توق نحو الخلود وعود إلى العدم..حكاية الفاصل بين الجنون والعبقرية في رواية “الحالم”

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 مصطفى حفيظ

أرادنا الروائي الجزائري سمير قسيمي في روايته "الحالم"، أن نحلم معه، أن نتيه معه في متاهاته داخل قوالب من السرد الغريب، سرد لولبي متشعب هادئ تارة ومتوحش في آنات أخرى، ماكر  يسير بك من غابة موحشة نحو نور شمس ساطعة على الظلام، غابة أخرى من الخيالات، تحسبك فككت لغز المقدمة لما تشرع في قراءة مسائل عالقة، لكنك تزداد تيها ومتعة وشغفا في تتبع خطوات السرد والوصف بتقانة متفردة تقذفك نحوه ذاك المتخفي وراء الحقيقة ( رضا خباد )، بطل الرواية شخص واحد يكون حضوره عبر أزمنة وأمكنة لا حقيقية سوى في رأس الكاتب، تحفر تارة في ذاكرته بكل حلوها ومآسيها، وحينا آخر تغوص في خيالات هي في الحقيقة أحلام لم تتحقق، فكان مصدر لحكي وسرد لعالم مواز للعالم الحقيقي، أو في خيال البطل الذي يبقى متواريا عن هويته حتى النهاية، تعرفه فقط إن حاولت التركيز على بعض المشاهد دون غيرها، فالروائي كان ذكيا لما أشار إلى رضا خباد في المقدمة، ثم ترك الغموض يلعب لعبته ويمسك بيد قارئ مغمض العينين عبثا يحاول الفهم، تختلط عليك الطرق والمسافات نحو المخرج، فقط بين الكلمات والجمل المبهمة، تتضح معالم النص، هو الجنون يلبس لباس العقل، ويمشي مشية المتعالي، يأبى الاعتراف بالفشل، بالموت، في الحالم التي تجعل القارئ في استهلال لبدأ الصفحة الأولى من المقدمة، يحلم بأن يعيش على أمل أن يتحقق له حلم المعرفة، من هو صاحب رواية  ثلاثون " التي هو صاحبها ولم يكتبها، يلفك بغموض وينسيك إياه، في النص، هناك رمزية الأبدية والخلود مقابل الموت والفناء، الرغبة في الحياة في مواجهة عقدة الفناء، تطرح الحالم مأزق الإنسانية منذ الأزل، فكرة الوجود والعدم، الوجود كتجلي للرغبة في الحياة والخلود، في مقابل العدم وهو ترميز لعكس الوجود، أو الفناء والانمحاء نحو التلاشي.

 

فور استهلالك قراءة مقدمة ” الحالم ” يستوقفك اعتراف الكاتب سمير قسيمي المقحم داخل الرواية بصفته الراوي العليم، اعترافه لما يقول بكل ثقة ” … من حق القارئ أن يعلم..” هنا يمارس على قارئه دور العليم، يعلمه أن الراوية قصة حقيقية وهو لم يكن سوى راقنا فقط، تفهم لحظتها أن الكاتب يدخلك مباشرة في لعبة الغموض.

المقدمة وحدها تجعل القارئ يزداد شغفا لتتبع الطريق التي يرسمها الروائي كي يعرف إلى أين ستقوده في النهاية، سيظل يطرح الأسئلة حتى الخاتمة، من هو البطل؟ من هو كاتب الرواية؟ لماذا يلعب الكاتب على عنصر المصادفة لولا رغبته في إطالة عمر التشويق والإثارة بمزيد من الغموض، يبعد كل صدفة في كتابة هذا العمل، فالقول إن سمير قسيمي يشبه الروائي بول أوستر في اعتماده على عنصر الصدفة في رواياته، غير صحيح بدليل على اعتبار أن الصدفة في ” الحالم ” هدفت إلى تشتيت ذهن القارئ في حين أن الصدفة في روايات بول اوستر تشكل ما يشبه المركز لا سيما في عمله ثلاثية نيويورك

