أشرف الصباغ
من الممكن أن يلمح الإنسان عشرات، بل مئات التماثيل الخاصة بالكاتب الروسي العظيم فيودور دوستويفسكي في كل مكان في روسيا، وبالذات في موطنه الأصلي، مدينة سان بطرسبورج، وفي مدارسها ومؤسساتها الثقافية، وأيضا أمام المكتبة المركزية في موسكو، حيث يقف واحد من أجمل تماثيله.
في الواقع، مدينة سانت بطرسبورج استعادت اسمها بعد سنوات من الغربة. فقد بدأت باسم بتروجراد، ثم سان بطرسبورج، ثم ليننجراد، وأخيرا استعادت ذاتها وعادت لتصبح سان بطرسبورج. ولكن لا توجد أي ضمانات بأن يبقى هذا الاسم إلى الأبد، لأن الحكام الروس عادة يفضلون اختصار الزمن وتوفير الوقت، بتغيير الأسماء بدلا من تشييد مباني ومدن جديدة بأسماء جديدة. فالمكتبة المركزية نفسها، والتي كان اسمها حتى انهيار الاتحاد السوفيتي، مكتبة “لينين”، صار اسمها “المكتبة المركزية ووضعوا أمامها من أجل تأكيد العودة إلى الذات الروسية السلافية الأرثوذكسية حصرا، تمثال فيودور دوستويفسكي صاحب المشاكل العديدة مع الديانات والأفكار والآراء، ومع نفسه هو شخصيا. وعلى الرغم من ذلك، لا يتورع المثقفون العرب وأنصاف الصحفيين وأشباه المتعلمين أن يلصقوا دوستويفسكي بالإسلام تارة، وبالعرب تارة أخرى، وكأنهم يبحثون عن ذواتهم في منجزات الشعوب الأخرى. بينما دوستويفسكي لا ينتمي إلا إلى القومية الروسية ذات الديانة الأرثوذكسية الشرقية حصرا. إنهم ببساطة، يخلطون بين انفتاح فيودور ميخائيلوفيتش على كل الثقافات والأديان والمعارف ليس فقط بحكم طبيعته ووظيفته ككاتب، بل وأيضا بحكم إيمانه بوحدانية المصير البشري، وبين خصوصيته وتفرده كإنسان وإيمانه بالفكرة الروسية وتأويلاته لها. وبالتالي، فهو من هذا المنطلق، منطلق توحده مع الفكرة الروسية، نجده روسيا حتى النخاع وأرثوذكسيا متماه مع مسيحيته الشرقية حصرا. إن المسألة هنا مرتبطة بموضوع “الهوية”. وهذا موضوع طويل يحتاج إلى رواية أو مجموعة قصصية أو حتى عدة كتب نقدية معادية لتهافت أشباه المثقفين العرب وإخوانهم أشباه الصحفيين وأنصاف المتعلمين، بل ومعادية أيضا للمثقفين الروس الخبثاء الذين يخدعون أمثالهم العرب ويضحكون عليهم، ويروجون لديهم ما يروق لهم من اعتقادات دينية أو حضارية وهمية.
أمر عادي، في الإمبراطوريات الساكنة أو السكونية، أن يستولي القادة والزعماء وأمراء الأمن والحروب على إنجازات بعضهم البعض، أو تدمير منجزات بعضهم البعض. وبالتالي، تصبح الدهشة أمرا روتينيا يتحول إلى ابتسامة أو تنهيدة أو دمعة عندما نصادف مثل هذه الظواهر أو نقرأ عنها في التاريخ. فعلى سبيل المثال، إذا نظر الإنسان إلى الأوضاع السياسية والاجتماعية والفنية في العالم العربي سيصاب بالعديد من الوجع والمشاعر والأحاسيس المتناقضة، ولكن تظل الدهشة هي الإحساس الأكثر طغيانا. كان من الممكن أن تبقي هذه التوصيفات “ماركة مسجلة” خاصة بالعالم العربي ذي الحضارة الإسلامية المجيدة والسيوف التي لا تزال تقطر دما، سواء كانت هذا الدم هو دم الناس الذين يعيشون في هذا العالم أو دم الناس الآخرين في البلاد البعيدة. غير أن روسيا تمكنت بجدارة من التفوق على ما يسمى بـ “العالم العربي” في هذا المضمار، وأجبرت الإنسان المتأمل أن يكف عن “فعل” الاندهاش”. أي أن كل الأمور أصبحت طبيعية، وكل ما يجري هو من طبائع الأمور.
