د.محمد السيد إسماعيل
تبدو لى بنية “الروائح المراوغة” لحسين عبد العليم بنية مخادعة حقا، حيث توهم القارىء أنها مجرد “نوفيلا” بناء على حجمها الذى لم يتجاوز الستين صفحة لكن النوفيلا تتطلب شروطا فنية تتجاوز الحجم ولهذا يمكن القول إن “الروائح المراوغة” رواية متشابكة الأحداث والشخصيات وتقوم على الامتداد الزمنى الموسع – رغم صغر حجمها – من خلال تقنية الاسترجاع والثغرة الزمنية وتوظيف بعض الحيل الروائية مثل استعراض مانشرته الصحف فى فترات سابقة.
إنه الإيجاز إذن الذى صرح الكاتب – فى أحد حواراته – بالحرص عليه، فالقصر – كما يقول – ” نوع من التركيز فأحيانا أقرأ أعمالا لا تتأثر إذا حذفت منها 100صفحة وأنا حريصعلى أن أورد كافة التفاصيل فى عدد أقل من الكلمات وإن كنت قادرا على أن أعبر بكلمة واحدة فلماذا أستخدم 10كلمات ؟ “.الجانب الآخر المخادع فى بنية هذع الرواية هو إيهامها للقارىء بأنها رواية تاريخية من خلال رصدها – بسلاسة سردية واضحة – للأحداث المفصلية فى تاريخ الوطن: انتصار 56، الوحدة المصرية السورية، هزيمة 67، تنحى عبدالناصر، حرب الاستنزاف مما يجعل من التاريخ لاعبا أساسيا فى هذه البنية لكنها – فى حقيقتها ليست رواية تاريخية فغايتها الأولى هى استجلاء طبيعة الشخصية المصرية ولم يكن التوقف أمام الأحداث التاريخية إلا بغرض تصوير تأثيراتها على طبيعة تلك الشخصية دون اقتحام فج للتاريخ أو أن يكون غاية فى ذاته فهو – حقا وكما يقول الكاتب – “مادة خصبة وثرية للحكى ولكن الحرفة تكمن فى تضفير التاريخ مع الوقائع دون أى نتوء فلا يشعر القارىء بتسلل التاريخ عبر أحداث الرواية” على أن أهم ما يميز هذه الرواية – وربما أعمال حسين عبدالعليم كلها – هو جرأة الموضوع الذى تطرحه فهى تطرح موضوعة الوجود “اليهودى” فى مصر قبل ثورة يوليو 52ومشاركتهم فى معظم المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية والفنية ثم هجرتهم بعد قيام “إسرائيل” ومعادة مصر لهذا الكيان الصهيونى من خلال علاقة حب – من طرف واحد – استشعره محمود يسرى بمجرد رؤيته ل”إيفت سمعان” اليهودية، فى البداية رأى صورتها التى وضعها والدها فى محل “التصوير” الذى كان يمتلكه فوقع فى حبها وأصبح لاهم له إلا المرور أمام هذا المحل ورؤية صورتها ثم اشتعل هذا الحب عندما رآها وهى خارجة من مدرسة “الليسيه” مع صديقاتها.محمود يسرى هو نموذج العاشق الرومانسى الذى يحب دون أن يتبادل كلمة واحدة مع حبيبته راسما صورة ذهنية لها قد تكون مخالفة للواقع ولأن الكاتب لايريد أن يضعنا أمام بنية “ميلودرامية” فاجعة فإنه يضع نموذجا مضادا لهذا العاشق الرومانسى وهو صديقه مصطفى الذى ظل دائم السخرية من ” إيفت ” بوصفها بنتا عادية ليس لها هذه الهالة الملائكية التى ظل محمود يسرى عاشقا لها وعلى قدر ملائكية صورة “إيفت” كانت قتامة صورة أمها فى ذهنه والسبب فى ذلك صديقه مصطفى “فعندما باح له محمود بعشقه لإيفت سمعان رد مصطفى بسرعة: آه..بنت راشيل..اللى رجليها مليانة شعر، انخض محمود وسأله بسرعة: إنت تعرفهم ؟ أجاب مصطفى ضاحكا: أى وحدة يهودية كبيرة لازم يكون اسمها راشيل ورجليها مليانة شعر” (“الروائح المراوغة” حسين عبدالعليم ص18ميريت 2015) إن مصطفى يقدم ما يعرف بالصورة ” النمطية ” للشخصيات حسب ديانتها وجنسيتها، وقد لعب هذا دوره فى خيال محمود فتخيل ” راشيل “- باعتبار التسمية التى أطلقها مصطفى – امرأة “تدخن بشراهة وأن أسنانها مصفرة وشعرها مبيض وخبيثة” وامتدت هذه الصورة إلى أبيها فرآه فى خياله ” كقزم لئيم أخنف يرتدى بالطو وكاسكيت ويزك على رجله اليسرى ” إنها الصورة النمطية لهيئة اليهودى التى صدرها الإعلام إلى الوعى العام، الصورة الوحيدة الملائكية المشرقة فى خيال محمود يسرى كانت صورة “إيفت سمعان” لكنها تهتز كثيرا بعد هجرتها التى لايعرف وجتها ويظل يحلم بأنه سوف يعمل فى المخابرات ويعثر عليها مرة أخرى..