يتحدث الراوي في المقدمة عن نفسه بأنه سمير قسيمي الروائي الذي كتب أربع روايات ويشير إلى حوار صحفي أجرته معه صحفية لتبيين أنه لم يسرق رواية ” ثلاثون ” من روائي آخر، ويطغى حضور ” سمير قسيمي ” عبر الأجزاء الثلاثة لـ ” حوار غير ودي مع كاتب لا يعرفه أحد “، كي يمهد لسرد رواياته الثلاثة، مساءل عالقة، المترجم، والكفيف يمكن أن يرى، ويفصل بينها بقالب سردي مختلف من جزء إلى آخر، وهو ما مكنه من إطالة عمر الغموض حول حقيقة البطل في كل السرد، وفي النهاية يظهر أن الشخص المجنون ( رضا خباد ) هو كل تلك الشخوص الأربعة التي تجلت في ( سمير قسيمي الروائي، وسمير قسيمي المترجم، وريماس إيمي ساك الروائي المرموق، وكذا رضا خباد المجنون ) وهو ما يجعل الذهول سيد الموقف في النهاية، لأنه من الصعب تصديق الحكاية، فرغم كل السرد يبقى الوحيد القوي في كل جوانب شخصية البطل، هو الروائي قسيمي فقط، الذي تمكن منه في النهاية بينما طمس كل من المترجم، رضا خباد وريماس ايمي ساك، أي المريض لم يشفى من مرضه وأبى أن يخرج من حالة انفصام الشخصية التي ألمت به.

 مأزق الوجود الإنساني وسؤال الزمن والعدم في “الحالم

يمهد الكاتب للخوض في مسألة ظلت الشغل الشاغل للفلسفة، وهي قضية الوجود الإنساني وسؤال الزمن بين الحقيقة والزيف، أو فكرة الوجود والعدم، ورغبة الإنسان في الخلود مقابل مواجهته لعقدة ظلت آسرة مستبدة بفكره وهي الانمحاء والتلاشي ( عقدة الفناء )، ولعل ذلك ما ترك “الكينونة” في ترحال دائم نحو تخليد ذاتها من خلال الإبداع الذي يبقى شامخا في جلال يزيد الإنسانية إبهارا ودهشة برغم الفناء الجسدي في الزمن الزائف ( الماضي والحاضر والمستقبل ).

مأزق الوجود في رواية ” الحالم يتجلى من خلال شخصية البطل على اختلاف مراحل حضوره في الرواية، فأصل الحكاية هو الحلم، والحلم في التواجد بين الكبار في عالم الرواية جعل رضا خباد ( البطل ) يعيش على حافة الجنون، حلمه في أن يصبح روائيا جعله يفقد وظيفته، ومن بعدها زوجته وابنهما الذي كانت حابلا به، فالشجار الذي وقع بينه وبين زوجته في فندق ريجينا كان بسبب الحلم، وغضب زوجته منه بسبب الحلم، وحرق الأوراق ( مخطوطة روايته ) كان أيضا بسبب هذا الحلم، إنه الحلم في الوجود هو الذي أدخل البطل في قصة البحث عن مكانه في عالم الأدباء الكبار، صنع لنفسه عالما خاصا به، لا لشيء سوى لتحدي تلك العقدة، عقدة الفناء، فنائه ككاتب، عدم قدرته على دخول عالم الرواية بسبب العراقيل التي وجدها في أولى محاولاته.

المأزق هنا هو صدمته لفقدانه زوجته، الاحتراق أو الألم كان سببا في مرضه، الجنون، حالة انفصام الشخصية، هذيان أو بداية دخول الشخص القوي المتخفي في داخله إلى عالمه، والاستحواذ عليه ثم الاستبداد به، ويتجلى ذلك من خلال شخصية ريماس إيمي ساك.

الأبدية والخلود وعقد الفناء في “الحالم”

 في الجزء الأول من الحالم والتي عنونها الروائي بمساءل عالقة، يمهد الكاتب الحكيْ بتأن حتى يدخلنا إلى عالم رضا خباد الماورائي، عالم حقيقي في رأسه لا حقيقي في الواقع، فريماس إيمي ساك الذي يظهر في هذا الجزء رجلا يحكى عنه ولا يرى، يجسد فعلا عالم الخيال، فلا زمن محدد في هذا الجزء، حتى أننا لا نكاد نجده سوى في الظلام، العدم ظلام لا يرى، غير موجود.