روسيا عالم كامل ومكتفٍ بذاته من حيث التناقضات، فإلى جانب دوستويفسكي يمكن أن يجد الإنسان ليس فقط ليف تولستوي وبوشكين ونيكراسوف وتورجينيف وجوركي وبونين ومايكوفسكي ومارينا تسفتايفا وأنَّا أخماتوفا وبيللا أخماتولينا، بل وأيضا الثنائي الأعظم “تاتو”. ويندهش هذا الإنسان عندما يجري استطلاع رأي لمقارنة شعبية “تاتو” ودوستويفسكي مثلا. ولكن سرعان ما تزول الدهشة حينما يُظهر استطلاع الرأي بأن “تاتو” قد تفوقت باكتساح. ويصل الإنسان إلى مرحلة الكف عن الاندهاش عندما تذيع وكالات الأنباء ووسائل الإعلام المرئية والمقروءة بأن اليابانيين، بعد أن شاهدوا الثنائي “تاتو” واستمعوا إليه، اكتشفوا إحدى أهم القيم العظيمة بعد أن كانوا يظنون أن دوستويفسكي هو القيمة العظمى الوحيدة في روسيا.
في خبر يعتبر الثاني من نوعه ربما في أواخر عام 2003، أعلنت مديرة المركز الإعلامي “نيفورمات” ساشا تيتيانكو أن الثنائي “تاتو” سوف يتقدم بأوراقه إلى لجنة الانتخابات المركزية في روسيا للتسجيل من أجل المنافسة على منصب الرئاسة الروسية. وإمعانا في تأكيد النبأ، قالت ساشا أو ألكسندرا: (سوف تقوم كل من “يوليا” و”لينا” بالترشيح معا، وبالضبط كما تغنيان معا. فنحن لا نستطيع التفريق بين الفتاتين. في البداية سنجمع الـ 500 توقيع اللازمة لتقديم المرشح. وبعد ذلك سنرى كيف يمكن جمع بقية الـ 2 مليون توقيع الأخرى). وأضافت بأنه في 27 ديسمبر 2003 في الساعة 12 ظهرا بتوقيت موسكو ستجري مراسم جمع التوقيعات في قصر شباب موسكو من أجل تسجيل تاتو لمنافسة بوتين.
أما المشكلة الحقيقية التي كانت تواجه السيدة المحترمة ساشا فهي كيف يمكن التغلب على شرط سن المرشح المنصوص عليه في الدستور الروسي. إذ أن الدستور ينص على أن سن المرشح لرئاسة روسيا الاتحادية يجب أن لا يقل عن 35 عاما بالتمام والكمال. ولكنها قالت: “يمكن حل هذه المشكلة ببساطة في حالة قبول ترشيح الفتانين معا، لأن مجموع سنوات عمرهما يتجاوز الشرط المنصوص عليه في دستور روسيا الاتحادية”. وبصدد الترشيح الثنائي، قالت ساشا: “الدستور الروسي لم يذكر على الإطلاق أي نص بهذا الصدد، وبالتالي فمن حق أي مواطن تنطبق عليه بنود الدستور أن يرشح نفسه لرئاسة الدولة”. هذه التخريجة القانونية الأقرب إلى الخراء والإدمان الكحولي، وربما إلى أحد الأوجه المظلمة للنيتشوية أو المكيافيللية الماسونية، نسبة إلى السياسي الإيطالي السيد نيكولو مكيافيلي مع بعض الطقوس الماسونية، أثلجت صدور الجميع، بمن فيهم النساء. فعرَّى الجميع صدورهم احتفالا بهذا الفتح المبين، وصاروا ينتظرون عصر “تاتو” في حكم روسيا ما بعد السوفيتية.
