محمود عماد
حضور الموت مؤكد، ومع ذلك نتفاجأ به في كل مرة.
في صور الجنازة وجدت نفسي بين الحشود، ذهبت للبنان، ولمست نعش زياد. لم أشاهد مثل تلك الجموع في جنازة منذ وقت طويل. تواجدت جميع الأطياف على اختلاف مذاهبها، جمعها من نادى طوال حياته، حتى ذهب صوته، بلبنان الوطن لا الطائفة. بكينا وهتفنا باسم الرفيق، وصفقنا لفن المتمرد. متمرد حتى في موته هكذا كان؛ لذلك أبى إلا أن يحضر جنازته؛ ليودع نفسه بنفسه.
لمحته بين الناس يرتدي بذلته ونظارته الطبية يبتسم بسخرية، ثم علا صوته: دخيل الله ما تألهوني ولا تعملولي تمثال، أنا مو رمز ولا شي كبير، أنا بس زلمة!”
هتفت من بين الحشود: “يعيش الزلمة بفنه!”
أظلم النهار، وأضحت العتمة عنوان الأجواء، أضيء كشاف نور صغير سلط على منتصف الطريق الذي صار مسرحا، وظهر البيانو وزياد. رفع نظارته وبدأ في عزف مقدمة “ميس الريم”، التي أدخلت النشوة على المشيعين ليتحولوا لجمهور يتراقص على الأنغام مثل السكارى. تحول المأتم إلى حفل. ثم استمر زياد في العزف، تصاعدت من البيانو موسيقى “كيفك أنت؟”، ارتفعت إلى السماء في صمت عظيم. تلقى الألحان ملاك بجناحين بيضاويين عملاقين، واختفى عن الأنظار.
رأيتني أحلم أني في العزاء، داخل كنيسة كانت تزدحم بالناس. شاهدت رجالا ونساء، قسيسين ورهبانا، شيوخ وأئمة، مدنيين وعسكريين، مسئولين ومهمشين، فنانين ومتلقيين، وشاهدت امرأة محجبة تصلي، وبجانبها رجل يرسم الصليب. في هذه اللحظة نزلت دمعة من عيني وترحمت على زياد. توقف الزمن، نظر الجميع للباب، دخلت الأسطورة الأم جارة القمر فيروز إلى الكنيسة، تمسك بيدها ابنتها ريما التي شاكست زياد عمرا. وقف الجميع في استقبال الأم المكلومة، وضعوا أعينهم في الأرض مهابة النظر في وجه الملاك الذي هبط أرضنا منذ تسعة عقود. ذلك الملاك الذي اعتقد البعض أنه مجرد قصة أسطورية من الفلكلور الشعبي اللبناني. نظرت خلسة إلى من جاورت القمر، وجدت وجها مهيبا يتعجب المرء له، وحزنا عظيما لم أر مثله من قبل.
جلست فيروز تتلقى العزاء في رفيق دربها، تتشح بالسواد، وتربط شعرها به، ترتدي نظارة سوداء تخفي الدموع اللؤلؤية داخل مقلتين لا يتواجدان في هذا المكان، بل في ملكوت آخر. بدت مثل لوحة من عصور النهضة. تشبه الراهبات، لا بل تشبه مريم العذراء في زمن غابر. نعم سمعت فيروز ترنو، سمعتها وحدي ترثي ابنها، كما رثت مريم المسيح، قالت بصوتها الملائكي، ودمعة تسقط على خدها: “أنا الأم الحزينة، وما من يعزيها.”
تقدم الجمع يأخذون البركات من الرمز الذي لم يتوقعوا يوما رؤيته على الحقيقة. رأيت فتاة تلمس الخصلات الذهبية المتطايرة خارج غطاء رأسها؛ لتتأكد أن ما تراه هي فيروز فعلا التي سمعتها لسنوات نسيت عدها. تقدمت نحوها كانت في زمن غير الذي نحن فيه. سلمت عليها، وقبلت يدها انتبهت لي، ابتسمت وربتت على يدي، وقالت: “بحب مصر.” اتسعت ابتسامتي.
قامت من مكانها توسطت الكنيسة بجانب نعش زياد، خلعت نظارتها السوداء، ظهرت عيناها وقد أتعبهما البكاء. انهمرت أنهار منهما، وهي تقلب نظرها بين الحضور حتى أغرقتهم. اتكأت على النعش، وضعت يد عليه وأخرى على وجهها توقفت الدموع عن الجريان. وقفت في عدلتها المعهودة على المسرح، وبدأت في الغناء: “ياريتك مش رايح، ياريتك تبقى.. تبقى عطول.” صفقت الحشود وظهر القمر فوق النعش وفيروز، وانشق ليضيء المكان بنور لا مثيل له، حتى ذهبت أبصارنا.