دعد ديب
قد تكون النزعة التجريبية المتداخلة في أدب الحداثة وما بعدها، التي حملت رؤىً تشكيكيّة في ما سبقها من تصوّرات حول الرواية من حيث الشكل أو المضمون بما فيها تخلخل خطّ السرد، على صعيد الحدث أو الزّمن السرديّ، في حالة دوران محموم حول مفهوم الحقيقة الذي يبقى تصنيفًا تصعب الإحاطة به، ضمن متاهات التأويل والمجاز التي تضطلع بها الأساليب السرديّة عمومًا. ومن هنا، وبلا مقدمات يورطنا الكاتب المصري وحيد طويلة في رحلة ترقب الحدث الثابت المتحرك في روايته “جنازة جديدة لعماد حمدي”، في مشابهة لقالب السّرد الذي اختطّه ميشيل بوتور في رواية التفكّك بمشهد مسافر القطار الثابت في المكان والحركة، وفي ذهنه حيث يدور العالم.
ضابط المباحث “فجنون” في طريقه إلى سرادق العزاء لكبير المسجّلين خطيرين.”ناجح” هو المشهد الثابت الذي يرافقنا من أول العمل إلى نهايته، ويتمدد خطّ السرد من أمامه ومن خلفه، حيث تتجّول كاميرا وحيد طويلة على امتداد السرادق الذي أصبح عالمًا قائمًا بذاته، ليمضي بنا صاحب “حذاء فيلليني” في خفايا العالم السفليّ للمجتمع، كخزّان ثريّ للحكاية، تعكس ذاكرة جمعيّة للمكان والشخصيّات التي تحفل بها الرواية، بتشكيل متعدّد للأصوات السّردية. فتارة يتحدّث بلسان الضابط ومرّة بلسان الراوي العليم، ومرّة بصوت لأحد الشخصيات الأخرى، في نسج مركّب لكّل شخصية، تحفل جعبتها بتفاصيل دقيقة لكل منها، في معمعة اشتباك الروّاة وتعدّدهم، التركيب الذي يمنحها رشاقتها وحيويّتها الفنيّة، وتدرجها المتنامي في كثافة الشخوص مع كثافة المشهد المتحرك والراصد للحياة الصاخبة بكل تواشيحها ومرارتها، بأسلوب مخاتل يخادع قارئه الذي تسكنه الحيرة في ردود أفعاله تجاه رموزها، أي تعاطف معها؛ أم يحزن عليها؛ أم ينقم؛ أم يحقد؛ أم يثور؟ هل الكاتب بصدد تجسيد شخصّية ايجابيّة لنا أم العكس تمامًا، في تساؤلات تصويرية تكمن في عمق القاع لخليط من الكائنات البشريّة، وما يمور في دواخلها من تناقضات، مع نفسها بالدرجة الأولى وثانيًا مع المحيط الذي يوجه مجمل سلوكها في فهم عميق للسوسيولوجيا التي تحكم حركتها وتفسّر آليات انحدارها.
وهو إلى ذلك، أي القارئ، مطالب بالتّركيز معه، ففي كلّ لحظة خطاب مباشر إليه، لدفع اللبس في فهم أو انطباع لدرجة مربكة، هل الكاتب يخاطبني كقارئ أو لعلّه يخاطب الشخصية الأخرى أو ربّما يتوجه إلى رأي عامّ يحتكم إليه؟
هنا لعبة وحيد الطويلة في السّرد مع شدّ الانتباه إلى أقصى حدّ، مما يجعلنا متأهّبين لوعي وتدارك الفخاخ المنصوبة في التعابير المتناقضة، على غرار “طهر روحك من أدران المحبة والطيبة” أو تلك العبارات الذهبية في وصفه لناجح كمعلم في فن النذالة والإيقاع بالأصدقاء وحلفاء اليوم مثل “له صنف لوحده كما هو صنف وحده” أو مشهدية الدراما السينمائية عندما يصف “يقف ناجح بالسرادق كحطام سفينة على شاطىء ميت” في لغة ذات جرس، جمعت بين عمق المعنى ونكهة الحَواري الشعبية متكئًا على إرثها من أغاني وأهازيج وأمثال محلية دارجة.