في الواقع لم يكن الثنائي “تاتو” فقط هو الذي بدأ الحديث عن ترشيح نفسه في ظل المشكلات السياسية والقانونية التي يرغب زعماء الأحزاب السياسية إشعالها خلال فترة الانتخابات بالانسحاب منها، بل ومقاطعتها، وبالذات الأحزاب التي فشلت في تجاوز نسبة الـ 5% اللازمة لدخول البرلمان مثل حزب “اتحاد القوى اليمينية” و”يابلكو”، ومعهما أيضا الحزب الشيوعي الذي انتكس انتكاسة “غير مدهشة” في الانتخابات البرلمانية الروسية التي جرت في 7 ديسمبر 2003. فمع فتح باب الترشيح للانتخابات الرئاسية الروسية في 14 مارس 2004 أعلن جيرمان ستيرليجوف أول مرشح منافس للرئيس فلاديمير بوتين، آنذاك، عن عزمه على تقديم أوراقه للمنافسة على منصب الرئاسة في روسيا. وستيرليجوف صاحب بيزنس ضخم لصناعة التوابيت، وشركته “الإخوة ستيرليجوفيخ المتحدة لصناعة التوابيت” هي أشهر الشركات الروسية في هذا المجال. وقامت منظمة قومية متطرفة تدعى (الحركة القومية المعادية للهجرة)، والتي كانت ترفع شعار “روسيا ليست للأجانب”، بدعم ترشيح ستيرليجوف الذي يتمتع بعضوية مجلس إدارتها. وشرعت هذه المنظمة بجمع 2 مليون توقيع من مواطني روسيا، وهو العدد اللازم لتسجيل المرشح. وقال ستيرليجوف نفسه بأنه سيتقدم إلى اللجنة المركزية للانتخابات في روسيا بأوراقه من أجل المنافسة على منصب الرئاسة. وأضاف بأن النقاط الرئيسية في برنامجه الانتخابي سوف تدور حول الديموجرافيا والمسألة القومية والتي بدونها لا يمكن تحقيق الإصلاحات الاجتماعية-الديمقراطية.
الأمر “غير المدهش” أن جيرمان ستيرليجوف كان قد خسر قبلها بعدة أسابيع في انتخابات عمدة موسكو التي جرت في 7 ديسمبر 2003 أمام يوري لوجكوف الذي فاز بفترة ثالثة. بل وخسر أيضا في انتخابات حاكم كراسنويارسك التي جرت فى خريف 2002. ولكنه رجل روسي قوي العقيدة والإيمان والولاء. لم تؤثر فيه الهزائم، ولا أثَّر فيه كلام الناس السخيف بأنه “الحانوتي وصانع التوابيت الذي يدمن الهزائم”. وفي الحقيقة، كانت هذه هي العبارات اللائقة والمهذبة التي كان يتم تداولها في وسائل الإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي البدائية جدا آنذاك، حيث غرف الأحاديث والحوارات على الإنترنت، وحيث يلتقي الأولاد والبنات في مطلع العالم الافتراضي ليمارسوا الحب الافتراضي والجنس الافتراضي، والتخطيط الافتراضي للمستقبل. كانت هناك ألقاب وصفات أخرى تستخدم فيها ألفاظ جنسية وأعضاء جنسية، ووصم، وفضائح…
وكان من أهم الإعلانات التي تقوم عليها شركة التوابيت التابعة لمنافس بوتين على الرئاسة، والتي كانت تملأ الشاشات ذات اللون “الأسود” في محطات مترو الأنفاق الروسي العظيم: “ستجدون مكانا مناسبا في توابيتنا بدون أولاد وإيروبيكا”، و”توابيت معطرة من شجر الأرز”، و”من أجل مستقبل أفضل”. وكان سعر التابوت الواحد يبدأ من 1500 دولار. غير أن الوجه الآخر للتوابيت ولتلك المهنة المهمة والضرورية والمرعبة في آن معا، كان وجها فلسفيا للغاية، لدرجة أنه يكاد يتماثل مع الوجه الفلسفي لبافل إيفانوفيتش تشيشيكوف بطل رواية “النفوس الميتة” التي كتبها نيقولاي جوجول العظيم ليصف فيها شراهة مواطنيه للمال والدم واللحم والتدين والورع والفساد كمكونات أساسية للشخصية الروسية ولشكل الجمجمة ولما تحتويه هذه الجمجمة من عناصر ومكونات وزوائد. فعندما سألوا المرشح الحانوتي جيرمان ستيرليجوف عن أحواله وأوضاعه وسير أعماله وعلاقته النفسية بالتوابيت، قال إنه بدأ الاشتغال بصناعة التوابيت منذ 6 سنوات فقط، أي في عهد الرئيس الروسي السكير بوريس يلتسين الذي كاد يحصل على لقب قديس. وأكد المرشح الحانوتي على أن العمل في صناعة التوابيت قريب جدا إلى طبيعته وتكوينه، فهو “يدفع الإنسان إلى النظر بصورة أعمق إلى وجوده.. وعندما تجد أمامك توابيت.. توابيت.. توابيت.. تبدأ العيش بشكل آخر تماما”.
