جبريل الذى أعرفه

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

خليل الجيزاوى

محمد جبريل قيمة وقامة فى حياتنا الثقافية، تختلف أو تتفق مع ما يكتبه، فالقراءة والكتابة وجهات نظر، فما نكتبه ليس قرآنًا؛ ولكنه أدب: قصة، رواية، شعر، وكل ما نكتبه يقبل النقد والمناقشة، والاختلاف حوله، هذه طبيعة الدرس الأدبى؛ لكن مشروع محمد جبريل الروائى سيظل شاهدًا على موهبته الأدبية، فحينما حضر من الإسكندرية للقاهرة لم يكن يملك إلا موهبة الكتابة، وقال لى فى حوار فى بيته بمصر الجديدة وأمام زوجته الدكتورة زينب العسال: (دخلت عالم الصحافة بثلاث قصص، حيث حضرت للقاهرة عام 1959 وعمرى واحد وعشرين عاماً، أحمل بين أوراقى مجموعة من القصص القصيرة التى كتبتها، قدّمنى الفنّان التشكيلى أحمد طوغان للكاتب سعد الدين وهبه، مدير تحرير جريدة الجمهورية عام 1959، سأل سعد الدين وهبه ماذا تكتب؟ قلت: أكتب قصص، وناولته ما بيدى، فقرأ ثلاث قصص: الماهية، انتباه، الصورة، ثم فتح بابًا من حجرته، وقال لمن يجلسون على مكاتبهم: زميلكم الجديد الصحفى محمد جبريل، وتركنى وأغلق بالباب، ووجدتنى أجلس بجوار: محمد حمودة وسليمان فياض وأبو المعاطى أبو النجا وجلال السيد ومحفوظ عبد الرحمن)، ثلاث قصص وموهبة الكتابة هى كل الأوراق والشهادات الدراسية التى عمل بها محمد جبريل بجريدة الجمهورية عام 1959، ثم انتقل للعمل بجريدة المساء عام 1960، كاتبًا بالقطعة، حتى تم تعيّينه مُحرّرًا أدبيًا بجريدة المساء عام 1965.

اللقاء الأول

قابلت الأستاذ محمد جبريل ـــ لأول مرة منذ أكثر من أربعين عامًا ــــ بصحبة إبراهيم فهمى فى ندوته بجريدة المساء مساء الخميس شتاء عام 1983؛ يومها كنت لا أزال طالبًا بالسنة الثانية بقسم اللغة العربية كلية الآداب جامعة عين شمس، وقد تعرّفت على إبراهيم فهمى ـــ يكبرنى بعشر سنوات وينشر قصصه بالصحف والمجلات الثقافية، كان يكمل دراسته بكلية الحقوق جامعة عين شمس، بعد حصوله على دبلوم التجارة، ثم درس الثانوية العامة ليلتحق بالجامعة ـــ فى ندوة جماعة اللغة العربية، أشهر ندوة أدبية خلال الثمانينيات بقسم اللغة العربية كلية الآداب جامعة عين شمس، استقطبت المواهب الأدبية من معظم كليات جامعة عين شمس، وكان يدير الندوة زميل الدراسة الشاعر محمد القصاص ــ صاحب أغنية علىِّ الضحكاية، غنّاها هانى شاكر ــــ ولمّا كنت أسكن فى القاهرة مُغتربًا، فقد شاركنى إبراهيم فهمى طيلة الوقت، كان يتردّد على فى قسم اللغة العربية، ويحضر معى المحاضرات، خاصة محاضرات النقد الأدبى، للدكتور عز الدين إسماعيل، والدكتور عبد القادر القط، ومحاضرات فقه اللغة العربية للدكتور رمضان عبد التواب، بعد المحاضرات كنت أقول لإبراهيم فهمى: سأعزمك على طبق كشرى بميدان العباسية، ويردّ مازحًا: وأنا سأعزمك على ندوة: فى نادى القصة مساء الاثنين، أو أتيليه القاهرة مساء الثلاثاء، أو دار الأدباء مساء الأربعاء، أو ندوة محمد جبريل مساء الخميس؛ ولهذا يعود الفضل لإبراهيم فهمى الذى عرّفنى على المنديات الأدبية مبكرًا أثناء مرحلة دراستى بالجامعة.

اللقاء الأخير

اتصلت بالأستاذ محمد جبريل مساء السبت، وقلت له مازحًا عاوز أشرب الشاى معك منذ أكثر من أسبوع، وأكملت ممكن أزورك الأحد أو الاثنين، صمت قليلا، ثم ردّ: والله مريض، ممكن تتفضل بزيارتى الاثنين بعد الثامنة مساء أكون ارتحت قليلا حتى أقعد معك ونتكلم كثيرًا، وفى تمام الساعة الثامنة مساء الاثنين 20 يناير 2025، كنت أضرب جرس باب شقة الأستاذ جبريل الكائنة بالدور الثانى برقم 18 شارع الدكتور محمود عزمى بمصر الجديدة، وعندما فتحت الباب دكتورة زينب مازحنى الأستاذ جبريل ضاحكًا: لسه إيدك ثقيلة على الجرس، وضحكت قائلا: لازم البروجى يضرب بحضور الجيزاوى، وجلست معه وحضرت الجلسة الدكتورة زينب العسال، وظلّ يتكلم معى لمدة ساعة كاملة فى الشأن الثقافى، وأشفقت عليه؛ كان يبدو مرهقًا، لكن والله أشهد كان ذهنه حاضرًا، ونظر للدكتورة زينب العسال قائلا: لا أنسى يا دكتورة زينب يوم قابلنى الجيزاوى فى شارع القصر العينى أمام مسرح السلام، واحتضننى بحبّ شديد، ولمعت عينيه، فقلت مُعقبًا: أنت أستاذنا الذى قدّمنى للحركة الأدبية، ونشر قصّصى لأول مرة، ولابد أن نذكر أهل الفضل.

