ثانية مميزة
عبد المجيد عبد العزيز
تصر عجلات القطار، تتشبث بالقضبان، فأنتفض مستيقظا على الصوت الطويل الحاد، لا أكد اتنبه للمشهد حولي، حتى تباغت رأسي حقيبة طائرة.
***
ـ نازل فين؟
صوت خشن يأتيني من الظلام، تتحرك شفتاي للإجابة، ارتبك، أمسح وجهي بيدي لأستعيد وعيي، ولكن لا إجابة، أغرق في الحيرة، أتفوه بكلمات غير مفهومة، يؤولها السائل، وينهرني:
ـ معاك ستاشر ونص؟
تزداد حيرتي، أسرع بالبحث داخل ملابسي بتلقائية، تصادف يدي شيئا ما، أخمن أنه عملة ورقية، أخرجها وأعطيها للسائل دون أن أتبين قيمتها، تمر ثوان قبل أن يسألني:
ـ معاك فكّة؟
يطول صمتي، أسمعه يمزق شيئا ما، يناولني ورقة ضعيفة، يقول قبل أن يختفي:
ـ التذكرة، والباقي وأنا راجع.
أسأل نفسي في ذهول: قطار؟! ولكني لم أكن مسافرا!
***
أين كنت؟ وكيف جئت إلى هذا المكان؟ تهرب مني الذكريات، أتلفت حولي، الظلام حالك، ورائحة كريهة تنبعث من كل شيء، رائحة طعام عطن تمر بجواري، يبيعه شبح مرعب، يمسك في يده مصدر ضوء، ألمح على إثره الوضع المزري، زحام شديد، البعض تمدد على الأرض، بعض المجندين زاحموا الحقائب على الأرفف، الكل يلعن السائق الذي توقف فجأة، فامتزجت كل محتويات القطار، والبرد قارص، أجذب حولي معطفي، لا أتذكر أنني كنت أرتدي معطفا! بل لا أتذكر أنه كان فصل الشتاء!
النافذة إلى جواري، تأتيني برصاصات من السقيع الهارب من زجاجها المحطم، أفكر في سؤال أحد الركاب، إلى أين يمضي القطار ولماذا توقف؟ ولكنهم سيظنون بي جنونا، فكيف أركب قطارا لا أعرف وجهته، أتضائل في مقعدي، أتطلع برأسي عبر النافذة، فلا أتبين شيئا في السواد التام، ولا يصلني إلا نباح كلاب راعها على البعد زعيق القطار.
أقوم من مكاني، يستأذنني أحد الواقفين في الجلوس إلى حين عودتي، أحرك رأسي لا مباليا، أتجه إلى باب العربة، أطل برأسي خارجه، أفكر في الخروج من القطار، تلتقط أنفي رائحة أرض مروية، ولكن إلى أين سأذهب؟ للسؤال، أي سؤال؟ كيف جئت هنا؟ وإلى أين أتجه؟ أستشعر عبثية الأمر، كيف يعلم الآخرون ما لا أعلمه عن نفسي! أتراجع للوراء قليلا، أشعر أنني أخطو في ماء، اكتشف أن الحمام الذي تصدر منه تلك الروائح المنفرة، قد تسربت منه المياه وغطت أرضية العربة، أفكر مشمئزا في الرجوع إلى مقعدي، أتراجع لفكرة النزول من القطار، تمزقني الحيرة، لابد أن أفعل شيئا ما، ولكني لا أعلم ما هو بالتحديد، الوجوه المتعبة حولي تشي أيضا بأنهم لا يعلمون.
صوت خفيض، يعلو تدريجيا، أخرج رأسي من الباب لأستطلع الأمر، فيباغتني قطار مجنون يندفع على القبطان المجاور، أثبت في مكاني مبهوتا من هول المفاجأة، يضيء قطارنا لثوان على طول الصوت الصاخب، أتبين كل أشباح العربة، يزعق القطار المندفع، يحاول طرد المجهول من أمامه، يسكن الكون فجأة، ويعود الظلام، فيتوارى شحوب وجهي، يفزعني صوت انطلق من خلفي:
ـ هو تانية مميز كده، لازم يستنى المكيف يعدي الأول.
تعلق بذهني الكلمات المتضادة، لا أعرف مبعث الغضب الذي تملكني، وكرد فعل، أقرر النزول، عندما أصل للباب، يناديني أحد الركاب:
ـ يا أستاذ .. شنطتك.
أنظر له مندهشا.. إنه الشخص الذي استأذنني في المقعد، أتناول من يده الممدودة حقيبة سوداء صغيرة، أتطلع لها صامتا، ربما كان بها جواب أسئلتي، أنتحي بها جانبا وأفتحها، فأجدها مليئة بورق أبيض لم يكتب عليه شيء بعد، وقلم، أي شيء كنت أنوي كتابته على تلك الأوراق؟! الحقيبة تزيدني أسئلة، أغلقها ضجرا، وأندفع ناحية الباب، أستدير وأنا ممسك بالمقبض الحديدي استعدادا لهبوط درجات السلم العالي.
فجأة، يتجشأ القطار، تكاد قدمي تزل، أتماسك، ثم يعاود السير ببطء، أفكر في التراجع عن النزول، أخشى الهبوط وهو يتحرك، ولكنه مازال يسير ببطء، كلما توالت الأفكار في رأسي، زادت سرعته، يملأ الهواء المثلج معطفي، فأوقن أن الوقت قد فات، أدخل بجسدي العربة، حائرا أسير إلى مقعدي، يقف من يجلس عليه عندما يراني أقترب، أرتمي بجوار النافذة، أضع الحقيبة: سأنتظر المحطة القادمة. أقول لنفسي وأنا أعود برأسي إلى الخلف، يخامرني النعاس، ألملم حولي المعطف، وقبل أن أستسلم، يغمرني شعور بأنه لا توجد محطة قادمة!
ــــــــــــــــــــــــــــــ
عبد المجيد عبد العزيز
قاص – مصر
ـــــــــــــــــــــــــــ
اللوحة للفنان: عمر جهان
ــــــــــــــــــــــ
خاص الكتابة