كانت فلسفة صانع التوابيت لا تخلو من وجهة نظر. فهو رجل برجماتي تماما. وإلى جوار ذلك، هو وطني ومتدين، وليس لديه أي مانع من تنفيذ بعض طلبات جهاز الأمن الفيدرالي (إف إس بي) الذي حل محل جهاز “كي جي بي” سيء السمعة. كان يملك كل الصفات التي تؤهله لخدمة الوطن، مهما كان شكل الوطن، وحال الوطن، ووضع الوطن. أما مسألة حب الوطن، فلا يختلف فيها حانوتي أو رئيس. ففي تلك الأيام أو قبلها بعدة أشهر، كان الرئيس الأمريكي “الجمهوري” جورج بوش الابن ينوي زيارة روسيا. وكانت “المربية” الخاصة به السيدة كونداليزا رايس، التي كانت تشغل منصب وزيرة الخارجية الأمريكية ومرضعته ومربيته ووكيلة أعماله وأفكاره، كانت تعده ليصبح مثقفا استثنائيا نكاية في الديمقراطيين الذين يتباهون بثقافتهم الرفيعة في مواجهة حمورية الجمهوريين الأقحاف. فقالت له قبيل الزيارة، عندما يسألونك مَنْ تحب من الكتاب الروس، قل لهم دوستويفسكي. وإذا سألوك ماذا قرأت له، قل رواية “الجريمة والعقاب”. ومن أجل المصداقية حكت له باختصار موضوع الرواية وتركت له نسخة منها مترجمة إلى الإنجليزية لعل وعسى أن يتلاعب به شيطان القراءة. وصل جورج الصغير إلى موسكو. وبعد لقاءاته ومباحثاته، أجروا معه لقاء تلفزيونيا خفيفا لإقناع الروس والأمريكيين بأن الجمهوريين مثقفون وبشر عاديون مثلنا. سألته المذيعة عن أحب الكتاب الروس لعقله المستنير، فقال لها دوستويفسكي. فسألته عن العمل الذي يحبه لكاتبه المحبوب دوستويفسكي. فقال لها: “الجريمة والعقاب”. فقالت له بعفوية شديدة ومن دون أن تدرك أن روسيا الأم الحبيبة الرؤوم وفخامة الرئيس وجلالة الكرملين شخصيا يريدون أن يظهر جورج بوش بوجه ملائكي وعقل مثقف ثقافة رفيعة، فسألته: لكن هذه رواية صعبة للغاية، حتى بالنسبة للروس أنفسهم، أ لم يكن من السهل بالنسبة لك أن تقرا “الأبله”؟! فضحك فخامة الرئيس الأمريكي من هذا الإطراء العظيم، واعتبرها مجاملة لطيفة. بينما الروس كانوا يقرقعون من الضحك ويضربون أنخاب الفودكا ويمزون بالخيار المخلل ويتشقلبون من الضحك على الرئيس الجمهوري الأبله حبيب الكرملين…
في الواقع، الأمر ببساطة متعلق بموضوع “عدم الاندهاش” على الطريقة الروسية، فمؤسسة “الإخوة ستريليجوفيخ المتحدين” لصناعة التوابيت كانت قد قامت عقب بداية العمليات العسكرية في العراق في مارس 2003 بتقديم عرض مغري إلى الولايات المتحدة يقضي بتوريد الشركة عدد 50 ألف تابوت من أجل جثث الجنود الأمريكيين المشاركين في الحرب ضد العراق بعد هزيمة أمريكا على يد صدام حسين صديق روسيا والاتحاد السوفيتي من قبلها. ومن جانبه قام المدير العام للمؤسسة ألكسندر ياروشيفيتش بإرسال عرض رسمي إلى سفير الولايات المتحدة في موسكو، آنذاك، ألكسندر فيرشبو. وخلال فترة انتظار الرد، قامت المؤسسة بتقديم اقتراح آخر إلى السفير العراقي في موسكو آنذاك عباس قنفد تدعوه فيه إلى اتخاذ خطوة تعبر عن إرادته الطيبة وذلك بتسديد ثمن التوابيت الروسية من أجل الجنود الأمريكيين.
