«جران تورينو».. عبقرية البساطة فى تقديم صدام الحضارات

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

رامي عبد الرازق       

يشعرك كلينت إيستوود أنه فنان مهموم فى تلك المرحلة من رحلته السينمائية بتشريح وتحليل وتدعيم رؤى معينة عن المجتمع والحضارة الأمريكية وهو الذى قضى اكثر من نصف قرن فى صناعة الصورة الفيلمية عن هذا المجتمع وتلك الحضارة، سواء عبر العودة إلى نقاط معينة فى التاريخ السياسى العسكرى مثل فيلميه «رسائل من ايوجيما» و«اعلام آبائنا» أو التاريخ الاجتماعى المحلى مثل فيلم «المُستبدل»، لتظل اللحظة الامريكية الراهنة هى محور اهتمامه.

وفى «جران تورينو» يعود «ايستوود» للتمثيل بعد ٤ سنوات فى دور «كوالسكى» المواطن ذى المبادئ الامريكية التى تقترب من العنصرية الكاملة والذى حارب فى الحرب الكورية خلال الخمسينيات فى أقصى القارة الأسيوية.

ومع تغير وجه العالم يكتشف أن الأسيويين أصبحوا جيرانا له (لأنهم جاءوا هربا من الاضطهاد فى بلادهم)، وأن الحى الذى يسكنه منذ أكثر من خمسين عاما تحول إلى مجتمع متعدد العرقيات ولكنهم يتعاملون ويعيشون نمط الحياة الأمريكى الحديث، مع محاولتهم الحفاظ على تراث بلادهم، بل إن البيت الملاصق له يصبح بيتا لأسرة من «الهامونج» وهى إحدى العرقيات الفيتنامية.

وتشتبك بحكم هذه الجيرة من ناحية وبحكم طبيعة شخصية «كوالسكى» من ناحية أخرى، التفاصيل الحياتية البسيطة ثم المهمة حتى تصبح تلك الأسرة الأسيوية مع التحول الدرامى للشخصية هى الامتداد الاجتماعى الأسرى لـ«كوالسكى» فى مقابل انقطاع صلاته الأسرية شكلا وموضوعا مع أبنائه الذين يمثلون الأجيال الأمريكية الجديدة سواء هم أو أحفاده منهم.

ويتصاعد السيناريو فى حبكة تراكمية جيدة الصنع رغم بساطتها، فتتوطد علاقة هذا الرجل الأمريكى بالحى الذى يسكنه عندما يتحول إلى بطل نتيجة تدخله لحماية الأسرة الصغيرة التى بلا رجل من إحدى العصابات الأسيوية التى تصبح جزءا من ذلك الحى. وهنا تبدأ رؤى الفيلم فى التفتح للتأويل بمختلف زواياه،

فتجهيل اسم المدينة التى يقع فيها الحى والإشارة فقط إلى أنها فى الغرب الأوسط (وهو صعيد أمريكا أى مركز عاداتها وشخصيتها) بالإضافة إلى كم العرقيات الموجودة دراميا وبصريا طوال الفيلم ومع ظهور «كوالسكى» بصورة البطل الأمريكى الكاوبوى بمسدسه وبندقيته التى قتل بها من قبل فى الحرب الكورية، وتحوله إلى ما يشبه الشرطى الحامى لهذا الحى..

كل ذلك يتخذ دلالة عالمية فالحى الصغير يمكن أن يصبح العالم كله والشخصية الأمريكية هى حامية تلك الأسر – الشعوب الضعيفة أمام تهديد العصابة – أقاربهم – مشاكلهم الداخلية. كل هذه التأويلات تبدأ فى التراكم عبر تفاصيل علاقة «كوالسكى» بـ«ثاو» الفتى الأسيوى ابن هذه الأسرة سواء على مستوى التلقين الشخصى لفلسفة الحياة الأمريكية فى مشاهد تعليمه لغة الحوار الرجالية أو الدفع به ليعمل فى مجال البناء، أو على مستوى المساعدة فى تدعيم تلك الأسرة وكلها دلالات وإسقاطات ذات أكثر من معنى لو خرجنا من حيز الشخصيات الضيق إلى الحيز المجرد لها كنماذج تعبر عن أفكار صناع الفيلم.

