د. محمد المسعودي
أين يتمثل ثقل الواقع في رواية “حكاية مغربية”؟ وكيف تعمل الرواية على تمثل هذا الواقع الثقيل؟ وهل تحقق الرواية خفتها وهي تصور ثقل الواقع؟
هذه أسئلة ناوشتني وأنا أقرأ رواية البشير الدامون الرابعة التي جاءت بعد أعماله: “سرير الأسرار” و”أرض المدامع” و”هديل سيدة حرة”، فكانت انطلاقة نحو مقاربة عمله الجديد هذا، وفي ضوئها سنلتمس الأبعاد الفنية والدلالية للرواية.
تحكي رواية “حكاية مغربية” عن فتاة تعيش في أسرة فقيرة، وفي حي شعبي، مشبع بقيم الحقد والحسد والانحراف والكراهية والمجون والتفسخ والجريمة.. وكل العلل الاجتماعية التي أصابت المدن المغربية، فكان الإبداع مثقلا بوقر هذه الاختلالات الأخلاقية والسلوكية والسياسية والمادية (الاقتصادية).
تتخذ الرواية من هذه المدارات منطلقا لتشكيل متخيلها، ولتكوين أبعادها الدلالية. وهكذا نجدها تمعن في رصد معاناة بطلتها، وهي تحيا في حيها الفقير ذاك، وتتعرض لشتم جارتها مليكة التي تعيرها بسجن أخيها حسن، كما تتعرض لمحاولة اغتصاب من القاضي الذي ذهبت إليه راجية التدخل لتخفيف حكم السجن عن أخيها. وبعدما ستتعرف على عالم التهريب من خلال جارتها نجية، سيفضي بها الأمر إلى ولوج شبكة لترويج المخدرات وعوالمها الإجرامية من بابها الأوسع. هكذا تسقط البطلة في دوامة الواقع بتياراتها الثقيلة، وبمتاهاتها المتشعبة، بحيث تتعرض للعنف، وإلى محاولة للقتل حتى ينتهي بها المطاف في مستشفى الأمراض العقلية والنفسية بعدما أصيبت بانهيار عصبي ونفسي.
هذه نتف من عوالم الرواية سردناها في إلماحة سريعة، وهي وقائع متشابكة ومعقدة تكشف عن إلقاء تدهورِ الواقع وتخلفِه بكلكله على فئات اجتماعية عريضة، ودخولِها عالم الجريمة قسرا أو عن طريق الإغراء المادي أمام إكراهات التحولات الاجتماعية الرهيبة.
تقول الساردة مصورة هذا الواقع الفظ الثقيل الذي شاهدته ووقفت عنده أول مرة عند الحدود المغربية الإسبانية بسبتة المحتلة:
“كانت أول مرة أصل فيها إلى باب سبتة. في اليوم الأول ظللت مشدوهة أحدق في أفواج من مئات الرجال والنساء والأطفال تعبُر الحدود لتعود حاملة على ظهرها أنواعا مختلفة من البضائع. نساء في مثل سن أمي وأكبر وأخريات صغيرات وشباب وشيوخ وأطفال، كلهم يعولون على باب سبتة كباب لرزقهم. يهربون أغطية وألبسة ومواد ميكانيك ومواد غذائية ومواد تجميل… منهم من يشتغل لحسابه، ومنهم من يشتغل لحساب مهربين كبار… معظم السلع رديئة من إنتاج الصين.