فكرة ” الخلود ” عند البطل تظهر من خلال التوصيف الدقيق لشخوص الرواية في جزء ” مساءل عالقة ” لشخصية صاحب المقهى أو رب العمل وهو ريماس إيمي ساك الذي يملك القدرة على البقاء ولا يموت بحسب وصف النادل له، إذ يقول: ” … ببساطة لأن الموت يعني في النهاية إنهاء لوجود الشخص الميت، وهو أمر لا يمكن أن يحدث لرب عمله الذي أيسر ما يعلمه عنه، أنه كان قبل البداية وسيبقى حتى حين ينتهي كل شيء. إنه صاحب الفكرة في أن البداية نقطة لا قبل لها، وأن النهاية حدّ لا شيء بعده..” ص 54، يحاول المجنون رضا خباد هنا أن يطرح فكرة الخلود أو التواجد في زمن لا قبل ولا بعد، وهي فكرة أساسية طرحت وتطرح باستمرار، وأراد أن يدور في رأسه مسألة وجوده من عدمه وإمكانية بقائه بعدما فقد كل شيء ( زوجته حابلا بابنه، مخطوطة روايته، عينه اليمنى، وإصابته بمرض انفصم الشخصية )، بينما طرح فكرة عقدة الفناء وهي الهوس الذي يأسر عقل الكينونة على اعتبار أن الموت رمز للفناء، والخوف من التلاشي، ترك الأثر مثلما قال: ” الأثر، هذا ما كنت في النهاية ابحث عنه حين بدأت الكتابة. …الكتاب الكبار حين يموتون ويتم ذكرهم بعد موتهم مئات السنين…”،  لذلك يبعد البطل ( ريماس إيمي ساك ) كل ما يجعله ينمحي، تماما لما محى رضا خباد الشاب الذي كانه قبل أن يكون ريماس، ثم رماه في زاوية مظلمة في ذاكرته، يقول في الصفحة 47 :” أما الغرفة الثالثة، فبمجرد ولوجها يبدأ سلم في الانحدار إلى أسفل يقود إلى سرداب مظلم، اعتاد ريماس أن يضع فيه كل ما من شأنه أن يسيء إليه، ولأنه كان يعلم أن ثمة من الأسرار ما قد يتوقف عليها مصيره كروائي مشهور ومحترم، فقد جعل فيها لمزيد من الأمان خزانة بقفل مشفر يحفظ فيها بعض تلك الأسرار. لعل أخطرها ذكرى رجل قام بقتله منذ سنوات، ولكنها ذكرى بسبب حبسها لكل ذلك الوقت في الظلام، بدأت تتلاشى في عقل ريماس الباطن حتى بدا له أنه نسيها “، خشيته من أن ينكشف سره ( قتله لذاك الشاب، أو حقيقته وزيف شخصية ريماس، جعله يطمسها بمزيد من النسيان، وكأنه هروب من فكرة الظهور أمام حقيقته عاريا، الفناء ككاتب مرموق مشهور هي عقدة ” الفناء ” بينما سعيه للخلود خلق فيه الرجل المداري لكل ما يمت بصلة لحقيقته، الوجود بالنسبة إليه وجوده كمبدع مشهور يبقى على الدوام عبر الزمن، عقدة التفوق ورفض النظر إلى المرآة نظرة حقيقية، ولما يقول في الصفحة 47 : ” المشكل في الإنسان أنه لا يعلم متى تبدأ الأشياء السيئة في الظهور. ولو أن كل واحد منا آمن بصدق بالمبدأ الفيزيائي القائل ألا شيء يختفي حقا، وألا شيء يولد من العدم، لانسجمت حياتنا إلى درجة أننا كنا لنشطب عن طيب خاطر لفظة “السر” من قواميسنا بأية لغة كانت ” السر هنا هو حقيقته، رضا خباد القاتل لنفسه الضعيفة والمخرج لشخصيته الثانية المغرورة صاحبة عقدة التفوق، ليس غريبا عن حالة شخص مريض منفصم الشخصية أن يتصارع بداخله شخصان، جانبه الضعيف، وجانبه القوي، الذي إن عجز عن أن يكونه حقيقة، يكونه في حالة المرض وارتحاله نحو شخصية يتمثلها في ذهنه بينما يصعب عليه في العالم العاقل البعيد عن الجنون أن يكونها، إذن ريماس إيمي ساك هو حضور جانب من حلم المريض في لحظات تنتابه نوبات جنون لا عرف إن هو هو رضا خباد الفاشل المتألم، أم هو ريماس الكاتب القوي المرموق في كامل عنفوانه، لكن الصراع الدائم بين الشخصيتين بداخله، يظهره محبا لطمس ضعفه تارة، ومشتاقا للعودة لنفسه كما كان قبل مرضه، لكن في النهاية ينكشف السر، ويقتل إيمي ساك بداخله، ويخرج الميت من الحي الميت للتو، هكذا هي لحظات موت ريماس وعودة المسخ الذي هو في الأصل لم يكن سوى ظله معكوسا على مرايا لم يرغب أن يرى ذاته فيها على حقيقتها، وبقي يراوغ ويراوغ كي ينسي ذاته ذاتها ويزيد من حالة الهوس الإبداعي بأن ترجم حلمه بطريقة أخرى، إذ يخلق شخصية أخرى وهي المترجم، أو الروائي الشاب الذي قتله من قبل ثم أحياه من خلال منحه دور مترجم إيمي ساك، أو المترجم الذي يشرح جوانب خفية من شخصية البطل ( رضا خباد ) لكنه ينهيه بطريقة مجنونة ويعيد ريماس مرة أخرى ويأبى العودة لما يتحدث عن إمكانية أن يعود للأعمى بصره ويرى مجددا، أليس هذا تحايلا على الحقيقة.