أما السفير العراقي في موسكو عباس قنفد، والذي مات بعد عدة سنوات بسكتة قلبية، ربما في الفترة الرابعة من رئاسة زعيم الأمة فلاديمير بوتين، فقد اتضح أنه كان يعمل لصالح المخابرات السوفيتية سابقا، ومن بعدها الروسية. وكلفته الأجهزة الأمنية الروسية، في بداية أزمة صدام حسين والأمريكيين، بعمل جبهة مقاومة وطنية مدعومة من الروس حتى يتمكنوا من الاستناد ولو حتى إلى أي كيان وهمي لوضع العقبات أمام أي تحركات أمريكية، أو على الأقل القيام بحملة بروباجندا لغسل أيديهم من دماء صدام حسين. وبالطبع لم يكن قنفد يعرف أن الكويت قامت بإقراض الاتحاد السوفيتي، برئاسة جورباتشوف، مبلغ مليار دولار. ولم يتم تسديد هذا المليار بفوائده إلا في منتصف العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين بعد مباحثات ومساومات ومفاوضات وصداع رهيب.
بعد ذلك انقلب قنفد على صدام حسين لأسباب لا يعرفها أحد. وبالتالي، انقلب على أصدقائه الروس الذين ساعدوه وحموه ودعموه ومنحوه الأوسمة والنياشين، وهرب من روسيا. تصادف ذلك مع حادثة المواطن العراقي الذي لجأ إلى الاتحاد السوفيتي هربا من نظام صدام حسين. إذ مات هذا المواطن بالتسمم الكحولي في طقس وصل إلى 24 درجة مئوية تحت الصفر بعد سكرة شديدة الوطأة بمناسبة عيد ميلاد المسيح، ووجدوا جثته مطمورة في الجليد بدون أي أوراق رسمية أو غير رسمية. ويبدو أن اللصوص جردوه من أوراقه ومحفظته وحذائه.
