محمود عماد
جروبات القراءة على فيسبوك — نعم، بمسماها العصري التكنولوجي، لا بمصطلح “مجموعات القراءة” الرسمي الذي لا يواكب روح العصر الرقمي وتعبيراته المستوردة، تعتبر ظاهرة حديثة نسبيا لو تم قياسها بالزمن. بدأت في العقد الأخير، وأخذت زخمها الأكبر في السنوات الخمس الأخيرة. انطلقت من مصر بصفتها مركزًا ثقافيًا رائدًا، موجهةً خطابها أساسًا للقراء المصريين، قبل أن تمتد لتشمل قراءً من مختلف أنحاء العالم العربي.
نشأت هذه الجروبات كامتداد منطقي لعصر السرعة والرقمنة، وكمساحة بديلة للمشهد الثقافي التقليدي الذي ظل لعقود محصورًا في النخبة: تلك اللقاءات النخبوية التي اعتادت الانعقاد في مكتبات عامة، مراكز ثقافية، أو مقاهٍ عرفت بحضور المثقفين وسط البلد. كان الحوار في تلك الأوساط محكومًا بلغة نخبوية أكاديمية، تنتمي إلى دوائر معرفية مغلقة، تفترض إلمامًا مسبقًا بمصطلحات نقدية وأدبية قد تبدو غامضة لغير المتخصصين.
حصر هذا الثقافة واللقاءات الخاصة بالتثقيف من فعاليات وندوات في يد النخبة، مع بعض الوجود لثقافة المؤسسة الحكومية، ولكنها أيضا كانت بعيدة، ودخل فيها تلك السيطرة من المثقفين.
الوصول إلى تلك الدوائر في الماضي كان يحتاج إلى اندماج حقيقي داخل “منظومة” المثقفين، والانخراط المتواصل في نشاطاتهم. لكن مع انفجار وسائل التواصل الاجتماعي في حياتنا اليومية، ظهرت جروبات القراءة كمساحات مفتوحة تتيح للجميع المشاركة دون حاجة إلى خلفية أكاديمية أو تزكية ثقافية.
بدأت جروبات القراءة رحلتها كفكرة، حلم بصنع مجتمع ثقافي افتراضي يضم جميع الأطياف المثقف، والقارئ على حد سواء دون استبعاد أو إقصاء لأحد.
البداية كانت بجروبات تكونت من العشرات ينضم الأعضاء إليها عن طريق الفيسبوك بالعثور عليها والضغط على زر الانضمام. مجتمعات مصغرة يشارك أفرادها نفس الاهتمام بفعل القراءة الذي ربط بينهم. وجد القراء حاضنة جديدة لهم، الوصول إليها سهل يحتاج فقط اشتراك إنترنت، وحساباً على الفيسبوك.
أخذت جروبات القراءة طابعا جديدا وواكبت العصر السريع، أعضاؤها قراء عاديون إن جاز التعبير. هم منبثقون من العصر التكنولوجي الجديد، لا علاقة لهم بالأوساط الثقافية التقليدية، وهكذا ابتعدت النخب الثقافية التي يمكن وصفها بالراديكالية عن المشهد الأدبي الإلكتروني الجديد.
القراء الجدد رأوا في النخب أناسا يتابعون المشهد الثقافي من برجهم العاجي، ورأت النخبة المثقفة في القراء الجدد خطابا خاليا من مضمون حقيقي. وهكذا دخل الفريقان في صراع لا طائل منه انتهى بفرقة يمكننا وصفها بالمؤقتة حتى عودة قبول الأمر الواقع فيما بعد.
رغم أن من أسس بعض تلك الجروبات القرائية هم صحفيون أو مثقفون، ولكن الحضور الأعظم لأعضاء الجروبات كان من القراء العاديين الذين يحبون القراءة، لكنهم لا يملكون خلفيات ثقافية أو أكاديمية. وكل ما أرادوه في وقت التأسيس الأول هو القراءة فقط دون صعوبات أو قوالب معينة، ومشاركة آرائهم بتلقائية دون تعقيد، وإيجاد من يشاركهم تلك الاهتمامات؛ لأنهم ومن خلال خلفيتهم لم يكونوا يعرفون الطريق نحو أقرانهم الذين يقرأون مثلهم.
