تحديد حجم الرواية، والطريقة التى سيتم بها تشكيل الزمن، ومناطق التفصيل والإيجاز، كلها عناصر أساسية فى صنعة الرواية، وإذا كنا نقول إن الكثير من الروايات المعاصرة كان يجب أن تستغنى عن الإسهاب لكى تكون “نوفيلا” أكثر تكثيفا وتركيزا، فإن “جرافيت” تعانى من مشكلة عكسية، إذ كانت تحتمل تفصيلات كثيرة تلقى أضواء أقوى على شخصياتها، حتى الوصف انتهج العمومية دون الإستقصاء، كانت الرواية بحاجة الى تفصيلات تجعلنا نشعر بالعصر باستثناءات نعثر عليها أحيانا، فكأننا حصلنا على كنز الكنوز، وبينما يتحسن كثيرا الجزء الثانى فى الرواية، عندما ينتبه المؤلف الى عنصر الصراع، فإن الجزء الأول يكاد يجعل الخطوط منفردة، هنا مشكلات سردية واضحة جدا، ولعل المؤلف قد شعر بهذه المشكلات، فكتب فى صفحة مستقلة، وقبل ختام الرواية جملة موقّعة باسمه (!!!) تقول: “وما حيواتنا إلا قصصا قصيرة، فأنّى للراوى أن يطيلا؟!”، بصرف النظر عن اقتحام الروائى لحكايته بطريقة ساذجة، فإن منطق الجملة يثير الضحك، فإذا كانت الحياة مجرد قصة قصيرة، فلماذا لانقتصر على كتابة القصة القصيرة ؟!! لماذا نكتب الرواية من الأساس؟!! الرواية أيضا ليست فن الإطالة، ولكن الفكرة وشخوصها ودرجة إشباعها هى التى تحدد حجم كل رواية، ولو كان موضوع “جرافيت” بسيطا لما طالبنا بأن يستحق عمقا وتفصيلا وسردا يشبع فكرته، لا نطالب قطعا بالإطالة لأنها عيب فنى حتى لو كتبت خمس صفحات، ولكننا ننتقد التجارب المبتورة، حتى لو كُتبت فى 222 صفحة مثل “جرافيت”.
لنتوقف أولا عند الفكرة الذهبية البارعة: بين عامى 1927 و1928 كان يتشكل تياران مختلفان: تأسيس جماعة الإخوان المسلمين التى وضعت بذرة التأسلم السياسى المعاصر، وإرسال 12 فتاة مصرية الى فرنسا وانجلترا لاستكمال دراستهن العليا، جماعة دينية محافظة مدعومة لمواجهة التيار الوطنى، وحركة نسوية صاعدة مدعومة بأصوات حكومية مستنيرة، صعود حسن البنا ومثابرته، فى مواجهة صعود درية شفيق إحدى أبرز طالبات البعثة الرسمية، وجهان لمصر ما بعد الإستقلال ما زالا يتصارعان حتى اليوم، تتغير الأسماء والصور، ولكن جوهر الصراع واحد بين النظر الى الخلف والنظر الى الآمام، بين العودة الى الماضى رفضا للعصر، ومحاولة مواكبة هذا العصر، والتفاعل معه، بين مبدأ السمع والطاعة، والبحث عن الحرية بكل تجلياتها، سواء على مستوى الفرد أو المجتمع ، ليس هناك مثل كفاح المرأة تعبيرا عن هذه الحرية، وليس هناك مثل جماعة الإخوان تعبيرا عن نظرية السمع والطاعة.
معادل الفكرة المبدئى كان أيضا ذكيا حيث لن يحكى المؤلف بشكل مباشر لا عن درية شفيق، ولا عن حسن البنا، ولكنه سيعكسهما فى مرآتين هما نوال عارف زميلة درية فى بعثة فرنسا، وحلمى الأهوانى أحد أتباع حسن البنا، وبينما تنقل لنا حكاية نوال معالم شخصية درية كامرأة قوية الشخصية ومستقلة وحرة، فإن حكاية حلمى مع الجماعة تنقل لنا محاولة تحويل الفرد الى ترس منفّذ تحت شعارات فضفاضة، نوال ستتمرد ولكن بعد وقت طويل من الرضوخ، وحلمى سيتمرد ولكن بعد أن انتهى تعاونه مع الجماعة الى تفجيرات حارة اليهود فى نهاية الأربعينات.