يزيد من الحديث عن الأبدية والفناء في قوله : ” … إننا في النهاية مجرد كائنات تسعى إلى الكمال رغم علمها أنه يستحيل عليها ذلك، لا بسبب أنه أمر غير موجود، أو لأنه صفة إلهية لا تليق بفانٍ، بل لأن نقائصنا هي في منظور الفيزياء عدم، ولا شيء يولد من العدم. ثم إن “السر” أمر وجد فيها لحظة وجودنا. … هنا بدأت علاقتنا بـ”الظاهر” و”الخفي”. الظاهر تسيره الصراحة والخفي يلجمه السر. كان السر إذن أمرا موجودا معنا، وما كان ليختفي، ببساطة لأن لا شيء يختفي حقا.” يعني بكلمة السر هنا، هو الجريمة التي قام بها لما أخفى الحقيقة في سرداب مظلم في ذاكرته.

وتتضح فكرة أن الإنسان في النهاية كائن منقضي يرفض تقبل تلك الفكرة، فينقض نحو مزيد من التناسي وتعميق الهوة بين حقيقته الفانية وحبه للخلود، تماما ككينونة مرتبطة بفكرة الروح المتعالية للإله، أليس ذاك ما أراد أن يرسمه الكاتب من خلال شخصية ريماس إيمي ساك لما يحكى عنه من طرف شخوص رواياته بأنه لا يموت وهو كان قبل القبل، كأن يصوره كإله، تتجسد هنا نظرة اليونان والرومان للوجود في أسطورة (سلسلة الوجود العظيمة)،  يتحول الرجل الذي يوظف كل الشخوص في أعماله دون أن يرونه، إلى رب يوظفهم كيفما يشاء وقت ما يشاء ويعطيهم حياوات وعوالم خاصة بهم، ويغيرها بحسب رغبته، دون أن يتيح لخدامه أن يرونه، ألا يتشابه هذا مع فكرة ” سلسلة الوجود ” وفقا لأساطير اليونان، هل الكاتب ” ريماس إيمي ساك ” تحول إلى شبه إله له القدرة للتحكم في عالم يخلقه هو كيفما تصور، ووحده يمتلك تلك الخاصية المقدسة للقدرة الهائلة والعلم بكل شيء، وكلية الوجود في كل زمان ومكان.

 في الرواية الأولى من الروايات الثلاثة المشكلة للحالم، نجد أنفسنا أمام الجزء المخصص للخيال، البطل الرئيسي في ” مسائل عالقة ” هو ريماس إيمي ساك، أو الجزء الذي يكون فيه رضا خباد في كامل نوبات جنونه، وصفها الكاتب بحالة ” الهوس الإبداعي “، حيث يتخيل نفسه روائيا مرموقا يكتب اللغة الفرنسية بدل العربية التي هي في الأصل اللغة التي كان يحلم بأن يكتب بها. مساءل عالقة، أو حساب إيمي ساك المشهور مع عالمه الخيالي الذي تصوره، حسابه مع ذلك الشاب الذي تحوله وصاره هو في لحظة تماه، الشاب الذي كأنه قبل أن يكون هو كما هو متجردا منه، الشاب الذي قتله منذ أربع سنوات، الذي كان هو نفسه الشاب الذي تشارك معه في مرحلة من مراحل عمره الأدبي، أو أولى مراحل ظهروه في عالم الإبداع، المسألة العالقة الأكثر إزعاجا للبطل هي كيف يتخلص من ذاكرته القديمة التي خبأها لسنوات، الرسالة التي تصله من مجهول يهدده بالقتل، هي نفسها رسالة رضا خباد من جانبه العاقل إلى جانبه المجنون حيث الفاصل بينهما خيط رفيع.

