فرج مجاهد عبد الوهاب
الاستقطاب الذي تحمله جينات القصة القصيرة جدا للذاكرة من أجل تحفيز الانتباه، يقوم على قوائم كل من:
1-المفارقة.
2-الدهشة .
3-اللغة .
4-المبالغة في تحفيز كل ما سبق من خلال:
- الومض الخاطف للعين قبل الذاكرة.
- التكثيف المركز الذي يبدأ باللغة وينتهي بها.
- جمع الموجودات الفنية لمفهوم التباين والتواصل.
وهذا ما يجعل للقصة القصيرة جدا مجموعة من المعادلات الفنية والتقنية من حيث أنها جنس أدبي مغاير ومناقض لكل فنون السرد، لأنه قائم أساساً على نوعية خاصة جدا من التعامل مع فضاء ذلك القص القادر على اقتناص اللحظة العابرة في أقل ما يمكن من الصياغات النافرة التي ترفض الإطناب وكل ما لزوم له من أحرف أو لواصق أو زيادات لأنها: نص سردي كل كلمة فيه يجب أن تكون موظفة تؤدي مهامها الدلالية والاشارية من دون خلل ما، فهو تعامل جذري مع النص القصصي الأصيل بكثافته ومحوريته.
ومما لاشك فيه أن هذا العمل المتحصن بمفارقته ودهشته ولغته الخاصة به، إنما يُهيئ بالفعل فهما واضحا وبيتا لمعنى القصة القصيرة جدا، التي تدل على أفراد منفصلين، يعمل مبدعوها على تجميعهم في فضاء سردي من المفروض ألا يزيد على عشرة أسطرٍ تبدأ بالمفارقة وتجلب قارئها إلي حدث مهما اختلف صفته ونوعه وسماته، يبقى فعلا جاريا ضمن سياقات القص الذي ينتهي بخاتمة إدهاشية لم تخطر على بال قارئ القصة وبذلك تتشكل صورة جديدة لعمل فني ناجح وقابل للحياة وسيرورتها، لتثبت أن القصة القصيرة جدا قادرة على تجميع جوهر العلاقات الإنسانية والبشرية في بناء الموجود الفكري للعمل الكتابي، وقد عمل القاص والروائي د/ عمار علي حسن على خلق هذا الجو الجذاب في تناول القصة القصيرة جدا في مجموعته “عطر الليل” الصادرة عن دار بتانة عام 2016م، متحفظا بخصوصية العمل الإبداعي عن غيره، فكان منوعا متماسكا، كثرت فيه التساؤلات الناهضة ببناء قصة جميلة تحمل في لغتها المكثفة واختزالها المقنن هدف القصة القصيرة جدا، وهذا إنما يشير إلي أن موضوع الـ ق. ق. ج، يتعامل معه القاص ليبدو ذلك الجنس الأدبي موقفا من الحراك الاجتماعي، السياسي، الاقتصادي، النفسي، الوجداني، المجتمعي، وكأنها وظيفة كبرى لكل العلاقات التي تتواجد على الساحة الكتابية، وهذا من أهم ما اشتغل عليه مبدعنا في مجموعته التي ضمت 159 قصة قصيرة جداً، وما دامت الـ ق. ق. ج تقاس فنيتها ببلاغتها، وبلاغتها في الإيجاز المتقن، وأنها لا تحسب بعدد الصفحات وإنما بعدد الأسطر وأحيانا بعدد الكلمات، من المفيد أن نشير إلي آلية توزع مساحات سردها على الأسطر التي توالت على الشكل التالي:
- قصتان قامتا على سطرين فقط .
- اثنتا عشر قصة قامت على ثلاثة اسطر .
- أربع عشر قصة قامت على أربعة اسطر .
- اثنتا عشر قصة قامت على خمسة اسطر .
- سبع عشر قصة قامت على ستة اسطر .
- أربع عشر قصة قامت على سبعة اسطر .
- ست عشر قصة قامت على ثمانية اسطر .
- أربع عشر قصة قامت على تسعة اسطر .
- إحدي عشر قصة قامت على عشرة اسطر .
- ثماني عشر قصة قامت على إحدي عشر سطراً
- ست عشر قصة قامت على اثني عشر سطراً.
- خمس قصص قامت على ثلاث عشر سطراً.
- أربع قصص قامت على أربع عشر سطرا .
- ثلاث قصص قامت على خمس عشر سطراً .
فما بين السطرين والخمسة عشر قامت قصص المجموعة التي تباينت أوجه الشغل فيها حسب مكنون ملفوظاتها الدالة والمرمزة .
فكلما اختزلت ملفوظية الـ ق. ق. ج كلما علت وتأثر الحدث القصصي، ونما الحدث بزخمه وجماله ونهض بقص قصير جدا ربما يتفوق من خلاله على الحدث نفسه، ودون تغذية كلامية مجانية يقول في قصة “ظلام” (ص105) القائمة على سطرين:
“كلما ضغط زر الكهرباء صرخت في وجهه الثريا
لن يرحل الظلام حتى تُضاء نفسك بنور المحبة”
المفارقة بأنسنة الجماد ـ الثريا ـ الإحالة إلي حدث له علاقة بالبطل الذي يُنير الغرفة وفي أعماقه ظلام كبير، أما النتيجة فشرطية ـ ربطها المبدع بشرط إضاءة المحبة في النفس قبل الغرفة.