الدخول والخروج إلى مدينة سبتة وصم نفسي بجراح جديدة. كنت أشمئز من مشاهدة نساء يتقاتلن دفعا وجريا للدخول أو الخروج من باب العبور وفوق ظهورهن أثقال وأحمال، وسياط رجال الأمن الإسباني تارة، والمغربي أحيانا تنزل على أطرافهن وظهورهن ورؤوسهن. تعنيف يخلف مرارا عددا من الجرحى” (الرواية، ص. 57-58)
هكذا يكشف هذا المشهد التصويري عن معاناة الناس عند الحدود المغربية الإسبانية من أجل تهريب بعض السلع الرديئة، وتعرض النساء خاصة للتعنيف والضرب من رجال الأمن الإسبان والمغاربة على السواء. بهذه الشاكلة يعري المشهد التصويري ثقل الواقع وفظاظته، ويعري اختلال الحياة، وتسلط القهر والظلم. وهذا المشهد الذي وقفت عنده الساردة وصم نفسها بجراح جديدة تنضاف إلى جراحها القديمة: الفقر، والبطالة، والشعور بالتيهان وغياب الحب في محيطها، وإحساسها بالعار من واقع أخيها حسن السجين. لكنها على الرغم من ذلك تصر على المغامرة واتخاذ التهريب وسيلة إلى كسب لقمة عيشها. هذا الطريق الذي سيفضي بها إلى طرق أخرى أشد إظلاما وخطرا، مما سيجعلها تقف على ثقل الواقع، وظلم الحياة أكثر. وتكشف عن تواطؤ رجال السلطة وأصحاب الأموال من ساسة وقضاة ومحامين ومهربي بضائع ومخدرات فيما بينهم، وتعنتهم في سلب الفقراء وقهرهم، كل بطريقته. وقد كان الوقوف عند بعض الحيل المتبعة من طرف بعض أباطرة التهريب حتى لا تصادر بضائعهم من الجوانب التي صورتها الساردة، وأمعنت من خلالها في تسليط الرؤية على عفن الحياة الاجتماعية في حكايتها المغربية المشينة، تقول عن هذا الواقع الفظ المخزي:
“بلغني أنه مرة كل ثلاثة أشهر كان يتم الاتفاق سرا بين الشريف والمرتشين من أصحاب الطريق بمصادرة سيارة في ملكه محملة بمواد مهربة. يتم اختيار سيارة لا قيمة لها وعادة من دون أوراق ثبوتية، تملأ ببعض السلع الفاسدة، ثم تُضبط وتُصادر من طرف الجمارك، بينما عدة سيارات أخرى محملة بسلع ذات قيمة مالية مرتفعة تكون قد اجتازت الحدود. كانت طريقة للتضليل تتم مع كبار المهربين”. (ص. 59)
بهذه السردية التي تتغيا تعرية واقع الحال وكشف اختلال منطق السلطة، وتقهقر قيم المجتمع أمام تغول المال والسعي من ورائه بسبل غير مشروعة تقف الساردة عند مزيد من الجراح التي أدمت روحها وأتعبت نفسيتها حتى الانتهاء إلى مستشفى الأمراض العقلية والنفسية. وبهذه الشاكلة يمعن الروائي في رص المعارف والمعطيات التي تبلبل الروح وتهتك رقةَ نفسِ بطلته، ليجعل انكسارها أمام هول ما يجري لها، ومن حولها مبررا سرديا ومقبولا في منطق الحكاية ومتخيل الرواية.
غير أن ما يعنينا من وقوفنا عند هذه الصورة الروائية الدالة –والصورة السابقة عليها أيضا- هو تمكن الروائي من جعل هذا الواقع الثقيل فنا روائيا يتميز بالجمال والخفة في التصوير. وقد كان الانتصار للنثرية في بعدها التقريري المباشر، وتواري لغة الشعر -بمجازاتها وطاقاتها البلاغية- أمام سلطة النثر وبلاغة الخبر المحكم الدقيق من أهم الأدوات الفنية التي تتوسل بها الرواية في تصوير حالات الشخصيات، ووضعياتها الاجتماعية القلقة المضطربة، ولعل الإمعان في تعرية ثقل الواقع وفظاظته جعلت لغة الرواية سردية خالصة، ونادرا ما تلتجئ إلى الصور البيانية من استعارات وتشبيهات وكنايات، كما نجد في الروايات الأخرى للبشير الدامون، ولعل ميل الروائي إلى تخلية نصه من التزيين البلاغي، ومن استعمال الأدوات الفنية التي ذكرناها كان منسجما مع البناء الدرامي للأحداث، ومع جفاف الواقع –الذي يصوره- وإلقائه بثقله على شخصيات النص وعلى وقائعه. وحتى الصور السردية التي تحضر فيها بعض الأدوات البلاغية/البيانية -المشار إليها أعلاه- تتمحور حول تصوير ثقل الواقع ومآزق البطلة ومعاناتها. تقول الساردة في مشهد تصويري دال:
“يعوم ذهني في وحل أسود يمنعني من استعادة صفائه. أركان الغرفة الواسعة التي حُشرت فيها متسخة. عدة أسرة ترقد عليها أجساد لنساء أشباح. إنني في مستشفى.
طمي يسبح قلب شراييني. صرت كتلة لحم تتخبط من ثقل شرايين تضخ وتستقبل وحلا تنزلق معه حصى جارحة. بحر من الصخب المعذب ولو أنزلت عليه ترسانة من الخرسانة لسُمع صوته الهادر الساخط الرافض للحياة وللموت.
أتذكر. زجاج سميك تنفذ منه أطياف أضواء تتسارع خلف بعضها، وسيارة الإسعاف تنهب الطريق قبل أن تدخل شوارع المدينة، بداخلها كنت أرتعش فوق محفة وأصداء صفارتها يتفرقع في أذني. أُنزلت من السيارة وأُدخلتُ مبنى. رُمي بي من طرف شخص بمريلة بيضاء ويدين خشنتين داخل غرفة بجدران متسخة. صفقت خلفي باب حديد صدئ بصوت مزلزل. حاولتُ أن أتكلم. لم يعد لي من قوة. أغلق المزلاج” (الرواية، ص. 145-146)
يوظف هذا المشهد السردي عدة صور بيانية جزئية لا يمكن فهم أبعادها الدلالية وإمكاناتها البلاغية إلا عن طريق ربطها بالسياق الكلي للرواية، وهكذا لا يمكن تمثل صور الوحل الأسود والطمي وكتلة اللحم والحصى الجارح وترسانة الخرسانة والبحر الصاخب، إلا إذا ربطنا هذه العناصر المجازية بمعاناة البطلة من ظلم الحياة وظلم المجتمع وقهره، ومعاناتها من اضطهاد “القرع” وممرضي مستشفى الأمراض العقلية والنفسية. وهكذا تُسهم هذه الصور في تجلية إحساس الشخصية المحورية ومشاعرها المضطربة القلقة، وهي تلقى نفسها في زنزانة مستشفى وسط نساء أشباح، وقد عوملت بغلظة وقسوة، وسد عليها باب حديدي صدئ أغلق بمزلاج. وبهذه التفاصيل الدقيقة، وعن طريق الانتقال بين رصد العالم الخارجي والغوص في نفسية البطلة وإحساسها بهول ما يقع لها، كانت هذه الصور ممعنة في تصوير درامية الواقع وتراجيدية الشخصية.
وفي هذا الصدد يمكننا التنبيه إلى أن الرواية على الرغم من بنائها الدرامي الحزين وإغراقها في رصد معاناة شخصيتها المحورية، والشخصيات التي حفت بها وتفاعلت معها، فإنها قدمت حكايتها المغربية في إهاب سردي سلس شفاف لم يجعل وقر الحزن والأسى ينتقل إلى القارئ ويعديه؛ بل إنه على العكس من ذلك يدفعه إلى تأمل ما يحيط به، ويعيد النظر في كثير من الأشياء التي يمر بها ولا يعيرها اهتمامه.
وإذا كانت الحكاية تتميز بتركيزها على ثقل الواقع وأثره العاصف على الشخصية المحورية، فإن الإمكانات الروائية جعلت الرواية تتميز بالخفة، والقدرة على إثارة المتلقي، بما اتسمت به من روح التشويق، ومن انسيابية الأحداث وتوترها.
وقد دخلت الرواية في جزئها الأخير فيما يشبه الحبكة البوليسية القائمة على المطاردة، والتحقيق، والاستجواب، والرغبة في معرفة ما جرى لحنان وكريم بعد خروج “القرع” من السجن، وسعيه إلى معرفة مكان الخزانة التي تجمع فيها زوجته أموالهما من تهريب المخدرات. وفي هذه الأثناء تعرضت البطلة لشتى أنواع التعذيب والاغتصاب لتعترف للقرع بما لا تعرفه إلى أن تمكنت الشرطة من القبض عليه مرة أخرى، وبتهم جديدة، أما البطلة فكان مآلها إلى مستشفى الأمراض العقلية والنفسية.
بهذه الشاكلة استطاعت الرواية تحقيق خفتها عبر التنوع السردي والتعدد في صيغ الحكي وطرقِه، بالانتقال من الحس الدرامي الفاجع، إلى التشويق البوليسي المتوتر، ثم العودة مرة أخرى إلى حكاية البطلة -ومن يدخل مجالها من شخصيات روائية- بما اتسمت به من أسى وحزن ومعاناة. ولعل هذا التراوح بين بطء الحكاية وتسارعها، وبين التركيز على تصوير معاناة البطلة من ظلم الواقع الاجتماعي واختلالاته، ومعرفتها بحيله وانخراطه في أتونه لتطفو على السطح وتمتلك، بدورها، المال والقوة، ثم سقوطها فريسة الانهيار العصبي والنفسي، جعل الرواية تتسم بروح الخفة، ومكنها من سرد حكاياها الفاجعة في إحكام فني بارز، ومن خلال لغة سردية متقنة. وقد استطاع البشير الدامون الغوص في أعماق شخصيته المحورية وكشف نفسيتها، وكنه معاناتها، كما استطاع الوقوف عند تجليات اختلال المجتمع وانهيار قيمه ومثله أمام سطوة المال وانتشار مظاهر فساد مختلفة بين ظهرانيه.
بهذه الكيفية كانت الرواية خفيفة الروح، بهية المحيا على الرغم من اتخاذها من رصد تحولات المجتمع وانهياره على مختلف الأوجه، منطلقا لتجلية ثقل هذا الواقع وأثره الخطير على الناس. وبذلك كانت الرواية، في تلويناتها الموضوعاتية، امتدادا لعمليه السابقين “سرير الأسرار” و”أرض المدامع”، لكنها تختلف عنهما من حيث الإمكانات الفنية التي وظفها الكاتب لتصوير شخصيته المحورية، وتصوير تحولات الحياة التي ألقت عليها بثقلها، وجعلتها تتقلب في أتونها الحارق إلى حد الدمار النفسي/العقلي.
انطلاقا من كل ما سبق نؤكد أن رواية “حكاية مغربية” هي حكاية إنسانية، حكاية تقع، ويمكن أن تقع في أي مكان من العالم، ما دامت المجتمعات المعاصرة أخلَّت بالقيم الإنسانية الرفيعة، وجعلت هدفها الكسب المادي، وتحقيق رفاه فئات قليلة على حساب فئات أخرى عريضة. وهكذا استطاعت الرواية أن تقدم صورة فنية دقيقة عن تغيرات المجتمع وتحولاته، وانتكاس قيمه ومثله. وقد تمكن الروائي تمثيل ثقل الواقع وعرض اختلالاته بمقدرة فنية لا تُنكر، وبوساطة تنويع سردي متميز، كما بينا سابقا في هذه القراءة.
……………..
-البشير الدامون، حكاية مغربية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/بيروت، 2016.