ثم افتح رواية “جبل الزمرد” (2014)، دار التنوير، لمنصورة عز الدين، ستجد نفس الجملة بأول صفحة في الرواية، قد فازت بجائزة أفضل رواية عربية في معرض الشارقة الدولي للكتاب دورة 2014.
أما الكاتبة منصورة عز الدين، فمن مواليد 1976. نشرت أول مجموعة قصصية عام 2001 بعنوان “ضوء مهتز”، وصدرت روايتها الأولى “متاهة مريم” عام 2004، وروايتها الثانية “وراء الفردوس” 2009، ووصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية2010.
“جبل الزمرد” كما تستلهم من “الليالي” عالمها وعبقها، لا تبخل بالإضافة إليها من الواقع الحديث؛ فتجد تشابهًا بين مدينة العملاق إيليا التي تحولت إلى اللون الرمادي، وبين قاهرة 2011 إبان الثورة وعشوائيتها وباعتها الجائلين وضبابية المشهد حتى تبدو “كالسطح الخادع” الذي يحمل “عنفًا مكتومًا في كل شيء”.
أما فيينا التي تزورها الراوية العليمة “بستان البحر” فبها مسحة من الأسى، وكذا تورنتو متجمدة الطقس والقلب. حتى ساوث شيلدز، تلك المدينة البريطانية المنعزلة على بحر الشمال لا تبدو كاملة إذ إنها منبسطة خالية من الجبال، وكأن هناك كراهية مقيمة للمدن والأماكن الضيقة وانتصارًا للطبيعة والبراح.
كيف لا والسبيل إلى الحرية وسيلته الطيران، سواء كان هذا الطيران طيران الشخصيات نفسها كما تخيلت بستان البحر نفسها شخصية ألف ليلة (منار السنا) التي تلبس الريش وتطير، أو كما طارت الشابة الصغيرة هدير في نهاية الرواية، أو الطيران باستخدام الطيور الأسطورية كالعنقاء والرخ كما يفعل ياقوت ملك جبل الزمرد وابنته الأميرة زمردة حينما اصطحبت معها الغريب بلوقيا واتجها للبحث عن والدتها نورسين في جبل المغناطيس.
إلا أن لهذا الطيران والتحليق أن ينتهي ويستقر في أصل وجذر يتمثل في الجبال، وهي تيمة واضحة عبر الرواية فهناك الجبال السبعة التي استقر بها قوم جبل الزمرد (ويُسمى جبل الحياة أيضًا) بعد تيههم في الصحاري، وما للرقم سبعة من دلالات دينية وتراثية، ويقابله جبل الحياة جبل المقفر المغناطيس أو جبل الموت الذي يمثل مركزًا للدمار والفناء فيما يشبه مثلث برمودا الحالي والذي يُقال إن جباله قُدت أيضًا من المغناطيس فتجتذب حديد السفن إليها وتُهلك كل من عليها.
يتضافر الحكي في الرواية بين العالم الواقعي والخيالي (عالم الليالي) فتكتمل كل قصة بتفاصيل الأخرى وتتشابه شذرات من شخصيات الخيال بشخصيات الواقع بحيث تشبه كل الشخصيات بعضها البعض، فمثلًا يجمع إيليا ومروج ببستان البحر الانكباب الدائم على التدوين، ويجمع نورسين وابنتها زمردة التعطش إلى المعرفة، وقد تحول إيليا إلى وحش عملاق أثناء بحثه عن الليل وكذا تحولت نورسين إلى روح بعد أن اعتصرتها ملكة حيات جبل قاف وحاميته، وفقد كل من بستان البحر وإيليا بصرهما لفترة مؤقتة.
وفيما يخص الموت نجد أن زمردة والراعي قد احترقا وإن كان احتراق زمردة مؤقتًا، كما نجد المتشرد أخضر العينين في الميدان القريب من منزل جدة هدير وقد انتحر شنقًا كما فعل الملتفتون طول الوقت إلى الوراء من أهل جبل الزمرد أثناء تيههم حين شنقوا أنفسهم فوق أغصان أشجار المانجو. فكأن لخضار عيني المتشرد علاقة بجبل الزمرد حتى يشارك أهله مصيرهم.
أما الأحلام فتعد بالكثير كحلم الملكة نورسين بالأحجار الفضية المسببة للضحك القاتل والتي نومتها وقادتها من خلال أحلامها إلى جبل المغناطيس، ونجد أيضًا حلم بلوقيا بالارتحال إلى جبل الزمرد ورؤيته للجميلة زمردة في حلمه حتى وإن قاده هذا الحلم إلى هلاك. فهل حقًا تستحق الأحلام أن نسير خلفها ونتبع قدرنا المحتوم؟
هكذا فعلت زمردة حين حلمت بتخليص جبل الزمرد من عزلته بقتل ملكة الحيات التي تحرسه، والتي كان يجدها والدها الملك ذات صنيع كبير في حماية الجبل من المتطفلين والحفاظ على عزلته، كالرجل الذي يصرخ في القصة الواقعية من شباك شقته بالقاهرة وقد “فقد سلطته على أبنائه ممن أخذوا أدوار البطولة تاركين له فقط التحذير المضجر من عواقب الثورة”، لكن زمردة تأخذ بزمام الأمور وتقتل الحية لتفهم نفسها والعالم من حولها، وينطبق عليها مقتطف فصل “في الضباب” القائل “تلك هي لعنتي.. لعنة الوريث، من يكون امتدادًا لغيره”.
ويظهر الكتابي والشفاهي في الحفاظ على قصة الأميرة من التحريف ومن ثم استعادتها وعودة أهل الجبل من تيههم، فطلبت زمردة من قومها قبل احتراقها أن يدونوا قصتها، بينما منع الكهنة النساء من التدوين وخاصة التدوين عن العائلة المالكة، مما عرّض أهل الجبل للمزيد من التيه، ورغم ذلك تظهر مظاهر عدة بالرواية لتفضيل المشافهة على الكتابة، “الكتابة موت الكلمات، الكلام حيوي، مندفع وصاخب”.
رغم التقاء المصائر وانتهاء جديلة الحكي إلا أن النهاية تبقى مفتوحة للتأويل في الكيفية التي يتم بها استرداد أميرة “جبل الزمرد” وتنقية حكايتها “الحكاية الناقصة من الليالي” -وهو العنوان الفرعي للرواية- من التحريف.