ولما كان الرجل العراقي فقيرا، ولديه مشاكل كثيرة مع زوجته الروسية بسبب البطالة والسُكر والاكتئاب والإحباط، اضطرت الزوجة إلى إنكار علاقتها به، وأوصت الأولاد أن يقولوا إنهم لا يعرفونه، لأنهم لا يملكون ليس فقط ثمن المقبرة التي وصلت أسعارها في ذلك الوقت إلى عشرين وثلاثين ألف دولار، بل لا يملكون ثمن التابوت الذي كان يبيعه المرشح للرئاسة جيرمان ستيرليجوف، وأمثاله، بألف وخمسمئة دولار. ونجحت الخطة، وتم دفن الرجل في مقابر الغرباء، وخسر جيرمان ستيرليجوف الانتخابات وثمن تابوت العراقي…
في الحقيقة، لم يكن قنفد ولا الرجل العراقي الذي أنكرته زوجته الروسية ولا صدام حسين ولا الكي جي بي، ولا حتى جورباتشوف والقرض الكويتي للاتحاد السوفيتي هم الموضوع الرئيسي الذي نتحدث فيه. الحديث يدور عن أشياء أكثر عمقا وأشد تأثيرا على العناصر المكونة لأرواح البشر. فلا مكان للسياسة والكلام الفارغ في الأدب إلا بقدر ما يحتاجه البناء الدرامي من حيث الفكرة والشكل لا أكثر. وبالتالي، فبالعودة إلى الموضوع الأصلي، نجد أن الثنائي الروسي “تاتو” الذي يتألف من المراهقتين الموسكوفيتين “لينا كاتينا” و”يوليا فولكوفا” كان يمثل أعلى مراحل ما توصل إليه فن “الطرب” الروسي الحديث. وكان الشاهد الوحيد على ذلك هو الجوائز الأولى التي حصدها هذا الثنائي في مختلف دول العالم، وعلى رأسها أمريكا وبريطانيا، ناهيك عن روسيا. ولم تتوقف شعبية الفتاتين على الغرب فقط، بل شقت طريقها إلى القلوب في الشرق الأوسط حيث سجلت مبيعاتهما من التسجيلات في دول الخليج أرقاما قياسية بأغانيهما التي يعتبرها النقاد الجدد أصحاب العالم الجديد والفن الجديد والأعضاء السليكون وأعضاء البرلمانات، بل وأعضاء مجلس الأمن الدولي عموما، والأعضاء الخمسة الدائمين على وجه الخصوص، مشروعا واعدا لموسيقى “البوب” للشباب في روسيا، إذ كانت “أغاني” الثنائي “تاتو” تتعلق، حسب نقاد العهد الجديد، بالضغوط الاجتماعية والحضارية، وبموضوعات حول الاضطهاد والقمع، والرغبة العارمة، والتداعيات الناتجة عن الخيارات الصعبة المتعلقة بالنشاط الجنسي للفرد. ولعل أشهر أغنية للثنائي الروسي هي “أنا اتجننت” التي انطبعت في ذهن جيل كامل من المراهقين ليس فقط في روسيا، وإنما في العالم كله، بتلك القبلة “الحميمة” التي يمكنها أن تصيب كل رجال العالم بسرعة قذف لا تقل عن سرعة قذف المقاتلات الروسية الأسرع من الصوت. كانت “لينا” و”يوليا” لهما السبق المطلق في تقبيل بعضهما البعض على خشبات المسرح بملابسهما الداخلية، حتى قبل قبلات “مادونا” و”كريستينا أجليرا” و”بريتني سبيرس” التي أوقفت العالم على قدميه وأشعلت بذور التمرد الجنسي لدى رجال الزمن الجديد الذين يتحدثون كثيرا في الجنس، ويتحدثون أكثر عن النساء، وإذا حضر الجنس وتوافر، راحوا يشاهدون مباريات كرة القدم أو انخرطوا في حديث طويل وجدي في السياسة.
تأسست فرقة “تاتو” في عام 2000 على يد أخصائي في علم النفس ومسؤول إعلان سابق يدعى إيفان شابوفالوف الذي شغل أيضا منصب منتج الفرقة. كان شخصية ذكية وإبداعية، وكان يفهم في كل شيء، بما في ذلك القانون والهندسة والأزياء والمخدرات والكوميديا والتدليس والتعريص والسياسة والأمن والبيزنس والنساء والسحاق. أما يوليا (مواليد 1985) فقد كانت الابنة الوحيدة لعائلة من الطبقة الوسطي. ولينا (مواليد 1984) ابنة لمؤلف أغاني شعبية وموسيقى معروف. وهي أصغر أخواتها الثلاث. تقول يوليا، التي مثلت أيضا في أفلام قصيرة: “تحب إحدانا الأخرى كثيرا جدا ولكن لينا مختلفة تماما عنى، هي لا تحب الحفلات وأنا أحبها. هي أكثر هدوءا وتقرأ كثيرا وأنا لا أحب القراءة”. غنت كلتاهما في فرقة الأطفال، ولكن كان على يوليا مغادرة الفرقة بعد اتهامها بالدعارة وإفساد مغنيات أخريات. بعد ذلك فازت لينا ويوليا في امتحان أقيم باستوديوهات “موسفيلم” الشهيرة من بين 500 مراهقة تقدمن للامتحان. وشكلتا بعد نجاحهما فرقته باسم “بروجيكت”، تم تغييره فيما بعد إلى “تاتو” وهو اختصار للعبارة الروسية (هذه تحب تلك). وطبعا، استوديوهات “موسفيلم” هي التي أنتجت عشرات، بل مئات، الأفلام السوفيتية السيئة والجيدة التي يدمنها المثقفون العرب أحفاد لينين وتروتسكي وستالين، ويهيم بها العجائز المتبقون من العهد السوفيتي المجيد، ويُقَدِّرها بعض النقاد غير الموهوبين، سواء في روسيا أو في العالم العربي الذي يعيش في خرابة فنية وثقافية تنعدم فيها الرؤية وتتلاشى حاستا الشم والتذوق.