مع الوقت اتسعت دوائر الجروبات الجديدة وزاد أعضاؤها بشكل كبير ولافت للنظر، وكثرت الجروبات، لتثبت تلك الجروبات أنها أصبحت واقعا جديدا في المجتمع الثقافي.
ثم أخذت فكرة الريفيو في التشكل، وهو رأي القراء فيما قرأوه من كتب وروايات، ولكن بشكل أكبر وبطريقة منظمة أكثر. هو ليس مقالا نقديا، وليس رأيا مجردا. ربما في البداية كان كذلك، ولكن مع الوقت أحذت تلك الآراء شكلا أكثر جدية.
في البداية أيضا ركزت القراءات على الروايات بشكل أكبر من الكتب، وأيضا على الأعمال الحديثة التي يصفها المثقفون بالأقل جدية أو السطحية، ولكن مع الوقت ارتفعت الذائقة الأدبية لأعضاء الجروبات، وأوغلوا في دهاليز الأعمال التي تصنف بأنها رفيعة أدبيا، واتجهوا أيضا لقراءة الكتب المختلفة.
هنا صارت الجروبات الجديدة فاعلا قويا في المشهد الثقافي، وبدأ الكتاب الشباب والكبار في الانضمام لها على حد سواء باعتبارها حلقة وصل بين الكتاب وقرائهم، وكونها تقرب بين القارئ والكاتب في علاقة كانت صعبة المراس في الماضي القريب.
تلك العلاقة جعلت رأي القارئ يصل بسهولة إلى الكاتب، ومع ازدياد عدد المشتركين في الجروبات كما ذكرنا سابقا، صارت المراجعات التي تملأ الجروبات معيارا مهما بالنسبة للأعضاء في قراءة هذا الكتاب أو ذاك، أو في الاقتناع بهذا الكاتب أو نقد هذه الكاتبة.
تصدرت الريفيوهات مع تراجع النقد الأكاديمي وانحساره عن المشهد لأسباب كثيرة يتحمل جزءا كبيرا منها النقاد والنخبة نفسها بسبب عدم مواكبتهم للعصر الراهن المقرون بالسرعة والرقمية، واحتفاظهم بقوالب عفي عليها الزمن.
كما أن تراجع المجلات والدوريات الثقافية والأدبية، والصفحات الثقافية في الجرائد، والتي توقف بعض منها، واحتفظ البعض الآخر بشكله القديم دون مواكبة لمتطلبات العصر الحديث، ساهمت أيضا في ذلك. مع ثبات الأقلام التي تتصدر الكتابة النقدية في مصر دون إعطاء الفرص الكافية للأصوات الجديدة.
تحولت الريفيوهات إلى سلطة نقدية جديدة حتى لو لم تقدم النقد بمفهومه المتعارف عليه في الأوساط النقدية، بل هو نوع آخر من النقد، رأي انطباعي، أزاح حضور النقد التقليدي وأخذ مكانه، وصنعت لنفسها سلطة كبيرة على الكاتب.
تصدر النقد الانطباعي المشهد، وصنع ما يعرف بالمؤثرين، ثم البوك يوتيوبرز والبوك توكرز، والذين استطاعوا التأثير في شريحة كبيرة من القراء، وأصبح ما يقولونه أشبه بالمسلم به. نبع ذلك من أن الخطاب موافق للعصر؛ فلقد خاطبوا القراء بلغتهم.
مع الوقت تضاعفت قوة الجروبات الثقافية وزادت سطوتها، وأصبح الكتاب والكاتبات يرون في التواجد بها وفي دوائرها ضرورة، وليس رفاهية. تواجدوا في البداية بالرد على آراء القراء، ثم المشاركة في اللايفات المباشرة لفتح قنوات تواصل مباشرة مع القراء، ثم المسابقات بعد ذلك، والتي أخذت حيزا كبيرا من محتوى الجروبات، والتي يعطي الكاتب فيها بعضا من نسخ كتابه بشكل مجاني للقراء المشاركين في المسابقة.
