توظيف تيار الوعي في الرواية.. قراءة في رواية “يحدث أمس” لإسماعيل فهد إسماعيل

إسماعيل فهد إسماعيل
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

  د. مصطفى عطية جمعة

        لا يمكن أن نفصل في قراءتنا لجلّ الأعمال القصصية والشعرية المعاصرة عن البعد النفسي الذي يغلّف بنياتها ؛ فقد أصبح تيار الوعي، بأبعاده النفسية والتقنية المتعددة، وسيلة لفهم العمل الإبداعي، وفهم طريقة المبدع في بناء وتشكيل عمله، وطريقته في الغوص والكشف والتشريح لشخوصه. وهو يمثّل لدى الروائي ” إسماعيل فهد إسماعيل ” في معظم أعماله مدخلاً هامًا للقراءة والدرس، فقد كان يسعى منذ مجموعاته الأولى إلى الاستفادة القصوى من تقنيات التداعي، خاصة تقنية ” الارتداد ” أو ” الفلاش باك “.

  ووصل الأمر معه إلى الذروة في أعماله الروائية الأخيرة، حيث أضحى الوعي من أبرز السمات التي تلوح للقاريء منذ ولوجه إلى النص.

    ونموذجنا هنا رواية ” يحدث أمس ” ([1])، حيث كان الهم النفسي أو تقنية التداعي هي المسيطرة منذ المفتتح. وهذا طبيعي، ويتسق مع المضمون المطروح، والمتمثل في عودة البطل ” سليمان ” من غربة سبع سنوات في الكويت إلى بلده ” البصرة ” في العراق، ومنذ المطلع، نجد أن التداعي الحر، بأشكاله المختلفة جاثمًا على نفسية البطل، وعلى السرد الروائي. وقد اتخذ أنماطًا عدة تتمثل في :

  • التلازم الشيئي :

   أي الترابطية التي تستدعي أشياء متجاورة، فالبطل يستذكر الماضي وهو يشاهد أشياء من الحاضر، ويلح في ذلك كنوع من الاستمتعاع العقلي المعتاد لدينا، كلما رأينا ما يذكّرنا بما نحب، وقد كان على امتداد الصفحات، وخاصة في الفصول الأولى.

 ” غابات النخيل تترامى حيث لا حصر، ولا ترى منها … غير جذوعها العملاقة، لدى اصطفافها على جانبي الطريق. يذكر عن طفولته، أنه كان يسوّد فراغات كراريسه المدرسية برسومات متنوعة للنخلة. الإنسان والنخلة يولدان – في البصرة – متلازمين، كما العِشرة والمصير..” ([2])

  غابات النخيل، رسومات الكراريس عن النخيل، شيء بشيء، ولكن الأول مألوف في بيئة زراعية كالبصرة، إلا أن الاستدعاء جاء بشيء فيه متعة للبطل الآيب، فاختار مشهد طفولي، يحمل الإحساس بحميمية المكان والأشياء لدى البطل منذ نعومته. فهي علاقة متناغمة في التداعي.

  • المقارنة :

      بين شيئين، في مكانين وزمانين مختلفين، وتلك يقيمها العقل، كنوع من التلذذ عندما ينتصر للمكان الذي يحبه. فبينما يسير بمفرده في الطريق إلى قريته، يسمع..

” نقيق ضفدع متوحدة، يُسمع في الجوار. يتملكه إحساس رائق بالألفة. سبع سنوات، لم يسمع خلالها أيما نقيق. ” الكويت بلا ضفادع “.  ضفدع أخرى تستجيب للأولى،  الليل له أصواته”([3])  فرغم أن نقيق الضفادع مما يضايق النفس، فإنه أصبح كنغم وتيمة مميزة للبصرة، ولا تمّيز الكويت، لأن الضفدع يميل للعيش في المكان الزراعي، حيث الماء والخضرة. فهنا مقارنة، غير مباشرة بين الرمل والزرع.

– المنولوج الذاتي :

   ويكون بين الواقعي والمتداعي، حيث البطل لا يكف عن المنولوج الذاتي مع المكان والغربة، والأشياء. فمع شعور اللذة بالعودة، ينتابه الخوف..” أحس كما لو أن هناك من يترصده. عيناه كانتا اعتادتا الظلام أكثر … ” الضفادع ما عادت تنق “، يرهف أذنيه. لا نأمة، ولا ما يؤكد له شعور الترصد. أهي الحساسية المترتبة على سنواته في الكويت، حيث لا غابات ولا نخيل ولا منعطفات لدروب زراعية…. ” لم يبق الكثير عن البيت ” …”([4])

    فالخوف والأمل في لقاء الأهل، والمقارنة مع الكويت – كاغتراب – يتفاعل في الوعي، ومع اللاوعي، حيث الشعور بالترصد الذي يصاحب البطل، وهو يسير في الدروب المنحنية، يخشى من المنعطفات أن يكون خطرًا، وهو الذي يرى كل شيء واضحًا عندما كان يسير في صحراء الكويت المنبسطة.

  • تقنية الارتداد :

    وقد جاءت عفوية ممتزجة مع السرد، دون فواصل، وفي تداعٍ حر لم يستوجبه شيء أو مكان، بل هو التداع الناتج عن استحضار الوعي لكل ما مضى..، فقد كان سائرًا في الدرب إلى بيت أهله

” أيام كان في الكويت، وفي اللحظات التي يمضّه فيها الحنين إلى الوطن، تحضره – دون غيرها – صورة هذا الدرب، لتحتل بانطباع حاد ذاكرته كلها..