في أول رحلة عمل لـ “تاتو” إلى بريطانيا وقف المجتمع البريطاني المحافظ موقفا سلبيا منهما ومن أغانيهما على حد سواء. غير أن السر في هذا الموقف الذي ضايقهما كثيرا وكاد يفقدهما ثقتهما بنفسيهما كان يكمن أساسا في عملية المنافسة. فسمعة “تاتو” سبقتهما إلى جميع أنحاء بريطانيا، وقامت بعض وسائل الإعلام بدعاية مضادة بإيعاز من بعض الفرق الفنية. غير أن الأيام القليلة التي قضتها لينا ويوليا أثبتت العكس. وانتشرت أغانيهما بشكل أدهش المجتمع البريطاني “المحافظ”.
وفي سفراتهما إلى الولايات المتحدة، تصدرت حفلاتهما وأغانيهما أول القائمة. غير أن الحرب في العراق عملت على إعاقة زيارات كانت مخططة إلى العديد من الولايات الأمريكية. المثير أنه كان للفتاتين آراء سياسية بارزة، وخاصة في الشأن العراقي، إذ عارضتا بشدة العمليات العسكرية الأمريكية- البريطانية ضد العراق، وظهرتا في أحد البرامج التلفزيونية الأمريكية الشهيرة بزي حمل عبارة” لا للحرب”. وعندما واصلت القوات الأمريكية طريقها إلى بغداد، رغم تصريحات صدام حسين وهياج الأحزاب والتنظيمات العربية وأبناء حزب البعث “العظيم”، ظهرت الفتاتان بـ”فانلات” بيضاء مكتوب على صدرها عبارة من كلمتين فقط: الكلمة الأولى تعني “العضو الذكري للرجل” والكلمة الثانية هي “في الحرب”. أي بالعامية المصرية “زبي في الحرب”، وبالعامية الشامية “إيري بالحرب”. ومع ذلك لم يلتفت الشباب الياباني لهذا الاحتجاج “المدهش”، وكان حزنه الأكبر وغضبه بسبب تأجيل حفلاتهما لعدم استطاعتهما السفر. وكتبت الصحف الروسية وقتها أن اليابانيين قبل “تاتو” كانوا يعرفون جيدا أن أعلى قيمة في روسيا هي قيمة الكاتب العظيم “فيدور دوستويفسكي” الأوسع انتشارا في اليابان. ولكن بعد ظهور “تاتو” اكتشف اليابانيون أن هناك في روسيا قيمة أخرى عظيمة. وأصبحت فرقة “تاتو” تنافس دوستويفسكي على حب المجتمع الياباني. المدهش أيضا أن الناقدة الروسية أولجا كابانوفا أكدت على صفحات جريدة “إزفستيا”، في دفاعها عن الثنائي تاتو، أن لينا فعلا تحب القراءة، وبالذات أعمال دوستويفسكي. أما يوليا التي لا تحب القراءة، فهي تنوى جديا تأليف كتاب. لكنها لم تقل أي كتاب، وعن ماذا..