ما من فارق واضح ننتهي إليه في رسم ملامح للشخصيات، التي تحمل تعبير المسجّلين خطر، تلك التي تضم مروحة واسعة من رجال الشرطة والمباحث والبلطجية والمهربين والمجرمين والعهّار ومدمني البودرة، ولا تنتهي بمرشدي الشوارع وفتواتها، كلها تجتمع تحت يافطة “المسجّلين خطر”، ولك أيّها القارئ أن تحدد نوعيّة الخطر الذي يومئ إليه، وهو في هذا يشير إلى موقفه في مكر الإهداء الذي استهلّ به روايته: “إلى المسجلين خطرًا.. تصحبكم السلامة”، في إشارة إلى وداع ملغز يشي بأفول نجمهم ومغادرتهم المكان الذين هم طارئون عليه.
دائماً تحفل عناوين وحيد الطويلة، بإشارة لشخصية لها امتدادها في الذاكرة: فيلليني في “حذاء فيلليني” وعماد حمدي في العمل الذي بين أيدينا، فالعزاء المفتوح لجنازة قائمة يقابلها معادل ظلّي مناقض هي جنازة افتراضية لراحل ملء السمع والبصر هو الممثل حمدي، الأبهة والازدحام والبذخ عند الأولى والطقس المتواضع والمحدود وقلة المشيّعين للثانية مع تباين القيمة الاعتبارية لكلا الفقيدين، بإيضاح جلّي لعبثية الأقدار وتموضع القيم وانحدارها.
الشخصيّة المتوتّرة وغير المستقرة، التي تدور معها وحولها الأحداث، هي ضابط المباحث “فجنون”، الذي دخل السلك بإرادة قمعية من والده، ولقبه زملاءه بهذا الاسم، لأنه مزيج من فن وجنون، يجمع ذاتاً متناقضة، ضابط في القسم ورسام في المنزل، هذه الازدواجية في داخله، تبدت في لوحة البوط العسكري وصورة أبيه مشنوقًا برقبة الحذاء وكل فردة من شاربيه مشدود إلى رباط الجزمة، في رد الفعل الذي كان ورطة عمره، بانتقام مارسه عبر الرسم في لوحات متتالية عكست الصورة الأخرى لذاته العميقة التي أغلقها عالمه المهني بين اللصوص والمجرمين ورجال المافيّات.
تظهر في العمل استفادة وتوظيف لموروث ثقافي بتوشية دينية إلى حد ما بكل الحمولات ذات الدلالة الخفية لعلاقة السلطة والدين، ظهرت في تعابير مكثفة مثل “أعلن توبته في غرفة ضابط المباحث كأنما أشهر إسلامه”، “أنا يعجبني الجدع أبو سفيان ده، حفظ مقامه في القديم والجديد”، “وإن تعذر يخرج لها معاوية حتى لا يتورط ويخرج لها علي”، والكثير سواها من الإيماءات الموحية، يشير فيها لرأيه تلميحًا لا تصريحًا تاركًا لقارئه مساحة للمساءلة والمشابهة وحرية الاستنتاج.
لعل حرص وحيد الطويلة على متابعة مصائر شخصيات ثانوية ” آيات –شحتة –منير أبو شفة-أم حواء وسواهم” من استقر منهم ومن انتهى ومن تاب، تلك التي عبرت بذاكرة العمل، قد أغلقت خيال المتلقي إلى حد ما في رسم تصورات عن واقع مفتوح لا يني ينجب نماذج متناسلة منها.
كل هذا التّهيب والمقدمات والمخاطر المتوقعة والتداعيّات التي مرت في عقل ضابط المباحث، المُقال من عمله، والتي شكّلت متن العمل، فاجأنا أنه حين دخوله السرادق، عَبَر بحيادية وبرود إلى حد ما، لم ينتبه إليه أحد وما من امرىء أعاره انتباهًا، مع أنّه يعرف الكل بالاسم ويعرفونه، ولهذا الأمر دلالته الرمزية، إذ مَن يعير اهتمامًا لأي صاحب سلطة عندما تجرد منه صلاحياته؛ وسلطته؛ ومكانته. فالأهمية للثوب الذي يسبغ عليه؛ ويمنحه السطوة والغلبة، وخلاف ذلك محض وهم.. وقد قالها الكاتب السوري سعد الله ونوس في مسرحيته “الملك هو الملك” في تكثيف وتأطير للفكرة الثابتة المتجددة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتبة وناقد سورية .. والمقال نُشر في المدن
كاتبة وناقد سورية .. والمقال نُشر في المدن