم، ذلك ما قد يضمن نقل المعرفة الهائل من اللغات الأخرى إلى اللغات الأفريقية. لدينا الآن جائزة ماباتاي كورنيل كيسواحيلي للأدب الأفريقي. كان ابني موكوما واجوجي من مؤسسي تلك الجائزة، وفي غضون ثلاث سنوات من نشأتها، أثمرت قدرًا جيدًا من القص والشعر باللغة الكيسواحيلية.
ـ أنت من أنصار التحول الراديكالي في المجتمع الإفريقي ما بعد الاستعماري. هل ترى التغير الذي كنت ترجو رؤيته أم أنك محبط من الواقع الذي ترى عليه القارة الآن؟
ـ أنا فخور بما حققته إفريقيا والأفارقة برغم سنوات الاستعباد الفعلي، والاستعباد الاستعماري، واستعباد الديون اليوم. إفريقيا تنهض برغم ساق وذراع مقيدين بالغرب. وللأسف أفريقيا لا تزال مدفوعة بنفس منطق التنمية الرأسمالي القائل بأن رفاهية القلة مقياس للتقدم. لا زلنا بحاجة إلى تحول في المجتمع، ولكن الخطوة الأولى يجب أن تكون كفاحا من أجل أفريقيا لتأمين موارد القارة. إفريقيا هي الهبة التي لم تتوقف عن العطاء للغرب. وآن أن تؤمِّن أفريقيا مواردها، وتستغلها، وتقيم علاقة هات وخذ متوازنة مع بقية العالم. وقد حاولت أن أقيم هذه الحجة في كتابي «تأمين القاعدة: إظهار أفريقيا في عين العالم» (2016).
ـ أنت مؤمن بتحمل الدول مسؤولية ما فعلته، وما فعله قادتها. وتكلمت عن المسؤولية البريطانية تجاه الدول التي استعمرتها ولما تسببت فيه لسكانها من عذاب وألم أثناء الاحتلال. هل تعتقد أن يومًا سيأتي، وإن تأخر، فيقدَّم نوع من العزاء مهما يكن غير كاف؟
ـ الغرب مستمر في رفض تحمل مسؤولية جرائمه ضد الشعوب المستعمرة. حتى اليوم ترفض الولايات المتحدة الاعتذار عن استعباد الملايين. في «تأمين القاعدة»، أوضح أن ثلاثا من الدول المالكة لأكداس من أسلحة الدمار الشامل -هي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا- كانت أيضا رائدة في تجارة العبيد وامتلاك العبيد. والرابعة، أي روسيا، كان لديها عبيدها الداخليون، أعني «الأرواح الضائعة» عند جوجول.
ـ أنت من عائلة حكائين نشأت على تراث كينيا الشفاهي الغني. في الوقت نفسه لم يكن مسموحًا لك أن تتكلم بالجيكووايو، وهي لغتك الأم، وفقا للنظام الاستعماري في المدارس ووصولًا إلى سنوات دراستك في الجامعة، وأرغمت على قراءة الأدب الأوروبي والأمريكي على حساب الأعمال الكينية والأفريقية الأخرى. في سيرك، تكلمت عن ازدواجية تلك التجربة: «لا محالة من ندوب يتركها الميلاد والتعلم في مستعمرة». ومع ذلك أتساءل إن كنت تشعر أن تطورك ككاتب وناقد كان ليصبح كما هو الآن لو لم يكن عليك أن تناضل من أجل الاعتراف بلغتك وتاريخك وثقافتك.
ـ كل كاتب يتشكل بظروف نشأته، ومجمل تجاربه في الحياة، ونضاله. الشفاهي قادني إلى الأدبي. ومثلما أقول في «أحلام زمن الحرب»، كان يحكى لنا، ونحن أطفال أن القصص تختبئ بالنهار ولا ترجع للظهور إلا في المساء بعد إنجاز كل المهام. لعلها كانت خدعة من أهلنا لحملنا على القيام بمهامنا، فيكافئوننا بالخيال في المساء، ولكني صدقت ذلك حرفيا. ومع ذلك، بقيت أشتاق للقصص في النهار، وتعلم القراءة ساعدني أن أحكي القصص لنفسي في أي وقت من اليوم. لحسن الحظ، في تلك الأيام، كنا ندرس السنوات الأربعة الأولى من المدرسة بلغة الجيكووايو، فكان من أوائل الكتب التي قرأتها ترجمة للعهد القديم، وباستثناء الإنجيل، لم يكن متاحا من الكتب بلغة الجيكووايو إلا الكتب المدرسية. فكانت الإنجليزية هي الباب الذي دلفت منه لاحقًا إلى عالم الكتب الشاسع.