دخل الأمر في إطار التسويق بشكل كبير فالكاتب الشاب يريد أن يعلن عن نفسه ويعرف القراء بكتابته، والكاتب المخضرم يريد أن يؤكد نضجه ويصل لشرائح أكبر من القراء.
أما القراء فأصيب البعض منهم بقدر من التطرف فهنالك من ينتقد الكاتب ليجعله أسوأ قلم في التاريخ، وهنالك من جعل من كاتبه المفضل شخصا لا ينطق عن الهوى، وهذا أو ذاك لا يوجد عليهما رقابة فما يريد كل فريق أن يقوله يكفيه فقط أن يكتبه ويضغط على زر النشر ليصير نصا منشورا.
وأصبحت المسابقات التي تطرح نسخا مجانية من الكتب أمرا تسويقيا بحتا، من جانب الكاتب والجروب معا، الكاتب يريد انتشارا، والجروب يريد زيادة عدد أعضائه أي الإنتشار أيضا. والقارئ أصبح يشارك من أجل الفوز ولا شيء غيره دون حتى أن يكون مهتما بالكتاب المعروض.
يمكننا القول أن الجروبات الثقافية تحولت من مشروع ثقافي عصري آمن بنفسه عبر مجموعة من القراء العاديين، واستطاع أن يجذب مع الوقت المثقفين، والنقاد، والكتاب الكبار، إلى شيء آخر. فمع كثرة الجروبات أصبحت الردة الثقافية لجروبات القراءة أمرا واقعا نعايشه الآن، حيث أصبح التسويق في صدارة المشهد لا الثقافة.
أعتقد أنني بعد محاولة لرصد تأثير جروبات القراءة، وسلطانها، والنظر في التحول الذي ذكرناه يمكنني أن أقول إنني أملك شهادة على مسيرة الجروبات. وأظنني عاصرت قدرا من ذلك السلطان، كما أنني وبشكل ما أحد المشرفين على جروب قراءة بالفعل.
أنا ابن تلك الجروبات الحديثة أحببت القراءة منذ صغري، ثم توقفت فترة، وعدت بعدها، واكتشفت جروبات القراءة بالصدفة البحتة، ولكنها فتحت لي عالما من التواصل مع الكتاب والقراء، وكانت هي مساحتي الأولى في التعبير عن آرائي، حيث كتبت الريفيو فيها.
تعرفت أيضا على أماكن ومواعيد النقاشات الخاصة بالروايات والكتب، وعرفت الكتاب المعاصرين الذين كانوا غائبين عني، كما أنني فزت بالكثير من نسخ الكتب المختلفة مجانا.
من جروبات القراءة انطلقت لأكتب في المواقع والصحف المختلفة، ومنها عرفت أنني أريد ممارسة الصحافة بشكل احترافي. من خلالها عرفني الناس وتابعوا ما أكتب، ولو بشكل بسيط.
لم أكن وحدي من انطلقت من جروبات القراءة، بل هنالك غيري من الشباب المقارب لي في السن، قدمتنا الجروبات معا كجيل جديد منبثق منها، لنأخذ بعد ذلك فرص حقيقية في أماكن كبرى.
تجربتي أيضا في كوني أحد المشرفين على جروب قراءة، وهو جروب “Book Hub”، والذي أسسه سيف الدين عصام منذ ما يقارب السنتين ونصف تقريبا. وقد دعاني للانضمام إلى إدارته، وافقت بنية أن أحاول أن أؤثر في مجتمع الجروبات، وأن أؤسس لرؤيتي الخاصة في هذا المشروع العصري.
حاول جروب “Book Hub” الخروج من عباءة التسويق بشكل محمود، وركز على الأنشطة والفعاليات غير التقليدية. بالطبع استهدف في البداية الانتشار على نطاق واسع من خلال مسابقات الكتب، والتي تمثلت في “مزاد في الهاب”، والذي أقيم منه ثلاثة مواسم حتى الآن.
ولكن ما يحسب للجروب هو أن فعالياته أصبحت مختلفة عن السائد في جروبات القراءة، فقد نظم ورشا عملية، مثل ورشة “النقد في الهاب”، والتي قدمتها الكاتبة الدكتورة مي التلمساني، وانتهت بإصدار الكتاب التذكاري “النقد في الهاب”، بالتعاون مع دار الشروق.