فهل لا تزال الشخصية الأمريكية تعتقد أنها الحضارة الأقوى التى تقوم بتعليم الأمم الأخرى كثيرا من مستلزمات الوضع العالمى الجديد رغم قدم تلك الأمم على الحضارة الأمريكية نفسها؟

وهل ذلك الحى رمز للعالم الذى تحتاج الشخصية الأمريكية لكى تحميه من عصاباته الداخلية رغم أن تلك العصابات نفسها تنتهج النهج الأمريكى فى اللغة والملابس والأسلحة؟ وإلى ما يرمز منح «كوالسكى» فى النهاية عربته «الجران تورينو» التى تتحول إلى رمز لكل ما هو أمريكى أصيل إلى «ثاو» وعدم منحها لحفيدته صاحبة الوشم وأقراط الأنف والبطن؟ هل هى محاولة للتصالح أم دعوى لتطوير شكل العولمة أم نقد للذات المتمثلة فى الأبناء والأحفاد وهم مركز المجتمع الداخلى لأمريكا فى الفيلم؟

فى حقيقة الأمر هذا الفيلم مشحون لدرجة التخمة بالتفاصيل ذات الدلالات السياسية والإسقاطات الحضارية بل وصدام الحضارات. ومن هنا جاءت خطة «إيستوود» البصرية كمخرج غاية فى البساطة بل والميلودرامية فى بعض الأحيان حيث ترك كادراته متخمة بتفاصيل الدراما على مستوى الوجوه والأعراق والملابس والديكورات فى زوايا تصوير وأحجام سهلة التكوين وتقليدية جدا، فنجد أبناء «كوالسكى» يركبون سيارة يابانية فى حين أن والدهم كان يعمل لخمسين عاما فى مصنع «فورد» الأمريكى .

والبيرة الأمريكية هى المشروب الرئيسى لـ«كاولسكى» فى بداية الفيلم ثم تتحول تدريجيا إلى مشروب ماء الأرز فى مقابل الطعام الأسيوى الذى يحتل مشاهد كثيرة والذى يعتبر جزءا من الثقافة التى يحتك بها «كوالسكى» ويصطدم معها قبل أن يتعايش ويستوعبها بل وتروقه تلك الأكلات أكثر من الأكلات الأمريكية التقليدية كاللحم المقدد.

مما يدل على التأثير والتأثر وفى المشهد الأخير عندما تبدو جثة «كوالسكى» بعد قتله على يد العصابة الأسيوية متخذة شكل المسيح المصلوب تتأصل لدينا فكرة المخلص الفادى التى تطرحها السينما الأمريكية فى السنوات الأخيرة، وهى أن الشخصية الأمريكية ليست فقط هى المخلص لهذا العالم من محاور الشر ولكنها الفادى الذى بتضحيته يحل السلام .

وقد اتسق الشكل الإنسانى ذو الملامح الطريفة لشخصية «كوالسكى» دراميا والعلاقات التى تحكم الشخصيات فى الفيلم مع الشكل الميلودرامى إخراجيا خاصة مع عدم التركيز على مشاهد الأكشن القليلة كتبادل إطلاق النار أو الاشتباك بالأيدى لأنها تخديم على المحور الرئيسى وليست هى المحور الأساسى. واستتبع هذا الشكل البسيط نسق مونتاجى هادئ لا يميل للتقطيعات السريعة أو الحادة، ولا يستخدم المزج أو الإظلام كثيرا،

وإنما القطع الرزين واللقطات ذات الطول الزمنى المتوسط نسبيا، وقد استخدم «ايستوود» إفيهات بصرية ميلودرامية مثل الدخول «زووم إن» على يد ترتعش ويسقط منها كوب ساعة وقوع حدث جلل فى مشهد رؤيته للفتاة الأسيوية بعد اغتصابها، أو تطابق وجهة نظر الكاميرا مع وجهة نظر الشخصية فى مشاهد الاشتباك بالأيدى، فتبدو الشخصية الشريرة من وجهة نظر الضحية التى تتلقى الضربات، ضخمة وغير آدمية الملامح..

ولكن تلك التيمات البصرية النمطية لا تقلل هنا من قامة «إيستوود» كمخرج بل تثبت قدرته على قراءة النص دراميا وتوظيف أى رؤى مناسبة حتى لو كانت مستهلكة.. إنها عبقرية البساطة وليست ضعف الفارغ أو هشاشة العاجز عن إفراز ما هو جديد ومبتكر.

 

 

ريفيو

الاسم الأصلى: Gran Torino

الاسم التجارى: جران تورينو

سيناريو: نيك شنك

إنتاج وإخراج وتمثيل: كلينت إيستوود

مدة الفيلم: ١١٦ دقيقة

ــــــــــــــــــــــــــ

ناقد سينمائي مصري

مقالات من نفس القسم