ولأوضح هنا أنني استمتعت بقراءة الكتّاب الإنجليز: شكسبير وجين أوستن وجورج إليوت وديكنز وجوزيف كونراد ودي إتش لورنس وإي إم فورستر وغيرهم. واستمتعت بالأدب الروسي الذي قرأته في ترجماته الإنجليزية: دوستويفسكي وتشيخوف وتورجينيف وتولستوي وجوركي وشولوخوف. ومن الكتاب الفرنسين كان بلزاك رائعًا. وسأكتشف في وقت لاحق الأدب الكاريبي: جورج لامينج وفي إس نايبول وروجر مايس وكامو براثويت وطبعا الكتاب الأمريكيين الإفريقيين: لانجستن هيوز وكلود مكاي وريتشارد رايت وجيمس بولدوين وأميري بركة وسونيا سانشيز. والكتاب الأفارقة الذين كتبوا مباشرة بالإنجليزية، أو قرأتهم مترجمين إليها، كانوا اكتشافا آخر: بيتر أبراهامز، إسكيا مفاهليلي، أليكس لاجوما، وغيرهم.
ولكن هؤلاء وصلوا إليَّ من خلال الإنجليزية. ما كان غائبا عن المشهد الأدبي هو الأدب المكتوب باللغات الأفريقية، بل وبلغتي نفسها. كان هناك نزر قليل مكتوب بالكسواحيلية، ولكن الكم الأكبر كان مكتوبًا بالإنجليزية. ولما بدأت أنا أكتب، كان بديهيا بالنسبة لي مثلما للكتاب من جيلي، أن الإنجليزية هي اللغة الطبيعية للتعبير الأدبي لدينا. وسأتشكك لاحقا في هذه الفرضية وفي الخلل التام في توازن القوى بين اللغات الأفريقية والأوروبية. بت أتشكك في التعليم الاستعماري الذي جعل اللغات الإفريقية خفية في مواجهة الإنجليزية واللغات الأوروبية. وهذا الكفاح الخاص باللغة ساقني إلى السجن والنفي، ولكنني فخور بحقيقة أنه قادني إلى الاجتراء على الكتابة بالجيكووايو.
ـ كثير من الأفارقة مروا بمثل التجربة التي مررت بها: حرمت عليهم لغاتهم الأصلية، وغرس لسان المستعمر في أفواههم بقوة التعليم. أنت من أنصار تعليمهم لغة أفريقية تكون لغتهم الثانية. هل شهدت تقدما في هذا الصدد؟
ـ الحق في اللغة أحد حقوق الإنسان، وليس ترفا. لكل شعب الحق في لغته، وفي الإنتاج الفكري بهذه اللغة. ولكنها ميزة عظيمة أن يجيد الفرد أكثر من لغته الأم. آيميه سيزار من المارتينيك في كتابه خطاب في الاستعمار (1950) وصف التواصل الثقافي بأكسجين الحضارة. ولكنه ليس الاتصال الثقافي بين الراكب والجواد. وأعتقد أن مثل هذا ينطبق على اللغة: بوسع الاتصال اللغوي أن يثمر أكسجينا لإنسانيتنا المشتركة، ولكن هذا فقط في حالة أن تكون العلاقات بين اللغات قائمة على الأخذ والعطاء لا على هيراركية القوة. صحيح أن حكومات ما بعد الاستعمار استمرت في سياسات تهميش اللغات الإفريقية وإعلاء اللغات الأوروبية. العملية المعرفية الطبيعية هي أن تضيف إلى ما تعرفه أصلا، لا أن تقتلع شخصا مما يعرفه وتعيد غرسه في مجموعة أخرى من الوسائل اللغوية بهدف تحقيق المعرفة. لو أنك تعرف كل لغات العالم ولا تعرف لغتك الأم أو لغة ثقافتك، فهذه عبودية. لكن لو أنك تعرف لغتك الأم أو لغة ثقافتك وتضيف إليها كل لغات العالم، فهذه قوة. أحادية اللغة هي ثاني أكسيد كربون الثقافة. بالطبع هناك مجتمعات سلبت حقها في اللغة بقوة القانون والعنف ـ كما في حالة الأفارقة المستعبدين. لكنها أبدعت لغات جديدة. وهذه اللغات لغات قائمة بذاتها، وهي شأن اللغات الأفريقية ليست درجات دنيا على سلم الصعود إلى جنة الإنجليزية.