  • ذكرى جميلة أشبه بلوحة تأثيرية.

ذاك ما عقبت به نجوى، عندما كاشفها حالة حنينه تلك..” ([5])

    فـ ” الفلاش باك ” جاء وهو يتذكر الحنين في الكويت بينما هو سائر في الدرب إلى بيت أهله. إنه يقدّم أمام عقله، كل ما كان يقلقه ويضابقه، كأنه يستحضر التعب وقت الحصول على الأجر. فهو ارتداد تلقائي واعٍ من البطل.

  • الحلم :

    فبعدما سقط في أسر المجموعات التي اعترضت طريق عودته، كان بين إغفاءة وصحو ” لحظات خليط، يتداخل فيها زمن النوم بزمن اليقظة، لتتأتى عنهما حالة من الحضور المعلق. …. كان يصارع مياه شط العرب. يسبح منذ أمد لا أول له. المياه نوع من الجيلاتين الثقيل. ” من أين جاء؟”. أصدقاؤه يصطفون واقفين على الساحل …” ([6])

    جاء الحلم معبرًا عن الحيرة التي يعشيها البطل وهو في سجنه، وقد جسّد الكثير من الرموز التي جمعت المكان ” شط العرب “، وأثارت التساؤل العميق عن المجيء. فكان إيراد الحلم ممثلاً لإكمال حالة النفس البشرية في جميع أحوالها.

    هذه التقنيات فرضت أشكالاً سردية، مثّلت تميزًا في الأسلوب السردي للرواية، فالكاتب معنيٌ بحشد كل التفاصيل عن المكان الذي يصفه، وعن محتلف الأمكنة والأحداث المتداعية، بأسلوب يقترب من الوصف المجرد، المعتمد على الفنيات المتعددة التي يفرضها تيار التداعي، وهي غنية في بنياتها، مثلما هي غنية في دلالاتها، وكان من أبرز السمات السردية :

  • الحوار المزدوج :

     أي الذي يجمع بين التخاطب الخارجي والمنولوج الداخلي، والأخير ظهر محددًا في علامات تنصيص سردية. ” -.. كان الأحرى بي ألا أتورط في هذه التوصيلة !

سليمان مع نفسه، يجد تبريرًا.

” له الحق، ما دام غريبًا على المنطقة ” ……. ” ([7])

  وهذا الشكل نراه في أعمال الروائي بشكل عام،  و على امتداد تلك الرواية بشكل خاص. وهذا مطلب يستلزمه العمل، الذي يحلل الأشياء والأفعال من رؤية البطل لها.

  • التكرار :

  ويظهر كتيمة أسلوبية، تمثّل إلحاح القاص على أمر بعينه، وينسجم هذا مع الإحساس بالمكان والزمان والأشياء من حوله.

 ” الدرب مألوفة، لولا هاجس التوقع الطاريء. ” البيت هناك. لا بد من المتابعة “. الدرب مألوفة، لكن شعورًا قاتمًا بالهامشية يبدأ يترسب في فمه..” ([8])

   فالتكرار عبر بدقة عن حالة الرهبة التي أضفاها المكان ( الدرب ) بكل منعطفاته واسوداده، وما أحدثه من حوار ذاتي مع البطل، كأنه يطمئن نفسه، حتى لا تنسى لذة العودة.

  • الحذف :

    وهو ينقل توترات السرد، الذي يعكس حال البطل أو يجتذب المتلقي لإكمال العبارة أو الكلمة المحذوفة. ” في المدرسة … عانيتُ يومها من جوع شديد. لكني وأنا أدلف إلى البيت ظهرًا، ركضت إلى المطبخ. طعام الغذاء لم يكن قد …. فسارعت إلى مخزون التمر …. ” ([9])

  فالنقاط تشي بالمحذوف، بل وتنقلنا حركيًا ونفسيًا مع البطل / الطفل، وهو يفكر فيما سيأكله.

  وعندما كان رهن التحقيق والاعتقال :” صوته، كما خُيّل إليه، غريب على أذنيه. بدا وكأنه يحاول إثبات صدق ادعائه لنفسه. وهما لم يعنيا.. لم يسمعا … لم …. – …لو سمعتم ! ” ([10])

فالتقطيع والحذف في الجمل، يصور بوضوح الحالة النفسية التي عليها البطل، حيث الحوار الخارجي، والمنولوج الداخلي.

*          *           *           *

      لاشك أن تيار “الوعي” سيظل عاملاً ومرشدًا هامًا في الأعمال الإبداعية، في قراءة الشخوص والبنية وأيضًا يعطي صورة بشكل أو بآخر عن المؤلف المبدع، وهذا ما لاينبغي إهماله بأي حال.

……………..

( [1] ) منشورات دار المدى . دمشق . الطبعة الأولى . 1997 .

( [2] ) ص 7 .

( [3] ) ص 17 .

( [4] ) ص 21 .

( [5] ) ص 19 .

( [6] ) ص 40 .

( [7] ) ص 10 .

( [8] ) ص 18 .

( [9] ) ص 20 .

( [10] ) ص 32 .

مقالات من نفس القسم