وبين اللقاءين

بعد اللقاء الأول حيث لم تمر سنة على حضورى ندوة الأستاذ جبريل، فى شتاء 1984 شاركت بالندوة، بعد أن انتهيت من قراءة قصة قصيرة، ناقشها وعقّب عليها الكثير من الحاضرين، سمعت الأستاذ وهو يمدّ يده: هات هذه القصة، وأضاف: أعتقد عندك منها نسخة ثانية، فقلت له مؤكدًا: البنت التى تكتب لى القصص على الآلة الكاتبة تضع كربون حتى تعطينى ثلاث نسخ من كل قصة، وبعد أسبوع وجدت قصتى منشورة بجريدة المساء، وطالعت اسمى لأول مرة بجريدة المساء: «الحدود» قصة قصيرة بقلم: خليل الجيزاوى، طرت فرحًا واشتريت أكثر من عشر نسخ، كأنّه يوم العيد.

محمد جبريل هو الأب الروحى لجيل الثمانينيات الأدبى، فى ندوته الشهيرة قدّم عشرات المواهب الحقيقية فى القصة القصيرة والرواية وشعر الفصحى والعامية، والكثير من هذه المواهب الشابة الواعدة وقتها، أصبحوا الآن أدباء متميزين. 

وحين انتقلت للعمل بإدارة النشر بالمجلس الأعلى للثقافة تردّد الأستاذ جبريل على مكتبى ـــ كان عضوًا فى لجنة القصة بالمجلس ـــ لمتابعة ومراجعة بروفة كتابه ضمن إصدارات المجلس الأعلى للثقافة، وبدأت أتردّد على مكتبه بجريدة المساء وكنّا نتبادل إهداء الكتب الصادرة حديثًا، وقرأت معظم الروايات التى أصدرها، لكن تأتى ثلاثيته الروائية: رباعية بحرى، فى صدارة مشروعه الروائى، حيث رصد معالم حى بحرى شبرًا شبرًا وحارة حارة وشارعًا شارعًا، وكان يحلو للأستاذ جبريل قائلا: لقد غادرت حى بحرى، ولكنّه لم يغادرنى، ظلّ ساكنًا تحت جلدى، هو الهواء الذى أعيش به.

رباعية بحرى

استمر محمد جبريل يكتب القصة القصيرة وكتابة التحقيقات الصحفية فى جريدة الجمهورية وجريدة المساء ثم بدأ يكتب قصصه ومقالاته فى مجلة البوليس التى كان يرأس تحريرها سعد الدين وهبه، ونُشرت قصته الأولى: القرية التى عرفت الحب، بعدد مارس عام 1965، بمجلة القصة الشهرية التى كانت تصدرها وزارة الثقافة والإرشاد القومى فى مصر برئاسة تحرير محمود تيمور، وأنجز ثلاثة عشر مجموعة قصصية، الأولى: تلك اللحظة من حياة العالم ـــ دار النشر للجامعين سعيد السحار عام 1970، لكن إنجازه الحقيقى فى الرواية، حيث أنجز للمكتبة العربية خمس وأربعين رواية، فهو صاحب مشروع روائى كبير بدأه برواية: الأسوار ـــ الهيئة المصرية للتأليف والنشر عام 1972، وتُعدّ رواية رباعية بحرى ملمحاً مهمّاً فى مشروعه الروائى، وتحمل أسماء: أبو العباس، ياقوت العرش، البوصيرى، على تمراز، وتعدّ مساجدهم معالم مهمّة للسياحة الدينية بحى بحرى بالإسكندرية، ورغم أن محمد جبريل غادر الإسكندرية – منذ أكثر من ستين عامًا – للعمل بالصحافة فى القاهرة، إلا أن الإسكندرية لم تغادره، فهو لا يزال عاشقاً لترابها، مُخلصاً فى رصد تفاصيل الحياة، يحملها حيّة نابضة فى تلافيف الذاكرة؛ ليكتب مازجاً الواقعى بالمتخيل، التاريخى بالأسطورى، التراث الحقيقى بالموروث الشعبى، مزجاً يخلط أنفاس البسطاء برائحة البخور حول واحد من أشهر مساجد الإسكندرية: المرسى أبو العباس؛ لينصهر كل ذلك فى بوتقة مشروعه الروائى المتدفق الذى يحتاج أن يلتفت إليه الدرس الأكاديمى، على الرغم من هذا المنجز الأدبى الكبير إلا أن الجوائز الأدبية تأخرت كثيرًا فى معرفة الطريق إليه؛ فقد حصل محمد جبريل على جائزة الدولة التشجيعية فى الآداب عن كتابه: مصر فى قصص كتّابها المعاصرين عام 1975؛ لكن جائزة الدولة التقديرية تأخرت كثيرًا فى معرفة الطريق إليه، وبالأخير نال جائزة الدولة التقديرية فى الآداب عام 2022.

المثل الشعبى يقول: اللّى يخلف لم يمت، ويمكنّنى أن أضيف قائلا: واللّى يكتب لم يمت، العقاد، وطه حسين، ونجيب محفوظ باقون خالدون بيننا بكتبهم، وكذلك محمد جبريل لم يمت، سيظل موجودًا بيننا بكتبه ورواياته التى تعتبر شاهدة على عصر ملىء بالأحداث والصراعات السياسية والتحولات الاجتماعية؛ لأن الكتاب أطول عمرًا من صاحبه.

 عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم