ثقافة المستحيل

«الحرية والحقيقة.. تحديات الثقافة والمثقف المصرى»
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. عفاف عبد المعطي

يبدأ المُفكّر الكبير نبيل عبد الفتاح في مقدمة كتابه – الشائق الكتنز معرفيا وتثقيفياً-  “الحرية والحقيقة.. تحديات الثقافة والمثقف المصري”  الصادر عن دار ميريت 2022 بقوله “إن وهم السلطة الثقافية الرسمية بأن القوة الناعمة للثقافة المصرية لازال ساريا يصطدم بالواقع والحقيقة، لأن واقع الإنتاج الثقافي والفكري في الإقليم بحاجة إلي تفكيك أوهام التمركز المصري وبناء عليه فنحن بحاجة لفهم تحولات الإقليم والعالم وتحول حريات الفكر والتعبير التي تحفز الإبداع لإيجاد حلول لدفع قاطرة التقدم المأمول.

يذهب نبيل عبد الفتاح إلى أن مفهوم دور الثقافة في التنمية غائم وغائب عن النخبة السياسية والحاكمة لغلبة العقل والوعي البيروقراطي والتكنوقراطي وانفصال السياسية التعليمية ومناهجها عن المكون الثقافي والخلط بين التعليم الديني والوضعي وغلبة الحس العملي علي الأيديولوجي وتراكم المشكلات التي تم التركيز علي حلها اقتصاديا وسطوة الإدراك التسلطي للنخبة الحاكمة.

وعلي ذلك يمكن تحديد وضبط مصطلح السياسة الثقافية بأنها مجمل القرارات والتدابير والبرامج والأنشطة والأفعال التي توجه إلى الجوانب الثقافية (المعتقدات ـ الفكر ـ والرأي والفقه ـ وبخاصة القدرة الإبداعية والتذوق الفني والتفكير العلمي لتحقيق اهداف وغايات تتفق وتوجهات الدولة )

وتتحدد السياسة الثقافية في الأهداف التي تحددها النخبة الحاكمة للقيم والمعاني والرموز والرموز والإنتاج الثقافي والتراث الوطني التي تعبر عنها ببرامج ثقافية وهي اهداف وأفعال وقرارات ويوجد ثمة تغير لمفاهيم الأمة والقومية وهي مايطلق عليها مابعد العولمة والحداثة والثورة الصناعية الرابعة.

ومن دواعى الأسى الكثيرة التى تطرحها أفكار الكتاب  مفهوم الثقافة، ويوسِّعُ نبيل عبد الفتاح إظهار رقعة الفساد فيها، عبر لمس حدودها القصوى عندما يناقش إحدى مشكلاتها العُظمى أن القائمين على المؤسسات الرسمية، والمثقفين، أسهموا فى قصْرها، أو ربطها بالمنصات، بحيث أصبحت الثقافة كلامية /إذاعية، ما هى إلا كلام بلا جدوى ولا مردود اجتماعى واقعى وأيضاً ظهور الأدباء والفنانين والنقاد خلف المنصات وأمام جمهور يتناقص باطراد، ليتحدثوا فتدور كلماتهم فى القاعات وتصطدم بالجدران، حتى تهتدى أخيراً إلى شباك مفتوح، قافزة منه إلى الشارع لتنضم إلى مليارات الكلمات التى تم إهدارها فى ندوات شبيهة استغرقت ساعات طويلة لا يمكن إحصاؤها. والمهم فى النهاية هو التقاط صورة للمنصة وللجالسين خلفها، وترويجها فى الصحف والمواقع الإلكترونية والسوشيال ميديا، لتبدو الثقافة ومنتجوها ومتلقوها بخير. وذلك هو الخداع الثقافي الأكبر.

ويتوقع نبيل عبد الفتاح بروز تفوق نسبي للثقافات الآسيوية وأن يتم إفساح المجال للبحث في الفنون والآداب والتاريخ في آسيا وامريكا اللاتينية وافريقيا التي ظهرت إبداعاتها في السرد العالمي كذا يظهر امام الثقافة المصرية عدة أسئلة في اطار الثقافات العربية المتعددة منها اهتزاز مفهوم الدولة الوطنية في مرحلة مابعد الاستعمار وفشلها التاريخي وظهور فاعلين غير الدولة من منظمات سياسية ودينية ومذهبية وظاهرة تقسيم الدول مثل السودان وبروز الصراعات المسيسة.

لذا صارت فكرة الدولة الأمة استثناء تاريخيا في مصر والمغرب وتداخل الإنتاج العولمي والرقمي ثم أخيرا بروز عدم الإهتمام بالثقافة واستمرارية مركز الثقل المالي في دول اليسر المالي التي تمنح الجوائز وتجدد ظهور فكرة الخلافة علي يد السلفيات الجهادية واخيرا تراجع حركة التجديد في الفكر الديني وتظهر مشكلة المؤسسات الثقافية في هجرة المثقفين التي ادت الي مساهمتهم في التنمية الثقافية لدول عربية مجاورة وتخصيص دول نفطية ميزانيات كبيرة للإنفاق علي المؤسسات والأنشطة الثقافية والجوائز وانتشار ثقافة المهرجانات وظهور ثقافة الأطراف كما في حالة المفكرين الذين ظهروا في المغرب العربي ( الجابري ـ والعروي وكليطو ) لتجديد الفكر العربي.

ويقوم نبيل عبد الفتاح (القانوني القدير حيث لا يُنبئك مثل خبير مثله) بطرح فكرة ان التشريعات المنظمة للأنشطة الثقافية لاتتكيف مع المتغيرات الإجتماعية والثقافية لاسيما في ظل هيمنة السلطة التنفيذية علي اجهزة الدولة مما ادي الي عدم ربط السياسة الثقافية بالسياسات الإجتماعية لغموض مفهوم العمل الثقافي واستمرارية الرقابة الدينية والاخلاقية المحافظة والتقليدية علي الأعمال الادبية وضعف الكوادر الثقافية كذا مساهمة الثورة الرقمية في ايجاد مشاكل جديدة.

والجدير بالذكر ان نبيل عبد الفتاح يتسم بالأمانة العلمية الدقيقة إذ نسب الفضل لاهله مثل الأستاذ السيد ياسين الذي صاغ تصورا بعنوان “نحو سياسة ثقافية ” ومقترح المجموعة الوطنية للسياسة الثقافية التي ركزت علي تأسيس منظومة ثقافية في وزارة الثقافة وهيئاتها واتفاقات مع مجموعة من الوزارات تدخل ضمن المكون الثقافي.

ويعرج علي أن الدستور قد نص علي حرية الإعتقاد وحرية والتعبير لذا يتعين تحرير القوانين لدمج وتفعيل مفاهيم الحريات العامة والفردية وحقوق الانسان والمواطنة لتعمل الدولة وغيرها من الاجهزة الرسمية علي نشر قيم الإبداع  ثم ينتقل الي تحديد الدور الثقافي المصري في عالم مختلف بانه انتاج الأفكار الحداثية في ظل تراجع الدور الثقافي المصري في الإقليم لاختلاف نوع التعليم ووجود الجماعة الدينية الرسمية كسلطة دينية تابعة للسلطة السياسية أدت الي غلق محاولات الإجتهاد ومنها محاولات طه حسين وغيره  التي تم مواجهتها بسلاح التكفير المعتاد

كما ان العقل العلماني لم يكن لديه القدرة علي التفاعل الخلاق مع الواقع الموضوعي كما ان تخلف المناهج التعليمية وعدم تطويرها ادي الي تمدد ذهنية الحفظ دون ابداع وغياب العقل النقدي بالاضافة الي تدهور النظام الجامعي في العلوم الإجتماعية.لذا وقفت القيود علي الحريات العامة عائقا اخيرا ضد الإبداع ولم تعد القوة الناعمة للثقافة المصرية مؤثرة في الواقع العربي فضلا عن عدم وجود طلب في المجتمع علي الثقافة لإنتشار الثقافة الإستهلاكية.ولكن اين المثقف الذي تتجلي ازمته في نوعية التعليم وروافده الثقافية التي تتسم بالضعف وخاصة الروائيين والشعراء الذين يعتمدون علي الإنتاج المصري والعربي وبعض الترجمات للسرديات العالمية علي عكس مثقف  ماقبل يوليو الذي كان يمتهن السياسة والثقافة وينهل من الثقافة الأوروبية مباشرة ( طه حسين علي سبيل المثال).

ويأتي ظهور نمط ظهور الداعية الديني ليملأ الفراغ العام والثقافي لدي الجماهير لغياب الطلب السياسي والطلب الإجتماعي علي الثقافة.بالإضافة إلي الإعلام المرئي والحياة الترفيهية مثل الوجبات السريعة.

ويدعو نبيل عبد الفتاح إلي ثقافة العقل الحر والحرية والإخاء الإنساني بتطوير سياسة الترجمة والتركيز علي محاولات تجديد الفكر الديني مثل تلك التي حدثت  في تونس والمغرب ودعم مؤسسات الثقافة التطوعية التي تنادي بحرية العقل والفكر والبحث.

وياتي سؤال الهوية كمبحث رئيسي في هذا الموضوع أن يدقق نبيل عبد الفتاح القانوني القدير بدراسة مستفيضة في مفهوم الهوية بأنه يمكن تحديدها بانها تعريف للذات الفردية والجماعية ومنذ دستور 2012 حتي دستور 2014 ثار جدل كبير في مفهوم هوية مصر وهل هي عربية اسلامية ؟.

ويقدم عبد الفتاح دراسة قانونية بالبحث في مقدمة دستور 2014 ليصل إلي ان مقدمة الدستور حددت مفهوم الهوية بالدمج بين الخطابين الديني والحداثي إذ  شملت مجموعة الأديان السماوية الثلاثة والحركة الوطنية المصرية ورموزها وثوراتها والدولة الديمقراطية الحديثة وليس عبارة الدولة المدنية  وبذلك تكون هوية مصر عربية اسلامية ذات بعد افريقي ومباديء الشريعة الاسلامية المصدرالرئيسي للتشريع وفق ماستقر عليه تفسير المحكمة الدستورية العليا كذا النص عي حق المواطن في الثقافة مثل تلك المنصوص عليها في المواثيق الدولية التي تناولها نص الاعلان العالمي لحقوق الانسان والتي اسماها بحق كل انسان في حرية التفكير والضمير والدين وحرية الرأي والتعبيركما ان العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية اقر بحق كل فرد في المشاركة في الحياة الثقافية والتمتع بفوائد التقدم العلمي وتطبيقاته وغيرها.

ويتساءل هل هناك نموذج معرفي عربي؟ في عالم يبدو عصيا علي الوصف الناجز والتحليل الواضح لانه عالم متعدد السرعات يتحول من القوة الناعمة الي القوة الذكية فيرد اننا لانستطيع ان نقدم نموذج معرفي شامل لتتكيف معها الدولة والاجهزة والاحزاب في ظل الاكتشافات والتطورات في الواقع الافتراضي والذكاء الصناعي ويتساءل هل لدي العرب نموذج او نماذج معرفية؟ ويري سيادته اننا لانملك اي نموذج معرفي منذ مطالع النهضة والتحديث السلطوي للدولة والمؤسسات فلاتزال الجماعات العربية المثقفة تعيش مرحلة من المخاضات للسعي في الموائمة بين خطاب ثقافي يتوائم مع الهوية والخصوصية الوطنية لذا فإن الفكر العربي يعيش مرحلة من صدمة الحاضر والمستقبل الغائم فالحالة الفكرية العربية تشير الي تراجع في الانتاج الفكري والفلسفي والاجتماعي والقانوني منذ عقد الثمانينات لسيادة النزعة النقلية لدي الجماعات الدينية والجمود الفكري لدي الاتجاهات العلمانية.

لذلك نتساءل عن اي مثقف نتحدث وعن اي دور واي مسئولية لان المثقف ليس السوبرمان الذي يمتلك قدرات خارقة لوجود مشكلات التطور السياسي وفشل نماذج التنمية ومد الاسلام السياسي في ظل تقييد الحريات ومنها الحرية الام وهي حرية التعبير

ولكن ماذا يطرح نبيل عبد الفتاح للخروج من أزمة الخطاب الثقافي الذي يصطدم بمجموعة من الحقائق في عصر مابعد العولمة؟ إذ يقدم مجموعة من الحلول هي مايلي:

أولا: لا بد أن تواجه الثقافة ما أطلق عليه العقل المعتقل، إذ واجه المجتمع المصري بعد نكسة 1967 العودة إلى الأصولية الدينية وبعد حرب أكتوبر وبدء سياسة الانفتاح الاقتصادي تم غلق عدد من المجالات الثقافية الرصينة وغيرها من سلاسل المسرح والترجمات وتحولت وزارة الثقافة إلى مجرد هياكل خاوية لاتلعب اي شيء سوي خدمة النظام وتمحور دور المثقف في دعم الحكم وتسويغ وتبرير سياساته وهو ما أدى إلى صدام بين النظام والمثقفين أدى به إلى إقصائهم وتراجع الدور الثقافي ولم تستطع الدولة ان تبلور رؤية وسياسة اكثر عمقا.

ثانيا لابد أن تواجه الثقافة التطرف والعنف والارهاب.فإذا كان هناك اكثر من 164 تعريفا للثقافة ومنها القيم العليا مما يسمح لها بدور محوري وهام في محاربة الارهاب الفكري والسلوك العنيف والتوسط لحل الخلافات والنزاعات والصراعات كما ان الثقافة العالمية تلعب دورا نقديا في مواجهة التطرف الفكري والسلوكي. ويتطرق الباحث الي ذكورية الدولة وضرورة تمكين المرأة من تولي المراكز القيادية بالاطر السياسية والقانونية لمواجهة فكر التطرف.لان الثقافة للناس والحياة ولان المثقف الحديث اعتمد علي مساحة من الاستقلالية عن الدولة والسلطة والمجتمع علي نحو يسمح له بقول خطاب الحقيقة النسبي وهو ماأتاح له فرض احترامه علي السلطة والدولة والمجتمع.

ثالثا لابد أن تواجه ثقافة الفوضي والتطرف و أن تحتوي الثقافة المتغيرات الحاصلة في الشارع. ويتساءل الباحث ـ وله الحق ـ لماذا لاتذهب الثقافة الي الشارع ؟ كالثقافة الجماهيرية في المدن والقري والمحافظات بدلا من ثقافة المهرجانات لان نزول المثقفين الي الشارع سيؤدي الي تغييرات متسارعة في الوجدان الجمعي والمنظومة القيمية وثقافة التعدد والحوار ومن ثم مواجهة الافكار المتطرفة ونحن بحاجة الي صياغة ثقافة تستوعب متغيرات التكنولوجيا وفتح المجال العام امام الابداع الثقافي وحريات التعبير والفعل والخيال. وطرح سؤالا عمن يتولي الادارات ومنها الادارة الثقافية بعد ثورة 25 يناير؟

ولنا رأي في هذا الكتاب التأسيسي الذي دشنه الباحث والمفكر القدير نبيل عبد الفتاح عن تحديات الثقافة والمثقف المصري إذ رصد بكثير من التحليل فكرة صور المثقف أو تماثلات المثقف(حسب كتاب المفكر الكبير ادوارد سعيد Representation of Intellectual   تمثلات المثقف ) الذي  يجب ان يترك مساحة مع السلطة حتي يوجه لها النقد حتي ولو كان موظفا في السلطة الثقافية وحدد مفهوم السياسة الثقافية و دور الثقافة في التنمية وفي سعية لتحديد هذه المفاهيم  ودور المثقف في ظل الأطر القانونية شديدة التعقيد عرج الي التحديات في ظل واقع عالمي وعربي ومصري متغير وطرح الحلول فحين يتاخر السياسي يتقدم المثقف كما قال البيير كامو واذا كان هذا البحث التاسيسي قد طرح حلولا سلف بيانها علي وجه الدقة فإن هذا الجهد يجب استكمالة بكثير من الأبحاث إذ من المحمود للأستاذ /نبيل عبد الفتاح ان حدد لنا الطريق.والطريق هو الطريقة كما قال الشاعر محمود درويش الذي اعتقد انه استعارها من السيد المسيح بقوله انا الطريق والشاهد ان الباحث مهد لنا طريقا علينا رصفه وتدعيمه ونقترح  الطريقة بعقد ندوات وجلسات عمل لتحديد مفهوم السياسة الثقافية واري ان يكون من جدول اعمالها تحديد مفهوم الثقافة في ظل هذا العالم المتغير والمثقف ودوره وماهية السياسة الثقافية والوزارات التي تقوم بالعمل عليها فقد يكون لوزارة التربية والتعليم والتعليم العالي والأوقاف دورالايقل عن المؤسسة الثقافية الرسمية وقد يكون للقطاع الخاص دورا باعتبار ان رعاية الآداب والفنون في المرحلة الليبرالية نشأت في ظل طبقة الباشوات التي كانت تعقد ندوات اسبوعية وبعد يوليو 1952  قامت الدولة بذلك إذ قام ثروت عكاشة وزير الثقافة الأشهر بانشاء المجلس الاعلي لرعاية الفنون والآداب الذي صار المجلس الأعلي للثقافة والثقافة الجماهيرية التي صارت هيئة قصور الثقافة الا يمكن المزاوجة بين النظامين ويكون للأحزاب دور في هذا المجال فتقوم ورش العمل بطرح هذه الأفكار للمجال العام فنصوص الحريات موجودة في الدستور والقوانين لكن تحديد المفاهيم وإجلائها ووضعها موضع التنفيذ مسئولية السلطة الحاكمة وقد يمثل كل ماسبق جماعات ضغط لتفعيل ذلك علي المستوي الواقعي من السلطة الحاكمة واذ عرج الباحث بصورة ما الي التجربة الثقافية التونسية فحري بنا دراسة التجربة المغاربية علي العموم في تجديد الفكر الثقافي والاقتداء بها.

مقالات من نفس القسم