الشخصية الثانية – بعد مصطفى – التى لعبت دورا فى محاربة هذا الوهم الذى عاش داخل محمود يسرى هى ابنته فاطمة حين تتحدث عما اقترفته “إسرائيل” بعد 67 واحتلالها لسيناء وهنا تتسلل المعلومات التاريخية ببسساطة إلى المتن السردى دون أن نشعر بنتوئها “تتصور يابابا إسرائيل دمرت قطع الوحدات البحرية المصرية فى البحرين الأحمر والأبيض من غير تهديد مباشر لقواتنا ودمرت البنية التحتية بالكامل لسيناء ومدن القنال وجففت 30% من ’بار المياه الحلوة فى سيناء علشان تعمل تغيير على الأرض فى التجمعات السكانية حوالين الميه” (ص55) وعندما تسأله “لسه إيفت فى بالك؟” يرد عليها “بلا إيفت..بلا خرا” والحقيقة أن علاقة محمود يسرى بإيفت – أو بصورتها فى ذهنه – قد مرت بمراحل تحول إلى أن انتهت على النحو السابق فقد بدأ متولها بها الأمر الذى جعله يلجأ إلى السحرة ممن يسخرون الجن فى استمالة المحبوب وهكذا تدخل الرواية مباشرة فى قلب الحدث/ الأزمة منذ سطورها الأولى دون تمهيد حين نقرأ: “غرق محمود يسرى حتى أذنيه ذهب إلى أهل الخبرة أنفسهم، امرأة فى الصف ورجل فى أطفيح، شيخ فى الشرقية وآخر فى الفيوم ونفذ تماما مايقولون ويشيرون به وتأرجح مرات ومرات بين الأمل واليأس” وفى تطور آخر يقرر أن يقوم هو نفسه بأعمال السحرفيتعلم “قاعدة تحويل حروف الأسماء إلى أعداد وجمعها أو طرحها أو ضربها أو التصرف فيها بحيث يدل الرقم النهائى على نوع الطبيعة أو العنصر، ترابى أو مائى أو هوائى أو نارى ويتم اختيار المادة التى يعمل عليها العمل من جنس العنصر” وهكذا يتم توظيف الموروثات الشعبية حول أعمال السحر التى استغرق فيها محمود عائشا داخل ما يسمى بالزمن النفسى فقد كانت مشاعره دائما هناك فى فترة صباه وكان ابنه ” عبده” يصفه ساخرا بأنه “يعيش هناك مش عايش هنا” دون أن ينتبه أن إيفت – إن كانت تعيش من أصله – قد ” قاربت على السبعين وأنها ربما كان لها أحفاد حاليا وقد ابيض شعرها وربما أخذت نفس صورة أمها راشيل القديمة ” لا ينتبه محمود لكل هذا وظلت إيفت فى ضميره “بنت مدرسة الليسيه الرقيقة” وهو أمر يمكننا من وصف شخصيته بأنها تعيش داخلها أكثر مما تواجه الواقع أو أن وعيها وتخيلاتها تعد بديلا عن الفعل أو اتخاذ مواقف تطور من حياته حيث تصفه زوجته صفية بأنه يعيش داخل “الدرج” الذى يجمع ذكرياته ويحوى كتبا مختلفة وجرائد وشرائط فيديو لأفلام قديمة ويؤكد لزوجته “الحاجات دى حياتى..عمرى..أنا عايش فيها” وهو مايفسر شيوع تقنية الاسترجاع على مدار الرواية فمن خلال تقنية الراوى الخارجى تتم استعادة ولادة محمود يسرى وما صاحب ذلك من عادات اجتماعية التى صورها الكاتب سواء داخل الحوار أو السرد باللهجة العامية وهو مايمكننا من القول إن الرواية تكاد تكون مكتوبة بالعامية ولا بأس فى هذا خاصة أن الكاتب قد أحسن توظيف العامية بكل إيحاءاتها وكناياتها الخاصة.والحقيقة أننا أمام سرد – رغم بساطته الظاهرة – منفتح على العديد من الأنماط التعبيرية والفنون من خلال تضفيره مع الأغنيات الشهيرة التى تتسرب كلماتها ومعانيها إلى السرد لتعبر عن طبيعة الشخصية والحدث الروائى الذى تقوم به وتحتل الأمثال الشعبية مساحة واسعة وتقوم بدور أساسى فى التعبير عن المعنى المراد.وفى أحد المواضع يقوم الكاتب بتضمين بعض ماورد فى العهد القديم خاصة نشيد الإنشاد الذى فتنه بشاعريته.لقد كان حبه لإيفت دافعا له لقراءة كتابهم المقدس ومعرفة مشاهيرهم من العلماء والاقتصاديين والفنانين بوصفهم جزءا من تاريخ مصر ولهذا يمكن القول إن هذه الرواية تدعم – دون مباشرة – قيمة المواطنة التى لاتفرق بين أبناء الوطن الواحد على أساس الدين أو الجنس أو الوضع الاجتماعى وأظن أن هذا أحد هموم الكاتب عموما فقد عالج فى “فصول من سيرة التراب والنمل” حياة عائلة مسيحية محققا بذلك مقولته التى صرح بها فى أحد الحوارات إن “همى هو التعبير عن التغيرات التى تعترى وجه هذا الوطن” وذلك فى بناء سردى يجمع بين المتعة والمعرفة فى تآلف فنى .