“جزء مؤلم من حكاية”.. سيرة حزينة لسارق أرواح

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 21
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

“في الحقيقة أعتقد أنني ممسوس من الشياطين، لأنني قد وقعت على رأسي وأنا طفل”.. قالها “دينيس لين رادر” بعد ذبحه عشرة أشخاص أثناء محاكمته كقاتل متسلسل وصائد للضحايا البشريين في مقاطعة “سيدجويك” بالولايات المتحدة الأمريكية. كما قال “إيان برادي” بعد قتله خمسة أطفال: “إننا نفعل كل ما يحلو لنا فعله، سواء كان هذا الفعل محكوم عليه بأنه للخير أو للشر، إنه للجميع لكي يحكموا عليه.” 

في مدينة أخرى تدعى “كونادي” قال “مرحلي” بطل الحكاية: عندما تنبت فكرة لا تستطيع إيقافها!

ولأن كل فكرة هي في الأصل بذرة لحكاية، بذرة تنمو بسِمة كاتبها الخاصة حتى تكبر وتتكون وتكتمل، ولأن الاختراع هو أحد تلك السمات وأكثرها سحرًا! كان “مرحلي” هو إحدى أدوات الموت في المدينة التي اخترعها الكاتب “أمير تاج السر” داخل مملكة تدعى “قير”، رسم لها شوارع وأزقة وأحياء وأسواق اخترع لها أسماءً غريبة، كما اخترع ركنًا للإخباريين يمد المدينة بالأخبار، وحيث يوجد الفقر تكون الأخبار في معظمها مزعجة.

هنالك ركن آخر يبيعون فيه السلوى للحزانى بحكاية قصص قديمة عن الموت، وكيف كان يجيء ويذهب، وأي الأبطال في تاريخ “قير” عارك الموت القادم مع السل والطاعون والحرب الجائرة، وانتصر عليه.. أسماه الكاتب ركن الموتى ووصفه بأنه “ركن قبيح”.

اخترع الكاتب أمراضًا مثل: مرض الحلق الذي يورم الرقبة، مرض الحلي الذي يصيب الأنف بالرعاف ومرض سوء الظهر الذي ينتج من الركوب الخاطئ للدواب. كما اخترع طرقًا غرائبية للموت مثل: الموت جراء ألم في ضرس العقل أو انتفاخ في السرة أو حتى من مجرد اعوجاج في نظرات كان من المفترض أن تحط على شيء وحطت على شيء آخر.

في الحكاية نتتبع سيرة قاتل، نبحث عن الجزء المؤلم فيها فنتساءل: هل هنالك قاتل بلا دماء؟! هل هنالك جريمة بلا خطة مرسومة أو استهداف؟! والسؤال الأهم.. هل يمكن أن ينهي شخص حياة شخص آخر بلا دافع؟!

الوحدة، الإحساس بالتهميش وقرار الالتصاق بصديق.. أي صديق! صداقة تمثلت في الطاعة العمياء واتباع الأوامر.. إلى ماذا تشير تلك الطاعة أو ذلك الصديق الذي كانت مهنته أن “يقدم الضلال عن طريق التمائم”؟!

كسب المال! هل كانت رغبته في أن يصبح جزءًا من أسطورة  دافعًا كافيًا؟ وهل الانضمام إلى “قائمة الحقراء” التي اخترعها الكاتب لتضم المجرمين الخطرين في المدينة يعتبر أسطورة!

في الرواية لا نقفز مع الكاتب داخل مشاهد القتل ولا نراها، لا نشعر بالدماء ولا نعرف عن المقتولين سوى صدى أصواتهم يزور القاتل في كوابيسه يسأله: لماذا قتلتني يا أخ؟! فيرد: لا أعرف لا أعرف.

