عوالم متوازية خلقتها عز الدين في 17 فصلاً، مزجت فيها بين الواقعي والأسطوري، على لسان “بستان البحر”، الرَّاوية المنذورة لشيء غامض، كاهنة الأبيض والأسود، المولودة فوق جبال الديلم، على مقربة من أطلال قلعة “أَلموت” في إيران.
الحكَّاءة التي حملت عبء ملء ثغرات الحكاية التي ورثتها عن أبيها، الذي كان مقتنعاً بأن ابنته إن استطاعت فكَّ شفرات المخطوطات التي تركها لها فستنتهي تغريبة شعب جبل “قاف” ويعود إلى موطنه الأصلي، كما ستُبعث الأميرة “زمردة”، ابنة الملك “ياقوت”، من رمادها لتحكمه (عبر تنقية حكاية الأميرة من التحريف وإعادتها إلى متن “ألف ليلة”) مستفيدةً من حكمة “قاف”، المؤدية إلى فهم الذات ومن ثم فهم العالم.
تقفز عز الدين، أو بالأحرى راويتها “بستان البحر”، بين الأزمنة لتعقد مصالحة بين ماضٍ سحيق وحاضر معاش، لتجمع أشلاء الحكاية وتربط بعفوية بين خيوط شخصياتها، فلا يكاد القارئ يفرّق بين الواقعي والأسطوري. وفي هذا السياق، تقصّ حكاية “زمردة” التي خطف أبوها الملك أمها “نورسين” من منطقة “جالسيان” لتعيش معه على الجبل المذكور، فتهرب الأم وتترك ابنتها وهي في سن الخامسة.
ثم تورد الراوية في فصل آخر حكاية “هدير”؛ الفتاة المصرية التي أضاعت وهي في السادسة من عمرها خاتماً يعلوه قطعة من الزمرد كان لوالدتها التي تركتها وسافرت مع زوجها الجديد إلى كندا، لتعيش “هدير” في القاهرة عام 2011 مع جدتها “شيرويت” ذات الخلفية الأرستقراطية.
استدعت عز الدين من “ألف ليلة” شخصية “بلوقيا”، لكنها غيّرت دوره الأصلي، ففي “جبل الزمرد” أنجز “بلوقيا”، القادم من الطرف الآخر للعالم، رحلة طويلة إلى “قاف” تعرض خلالها لمخاطر عدة أثناء مروره بجبل “المغناطيس”، فقط لأن هاجساً ألحَّ عليه منذ صباه ليرحل ويتيه. وهناك أيضاً شخصية الرجل الإيراني الأربعيني “كريم خان” الذي قابلته “هدير” أثناء رحلتها إلى المكسيك، واستدركها في حوار ثم دعاها إلى البحث عن “بستان البحر” بعد عودتها إلى القاهرة، لتعمل معها في دراستها عن بطلات “ألف ليلة” في الحكايات الشعبية.
ورغم اختيار عز الدين القاهرة في 2011 لتعيش فيها “هدير”؛ إلا أنها جعلت أحداث ثورة يناير التي زلزلت مصر خلفية فقط في حياة هذه الشخصية، تسمح للكاتبة بزلزلة جبل “قاف” في الحكاية، بعد أن دوّنت “مروج” حياة الأميرة “زمردة” مخالفةً بذلك قوانين المملكة التي تُحرّم تدوين حياة الأميرة. لكن “مروج” ليست نادمة أبداً على ما فعلت رغم ما ستتعرض له المملكة، لإيمانها بأن الأميرة تسببت في لعنة المملكة، لعنة لن تفك إلا بالإسراع بالمصير المحتوم: أن تضطلع “مروج” شخصياً بحرق الأميرة التي ردّدت قبل أن تتحوّل إلى تراب: “الحكاية ستعيدني، وكاهنة الأبيض والأسود ستجمع شظاياي“.
أثارت عز الدين إشكالية العلاقة الشائكة بين الشفهي والكتابي من خلال المقدمات التي وضعتها على رأس فصول الرواية، مثل “لم تكن الكتابة يوماً قنطرة وصل، بل خنجر قطع، غير أن رومنسيتنا هي ما أوهمنا بالعكس”، و”الكتابة ليست جسراً نعبره، بل حفرة نقع فيها”، و”تموت كلماتي ما إن أنطق بها، لا تغادرني، تلاحقني أشباحها لمعاقبتي على جرم غامض”، و”الكتابة انغلاق الدائرة، خيانة المعنى لذاته”. هكذا تتجلّى الإشكالية في نهاية الفصل قبل الأخير، “النزوح إلى العالم”، في خضم مأساة التيه التي تعرّض لها شعب “جبل قاف” عندما فكّر في كيفية الحفاظ على تراثه الشفوي. وألمحت عز الدين إلى ذلك بقولها إن “الكتابة موت الكلمات” وإن “الكلام حيوي، مندفع وصاخب، والكتابة محاكاة باهتة له، الكلام هو الأصل، والكتابة نسخة مزيفة“.
“من يحرق الأميرة يتمكن وحده من استعادتها.. من يزلزل الجبل يقدر دون غيره على بعث أميرته مرة أخرى” قالت “بستان البحر” بعد أن رأت في خيالها مطراً من زمرد يهمي بغزارة، فذهبت إلى مكتبتها لتجد حكاية “جبل الزمرد” تتوّسط جميع طبعات “ألف ليلة”؛ كأنها لم تغادرها قط. هكذا ختمت منصورة عز الدين روايتها لتترك أبواب التأويلات مفتوحة.
ارتكزت الكاتبة في روايتها على عدة مصادر ذكرتها في نهاية الكتاب، مثل “مسالك الأبصار في ممالك الأمصار” لابن فضل الله العمري؛ “محاورة فايدروس” لأفلاطون؛ “صيدلية أفلاطون” لجاك دريدا؛ “خريدة العجائب وفريدة الغرائب” لابن الوردي؛ “عجائب الهند” لبرزك بن شهريار؛ “منطق الطير” لفريد الدين العطار؛ بالطبع “ألف ليلة وليلة“.