تغليف العدمي بالحسي “السيد الموت”.   

لما يتحدث عن الموت بغرابة تارة وبواقعية تارة أخرى، يخلق له جسد، يكوي له ملابسه ويستعد لاستقباله مثلما يشير لذلك في الجزء المسمى ” الكفيف يمكن أن يرى “، وفي حين آخر يتحدث عنه بشيء من سوريالية القرون الغابرة لما كان يتمثل الموت في شكل وحش مخيف ينقض على فريسته، هكذا يغلف الروائي قسيمي أشياء لا حسية بقالب مادي ويضفي عليها الحياة، ليجعل الموت والحياة يتعانقان في لحظات، يوقر الموت ويجعله سيدا ( السيد الموت.. لما كانت أمه تحكي عنه وتصف لإبنته جميلة بوراس في مشهد يجعل الموت رجلا يلبس السواد ، المشهد في الرواية يتضح من خلال حوار الجدة وحفيدتها لما كانت تصف الموت في الصفحة 223 : ” .. ودخل السيد “الموت” من النافذة. ومع … تتخيل السيد “الموت” يصرخ عليها حينا ويترجاها حينا آخر أن تدعهما يرحلان، فلا يزال الليل في أوله، وعمل السيد “الموت” لم ينته بعد. هنا تذكرت جدتها لويزة حين سألتها عنه أول مرة..- .. ولماذا يدخل من النوافذ؟ ” – لأنها كثيرة عزيزتي، ففي كل بيت نوافذ عدة وباب واحدة.- ولماذا لا يدخل منها بهدوء مثلما يفعل النسيم؟- لأن لا شيء يقدر على حمله إلا الريح، ولا شيء يخفي رائحته إلا المطر..- ولماذا يا جدتي يحمل معه البكم والصمت معا؟- لئلا يضطر للكلام فيسمعه من لم تكن يد القضاء قد رسمته بعد فيموت..- ولماذا يحب الليل- حتى لا يراه أحد، فهو أسود.. أكثر سوادا من حبة الفحم..- وكيف يستطيع أن يأخذ الكثيرين في وقت واحد؟- لأن لديه يدين طويلتين تتمددان مثلما يشاء. ” يصف الكاتب الموت وصفا عجيبا غريبا لكنه أقوى ترميز لحقيقة الموت وإن كانت فكرة الموت في الأصل  ميتافزيقية متواجدة في ذهن الإنسان، يتصورها كيفما شاء، إلا أن الروائي هنا، غلفها بالجسد، أعطاعا معنى حسي كأنما يلبس الوجود بالعدم، ( العدم ميتافيزيقي والجسد وجود ).

يظهر تغليف المعنوي بالحسي في الجملة ” الإنتهاء يفترش الوحدة حتى ينام بداخلي ” وأيضا ” عاشرها الحلم أحيانا ” أليس الذي يفترش لينام هو الإنسان وخاصية النوم خاصية للكائنات الحية ( عاقل: انسان، غير عاقل: حيوان، طير )، والذي يقوم بفعل المعاشرة ليس الحلم بل الرجل، وهو ترميز غرضه تقوية معنى التوق للمعاشرة