“صدقات”، “الياطور”، “سلالة”، “بستان”، “حرقل طباخ الملك” وغيرهم… أسماء لقتلى لا يعرف لماذا قتلهم؟ فهو مثل كل أبطال الرواية الذين وظفهم الكاتب داخل بنية سردية محكمة التشابك، منح لكل منهم جانبين، أحدهما واضح يخاطبنا من خلاله، وآخر مظلم له إشارات وأبعاد وأحيانًا فلسفة، نتتبع إشراقها من خلال سطور الرواية. منح الكاتب لكل من تلك الشخوص وجهان، للقاتل “مرحلي” وجه يسلب الحياة وآخر يعطف على البطون الجائعة فلا يقتل أصحابها. “كُمانة”: الغجرية التي كانت مساحة الكآبة في حياتها ترافق مساحة الرقص والبهجة وتقابلها أحيانًا وجهًا لوجه في مقهاها. “خفير”: الغجري الذكي/ الخبيث، قطعة السكر في الجلسات، شجرة المانجو التي تثمر بطريقة أروع من صديقتها. وطبعًا شخصية “ديباج”، صانع تمائم الحماية وسارق حماية المدينة، إبليس الذي جعل من القاتل “مرحلي” يده في الأرض، البطل الذي كان يستأنس بوجوده الشبحي أثناء كل تلك الجرائم، لا يشاهدها لكنه ينتشي بها! يقول في رسالته الأخيرة للقاتل قبل أن يسلمه كقربان لعائلة مجنونة في مملكة “طير”: ستسأل.. ولماذا أختار أشخاصًا مسالمين، أو حتى أشراراً وأدفع لقتلهم؟ لا سبب واضحًا حتى لدي أنا، إلا إن اعتبر قتل أبي لأمي بسكين حاد، أمام عينيَ، وأنا طفل صغير، سببًا. كثيرون سيعتبرونه سببًا ولا يقلقني ذلك، كنت أتسلى، أتمرغ في نشوة مرعبة لن تستطيع تخيلها، وفي اليوم الذي تجهز فيه أنت على الضحية.. أنغمس أنا في تلك النشوة المعذبة.

يتجاوز القتل في ذلك النص فكرة المألوف ليتحول من تيمة القاتل الشرير إلى فكرة يتعاطف معها القارئ، يتعاطف مع ذلك التناقض في شخصيته، يبحث عن جانبه المظلم فيحاول أن يخترع له تاريخًا سيكولوجيًا يبرر جرائمه، يبرر انصياعه! ينظر إليه كنموذج بشري جدلي يتجول بين سطور نص كابوسي -إذا صح لنا أن نسميه كذلك- ،نص يسخر من الواقع ويضعه في إطار سحري يبرع الكاتب في أن يصنع من خلاله جديلة من الجمال والقبح متمثلان في المكان والزمان والشخوص وضمائرهم.

عنصر التشويق يفرض نفسه بقوة، وكقارئ لا يمكنك إلا أن تتبع الحكاية بشروط كاتبها كي تبحث عن الجزء المؤلم فيها، تشغلك فكرة الدافع فتتساءل في النهاية: هل ضياع الطفولة والأمراض النفسية التي ترافق ذلك سببًا كافيًا؟ وهل إيقاف فكرة شريرة نبتت في رأس أحدهم هو بالفعل أمر مستحيل؟! لتكتشف في نهاية الأمر أن الحكاية بأكملها هي جزء من الألم الذي يعاني منه العالم خارج صفحات تلك الرواية.

 

“أمير تاج السر” كاتب وطبيب سوداني كتب الشعر والرواية، ترجمت أعماله لأكثر من لغة ووصلت روايته العطر الفرنسي للقائمة الطويلة لجائزة الأدب العالمي المترجم ٢٠١٦، كما حصل على جائزة كتارا ٢٠١٦، ووصلت أعماله للقائمة الطويلة والقصيرة لجائزة البوكر عدة مرات. تميز مشروعه الأدبي بالكتابة عن السودان شعبًا وتاريخًا، ووظف ذلك في الكتابة عن الفقر والمعاناة وعن الهم الإنساني بشكل عام.

مقالات من نفس القسم