كان علماء النفس والاجتماع في حالة من “عدم الدهشة”، حيث لم يجمع اثنان منهما على تفسير واحد لما كان يحدث. بل والأكثر إثارة “لعدم الدهشة” أنهم أصبحوا يلقون بأسئلة غريبة من قبيل: لماذا يمارس الإنسان حتى وقتنا هذا حياته الخاصة في غرف مغلقة؟ ولماذا تمارس الكلاب، مثلا، أي شيء في أي مكان؟ هل للمجتمع علاقة بكل ما يحدث، أم السلطة السياسية التي هي الوطن والحب والنضال والأخوة والسلام هي المسؤولة؟ ما هي الأسباب الحقيقية وراء هذه الظواهر التي تتزامن عادة مع الانقلابات الكبرى في حياة المجتمعات؟ وهل للسياسة والاقتصاد دخل بهذه الأمور؟ ويجملون التساؤلات الأخرى في واحد فقط: ما هي الملامح الاجتماعية والنفسية والأخلاقية للنظام العالمي الجديد؟!! كانوا يتقعرون بشكل ملفت “يثير الدهشة” لكنهم غير مندهشين، وغير منتبهين إلى أن العالم يسير إلى الأمام بشكل يثير الدهشة وهم يطرحون أسئلة قديمة لا معنى لها إلا لدى زعيم الأمة والمفكرين العباقرة الذين يحيطون به، وبالذات الذين يجهزون للانتخابات ويعدون العدة للاحتفال بفوزه المجيد…
كانت الانتخابات في قمة سخونتها وإثارتها، بينما خرجت صحف الرئيس ومواقع الرئيس الإلكترونية، التي هي صحف الوطن ومواقع الوطن، بخبر يفيد أن الثنائي “تاتو” يمكن أن يتعرض للوقوف أمام المحكمة بسبب دعوته للفتيات في إحدى الحفلات بخلع ثيابهن والتعري تماما، والغناء. وخبر آخر يفيد بأن بريطانيا منعت لهما حفلا لأن لينا ويوليا دعتا الفتيات البريطانيات إلى أهمية ممارسة “السحاق”. أما الخبر الأخطر، فكان يدور حول تعرض الفتاتين للتهديدات بالقتل من قبل شاب أعلن أن فتاته المغرمة بـ “تاتو” تركته نهائيا لتعيش مع صديقتها الحبيبة بعد أن أدركت أن الثنائي “تاتو” كان عنده حق.
لم تتراجع لينا ويوليا عن الترشح، لأنه في حال نجاحهما ستحكمان معا وفقا للدستور الروسي انطلاقا من تخريجة مستشارتهما القانونية السيدة المبجلة ساشا التي قد تكون قد أدمنت على الفودكا والخيار المخلل. وتَوَقَّع عشاقُهما في العالم كله، ومن دون أي دهشة، أن يكون شعار تاتو في حملتهما الانتخابية لرئاسة روسيا، عبارة “أنا فقدتُ عقلي”، أو بالعامية المصرية “أنا اتجننت” مكتوبة على بوستر كبير بحجم روسيا نفسها. أما صانع التوابيت جيرمان ستيرليجوف فكان شعاره يملأ روسيا ويزين تاريخها المجيد: (توابيت.. توابيت.. توابيت… من أجل مستقبل أفضل).
خسر صانع التوابيت جيرمان ستيرليجوف الانتخابات، وخسر ثمن تابوت العراقي الذي أنكرته زوجته الروسية وأبناؤه، وأعلنت يوليا أنها حامل من صديقتها الفلبينية، بينما أنجبت لينا طفلا جميلا ملونا. واستيقظ الناس على فوز فلاديمير بوتين برئاسة روسيا لفترة ثانية، ثم ثالثة ورابعة، إلى أن كتبوا له دستورا يطالبه، بل ويلزمه، بحكم روسيا مدى الحياة، من أجل أن ينعم الناس بوجوده الخلاق، ويسعدوا بحضوره النوراني، ومن أجل أن يبنوا له من جماجمهم ومن قلوبهم ضريحا يليق بقداسته، ليرقد هانئا في سلام وأمان بعد عمر طويل إلى جانب الميت رقم واحد الذي تزين جثته الميدان الأحمر طوال قرن كامل…