كما تنوعت الورش من كتابة إبداعية، إلى نقد انطباعي، وورشة وجهة نظر، ثم ورش حالية عن المقال الأدبي، والترجمة، وغيرها الكثير. وأهم ما يميز الورش أنها مجانية بالكامل، وحلقاتها تسجل ليعود لها من لم يستطع حضورها مباشرة. كما أن من يقدمونها هم قامات كبيرة في الثقافة والكتابة المصرية.
توسع الجروب أيضا في لقاءاته مع الكتاب، وقدم برامج لطيفة وخفيفة يحبها القارئ، وانفتح على الكتاب العرب، وتواجد الكتاب الكبار الذين كانوا مقلين في الظهور عبر الجروب. وأشهد أنهم أبدوا إعجابهم بالجروب وساندوه منذ أن كان لا يتخطى عدد أعضائه العشرات.
كنت شاهدا على كل هذا، حاولت في البداية أن أكون فاعلا في الجروب بشكل كبير، وفعلت هذا في بداية نشأة الجروب، ولكن مع الوقت أخذني العمل والكتابة بشكل كبير. بقيت في الجروب شاهدا على ما يتم فيه، مساعدا ولو بشكل صغير لمؤسس الجروب سيف الدين عصام.
ربما يظهر من الكلام السابق أن به بعض التسويق لجروب “Book Hub”، ولكن الأمر ليس كذلك فأنا لا أملك أي مصلحة في مدحه. لم أستفد بأي شكل من الأشكال من الجروب، بل حتى إن قلة قليلة للغاية من تعرف أنني مشرف فيه، وأحد مؤسسيه.
هي فقط محاولة لتدوين شهادة على تجربة جيدة رأيتها واقتربت منها تختلف بشكل ما عن التجارب المتواجدة على ساحة جروبات القراءة.
يمكنني أن أنتقد جروب “Book Hub” في أنه ذهب إلى مسار الكتاب الكبار فقط، دون التفات فعلي للكتاب والكاتبات الشباب، سواء في المسابقات أو الفعاليات بشكل عام، وهذه آفة كبيرة لجروبات القراءة حيث أن الكاتب أو الكاتبة الشابة لا يجلبون نفس التفاعل الذي يجذبه الكتاب المتحققون سلفا.
لا يمكنني بأي حال من الأحوال أن أنكر فضل جروبات القراءة علي، وعلى الشباب من جيلي فقد كانت حلقة الوصل بيننا وبين الدوائر المثقفة، ولكنني أؤمن أن أفضل ما يمكن أن يحدث هو الاعتراف أن هناك مشكلة وخللا داخل أي مشروع من أبنائه أنفسهم. هنا يمكن الحل والبناء من جديد.
أعتقد أنه يجب الآن أن يتم عمل مراجعات لجروبات القراءة من داخلها. لقد اختفت جروبات مثل الجروب الذي عرفني على عالم الثقافة “نادي القراء المحترفين”، والذي كان رائدا في وقته، ويضم آلاف القراء من جميع أنحاء الوطن العربي. وهنالك جروبات تراجع زخمها بشكل كبير، وأخرى بقى عدد أعضائها كما هو منذ فترة طويلة.
أظن أنه ما كان لجروبات من زخم كبير على مدار الخمس سنوات الماضية لم يعد موجودا الآن بنفس الصدى. الصخب الذي سببته جروبات القراءة أراه في تراجع بشكل ما، بالنسبة لي تراجع دور جروبات القراءة منذ وقت، إلا البعض القليل الجاد. وأظن أني وآخرين غيري رأينا أن المسار ينحرف نحو وضع أشبه بثقافة العصر، ثقافة الترند.
جروبات القراءة اليوم في مفترق طرق. إما أن تُراجع نفسها من الداخل، وتعود إلى كونها مشروعًا ثقافيًا يزاوج بين المضمون والتكنولوجيا، فتؤسس لنفسها موقعًا حقيقيًا في الذاكرة الثقافية؛ وإما أن تنجرف أكثر نحو التسليع والترند، فتفقد معناها وتندثر مع الموجة التالية.