يمنح هذان العمودان (قصة نوال وحكاية حلمى) الرواية فرصة ذهبية لكى تمتلىء عمقا وليس عرضيا كما حدث، أعنى بذلك أن يغوص الروائى ليحلل ويتدرج فى البناء بصبر ودأب، ولكن ما حدث هو أن الرواية اهتمت دوما بما حدث، ولم تتوقف لتسأل : كيف حدث؟ ظلت هناك حلقات مفقودة تجعلك تستغرب رضوخ نوال الحاصلة على أعلى الشهادات من السوربون لزواج تقليدى مع ابن عمها المنفلت كامل، لا توجد حتى مقاومة أو ممانعة، وكأن صفاتها الشخصية الأقل قوة من درية شفيق هى الأكثر تأثيرا مما تلقته من تعليم وحياة مستقلة، فيم إذن كانت أهمية البعثات إذا كان الأمر يتوقف بالأساس على شخصية كل امرأة لا على التغيير الذى تتركه بعثتها على حياتها؟! نظرة الطائر التى اعتمدتها الرواية لم تستوعب من معنى استقلال المرأة سوى إصرار درية شفيق على حضور حفلة راقصة على السفينة التى تحملها الى فرنسا، أو إصرارها على تغيير دراستها الى الفلسفة، أو انفصالها عن خطيبها، وارتباطها بشخص آخر ، وكلها أمور (بالمناسبة) كانت تقوم بها نماذج نسائية من الطبقة العليا المصرية، دون أن تكلف نفسها مشقة الدراسة فى السوربون.
لا يوجد تعميق لأى خط من الخطوط، ولن تفهم بالضبط هل أحبت نوال الفرنسى كلود أم أنها أحبت استنارته ومساعدته لها لكى تتغير؟ ولن تستوعب تحولات نوال وإصرارها على الطلاق من زوجها كامل بعد صبر طويل على المهانة، لايمكن تفسير هذا التحول بأنه يقظة استنارة قديمة، إذن أن أى امرأة لم تدرس فى السوربون يمكن أن يفيض بها الكيل فتطلب الطلاق من زوج مقامر وعربيد، مصر الكوزموبوليتانية تأرجحت باستخدام نظرة الطائر أيضا بين حميمة العلاقة مع اليهود، وانتهازية اليونانيين والأرمن، فى المحصلة: لم تستطع نوال أن تحكى إلا من السطح عن درية شفيق، ولم يستطع حلمى أن يحكى إلا من السطح عن الإخوان، ظل نموذج نوال متهافتا حتى فى تمرده الشخصى، وظل نموذج حلمى متهافتا حتى فى تمرده على الجماعة الذى أداره والده، وبينما صلب الرواية عن تيارين وصوتين، فإنه ليس لدينا سوى صوت السارد العليم بكل شىء سواء فى مصر أو فى فرنسا، والذى لا يتردد أن يشرح فكرته بصوت عال وتقريرى مباشر، يذكرنا بصوت الراوى فى أفلام المخرج إبراهيم عمارة :” ولكن اليوم لم يكن ليؤرق نوال البحث عن إجابة للسؤال، فقد تصالحت مع زمنها السابق، وجعلت مما مرت به نبراس رفضها لمزيد من قهر أو ظلم، لم يعد يهمها إن فاتتها فرصة وإن عزمت على أن تملك قياد ما هو باق فى عمرها لا يُملى عليها ولا تُجبر مرة أخرى على ما لاتريد. لم يعذبها ندم على ما فات بقدر تطلعها لما هو قادم وإصرارها على أن تكون ترجمة لما بها من قدرة، ستغدو ما حلم به أبوها نيابة عنها: امرأة ذات إرادة وقرار”.
وحتى عندما يختتم هشام الخشن روايته، فإنه ينسى أنها رواية عن تيارين مستمرين الى اليوم، فيخصص الصفحات الأخيرة لإغلاق أقواس بعض شخصياته سواء الواقعية أو المتخيلة، ومرة أخرى، فإن هذه الخاتمة لاتختتم شيئا، فلا استقالة أحمد السكرى من الإخوان أدى الى إغلاق قوس الجماعة، ولا وفاة درية شفيق وضع نقطة فى نهاية سطور كفاح المرأة المصرية ضد القهر، ولا استخدام نوال للألوان بدلا من الجرافيت (المادة التى تصنع منها الأقلام الرصاص) يعنى أن جيل درية الابنة أو جيل الحفيدات يمكن أن يلوّن حياته مثلهأ ، المسألة أعقد من ذلك بكثير. استدعاء التاريخ من السطح، ومن خلال لغة العناوين، لايمكن أبدا أن يصنع رواية ناجحة، إلا بالإشتغال على الفكرة طولا وعرضا وعمقا، وروايتنا مع عظيم الأسف تفتقد ذلك، رغم تقديرنا الكبير للفكرة الذهبية، وللإجتهاد الذى خذلته القدرة والحرفة.