أبطال الرواية واحد في أربعة وامرأة وجنسانية

إذا قلنا رضا خباد فهو كل شيء ولا شيء، موجود وغير موجود، يحكى عنه ولا يحكي، لكنه هو متجسد في جسد ريماس إيمي ساك، وفي ثوب الشاب سمير قسيمي المترجم وفي شخصية الروائي سمير قسيمي صاحب الأربع رويات والمتهم بسرقة رواية “ثلاثون”، كلهم مجتمعون هم رضا خباد، هذا الأخير يمكن وصفه كشخصية ضعيفة منطوية مريضة تعيش في هلوسة دائمة، رضا الرجل الذي كان يحلم وبقي يحلم ورفض الخروج من دائرة الحلم، حلمه بالإنجاب، ابنه الذي حلم أن يسميه نورالدين، لم يتحقق، وحلمه في كتابة ونشر روايته تبخر في أول شجار بينه وبين زوجته جميلة بوراس، خباد شخصية ضعيفة لأنها لم تتحمل الألم ( موت الزوجة محترقة ) ألم ضياع مخطوطته حرقا، ألم الصدمة بفقدان الجنين في بطن زوجته المتوفاة، لو كان قويا لتحمل، لكن ضعفه أدى به للجنون، ولما يكون الجنون يكون بينه وبين العبقرية خيط رفيع، ذاك الخيط صنع منه عالم خاص به، في المستشفى الذي كان يعالج فيه، حول إسم رضا خباد تارة إلى مريض، وتارة إلى دكتور، ثم أدخله معه في رواياته لما جعله عشيقا لإبنته ( زوجته في الحقيقة )، صنع لنا رضا خباد الخائف المتردد يظهر ذلك أيضا في عشقه لجميلة بوراس ورغبته التي حاول أن يكبح جماحها بما هاجمته شيطانتها، ثم يظهره جنساني في لحظات، هذا هو خباد بمنظور خباد نفسه، أما ريماس إيمي ساك، وهو شخصية صنعها المجنون لنفسه، ليكون في لحظات اختلاس الزمن والعودة به إلى الما قبل، رجلا عكس حقيقته، إيمي ساك أناني طماع، غرائبي مفرط في الخيال، انطوائي، قوية، مغرور، مرموق، محتقر لغيره خاصة الضعفاء، في الحقيقة هو احتقار خباد لنفسه الضعيفة، وما حكيه عن تلك الرسالة التي أرسلها ايمي ساك للمترجم وهو الروائي الشاب الذي لم ينجح في أولى محاولاته في اقتحام عالم الرواية، إلا لذم نفسه وضعفها لما لم يستطع مواجهة زوجته واستسلامه بسرعة لحل حقير وهو عملية الحرق، أو الحل غير الصائب.

إيمي ساك في النهاية يظهر على حقيقته ( رضا خباد الضعيف الخائف ) لما يعبر عن خوفه من الموت وتهديد الشاب المقتول مسبقا بقتله، المترجم على العكس، شخصية محبة، قوية طموحة غير قلقة، شخصية مثقفة تطالب الكتب وحتى خارج عالم الرواية، شخصية حالمة تشتهي الجنس، شخصية واقعية أكثر، تظهر لنا مرحلة عرف فيها رضا خباد حالة استقرار نفسي وعودته للحياة ورغبته في الشفاء، لكن خباد المجنون يصر على أعادة إيمي ساك إلى اللعبة ( صوب الحياة… صوب العدم… صوب الحياة… صوب العدم ) ظل يرددها في أكثر من مشهد، ارادنا في ( الكفيف يمكن أن يرى ) أن يعود لعالمه الخيالي رفضا للتعافي، بذلك يكون رضا خباد والمترجم وإيمي ساك، كلها شخصيات تمكن منها رضا خباد المنفصم الشخصية، لكن الشخصية التي لم يتمكن منها كانت الروائي سمير قسيمي التي استحوذت على تفكيره، ورسمها منذ بدء السرد حتى النهاية، شخصية واثقة من نفسها تأبى التراجع والتخلي، شخصية متحكمة في نفسها وتعلم ما تفعل.

شخصية جميلة بوراس في الرواية تظهر رغبة المريض في تذكر زوجته على أوجه مختلفة، لكن يظهر لنا شبه عقدة أوديبية، تماما مثل مسرحية هامت، عقدة أوديب أو شبقية نحو الأم أو الإبنة، كما يظهر من خلال الوصف المستفيض للرغبات والمشاهد الجنسية التي تحدث عنها ( إيمي ساك ) وكذا اللقاء الحميمي لجميلة برضا خباد والحديث الشبقي بينهما عبر الهاتف، كل تجسيد لجميلة بوراس في الرواية كان يطغى عليه الجنسي، برغم وصفه لها في إحدى المشاهد وهي تحتضر، وصف ألم الاحتضار. مشابه لألم الاحتراق، فزوجته في الحقيقة ماتت بسبب الحريق الذي نشب في فندق ريجينا، وهي نقطة تؤرقه على الدوام.

رواية “الحالم” على اختلاف ما قيل بشأنها، ومهما تعدد القراءات بخصوص السرد أو البناء، أو إدراجها في هذا الخندق أو ذاك، مثلما ذهب إليه بعض النقاد، هي عمل ضخم، نص تجديدي في الرواية العربية من حيث طرحه لمفاهيم الوجودية والعدم، وغرائبية الكينونة، وكلها تدخل في سياق محاولة قسيمي أن يخلق نوعا جديدا من القوالب السردية لم يكن موجودا مسبقا في الأدب الروائي العربي عموما، والجزائري بالأخص.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحالم – رواية – سمير قسيمى

الدار العربية للعلوم ناشرون ومنشورات الاختلاف 2012 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مصطفى حفيظ

كاتب وناقد جزائري

 

مقالات من نفس القسم