مثل هذا النبض القصصي الطافح بفنية التناول وتقانة السبك نجده أيضا في قصة “حراسة” (ص109) والناهضة على سطرين أيضا:
“نام الليل على كفيه وهو ساهر، هدهده وأسنده يتمدد في
مخدعه، وجلس يحرسه من هجوم النهار” .
النص على الرغم من بساطته، ورقة ألفاظه وقيامه على مفارقة نوم الليل على كفيه فإن الليل نفسه جلس يحرسه من هجوم النهار مجسداً تنافر الأضداد بين كل من (الليل ـ النهار) و(الظلمة ـ النور) بمستويين مختلفين ومتضادين مجسدا مفهوم دور الوعي في القصة القصيرة جدا .
وإذا ارتقينا درجة أخري مع ذلك القص القصير جدا نجد أن مفاعلات القص مازالت متمسكة بدواعيها وملتزمة فيها.
في قصة “غياب” (ص77) الناهضة على أربعة أسطر، يقول:
“في سنوات الغربة، أصيب الرجل الأسود بالبهاق، وحين عاد إلي بيته مشمولا بنظرات العجب، قالت زوجته البيضاء لزائريها لم يتحمل فراقنا فخسر أكثر ما جذبني إليه أيام الصبا”.
على الرغم من إطالة الحكي في مسرود القصة، فقد وضعتنا أمام المفارقة:
رجل اسود ــ زوجة بيضاء.
الحدث ــ المفارقة في القبول والرفض .
السخرية التي حملت الحدث ورفعت من وتيرة إيقاعه في النفس المتلقية.
في قصة “تمرد” (ص105) والقائمة على ثلاثة أسطر، نقرأ:
“عند الظهيرة، تمدد نبات الظل مخترقا زجاج الفندق، تجمع في الساحة التي غسلتها الشمس بالنور والدفء، وهو يقسم ألا يعود أبدا إلي الظلال الباردة”.
إن مبدعنا في مثل هذه النصوص المقتضبة يعمل من خلال تجربة قصصية طافحة بالعبر والعبارات أن يستعيد قراءة نفسه، فيشتغل على النبض الفكري القائم على التضاد قبل أن يكون نفسيا.
الظلال ــ الساحة ــ النور ــ الدفء معادلات فكرية بدلالتها الرمزية قبل أن تكون مجرد علاقات نفسية مرتبطة بـ البطل ـ الفندق ـ القسم، ومن هنا يتجلى مفهوم قيمة الشغل على القصة القصيرة جدا، ليس كعلاقات لغة وومض وتكثيف وإنما كعلاقات فكرية وإنسانية بالدرجة الأولى .
في القصص القائمة على أربعة اسطر لم يتغير إيقاع النص الجاذب لإيقاع القص القصير جدا.
في قصة “باب ونوافذ” (ص22) نقرأ:
“نام مطمئنا لأن للبيت بابا ونوافذ، لكنه حين استيقظ لم يجد سوى جدران مصمته، ترخي الظلام على كل شيء، وسمع همسا جليلا، آن الأوان أن تفتح الأبواب والنوافذ داخلك لترى ما غفلت عنه”.
إنها المفارقة بين المتضادات وهي تقدم بيانها القائم على ذلك الوعي الذي يقوم عند البطل على شكل ردة فعل قيمة ترمي إلي زيادة دقة الشغل على هذا الجنس الذي يستدعي تعاون القوي الفاعلة من أجل دعم الوعي سواء عند القاص أو أبطاله الشغوفين بامتلاك ذلك الوعي.
في قصة “عشق” (ص17) والقائمة على خمسة أسطر، نقرأ:
“سألتها صاحبتها متعجبة
لماذا تصفرين مع مرور السنين؟
تنهدات غارقة في أسرار عشقها الدفين، ولاذت بالصمت بينما قلبها، يقول:
لا يشيخ من يجود الزمان عليه بالوصال”.
يبدو الحوار في القصة من أهم عناصر بنائها، حمل في مفرداته تصعيدا عالي الوتائر وهو يتداخل مع الجمال والعشق والوصال الذي يطيل العمر.
في قصة “امتحان” (ص72) القائمة على ستة أسطر، نقرأ:
“حين ظهرت نتيجة الامتحان، جلس الطالب يراجع درجاته صامتا
ـ فلما انتهى من فحصها، قال وهو يداري دموعه:
ـ ما حصلت عليه اقل بكثير مما قدرته لنفسي، ولم أكن أخدعها
ـ رد أبوه، بعد أن طوي الجريدة، ونظر إلي البعيد:
ـ هذا حالنا دوما، يخرج لنا في مشوار الحياة من
ـ يوسعون الفارق بين ما نريد وما نظفر به”.
إيحاءات القص بدلالاته وربطها بالعنوان وما اعتقده وفكر فيه أبوه أوصلهما إلي دوائر الفارق الذي يوسعه بعضهم فيباعد بين ما يريدانه وما يظفران به، ولو أنعمنا النظر في مثل هذه التجليات التي دفعت اللغة إليها لعرفنا الفائدة التي يعمل المبدع على توظيفها .
في قصة “ندرة” (ص63) القائمة على سبعة أسطر، نقرأ:
“ثلاث برتقالات يانعات تزهو فوق شجرة عالية، عريضة، يقف تحتها خمسة أولاد جوعي غارقون في الظل والأمل، كل منهم أعطى نصف بصره للباقين، والنصف الآخر للدوائر الصفراء الحلوة الطرية لم تمض سوى دقيقة واحدة وبدأ التدافع، فتمزقت ملابس وجرحت وجوه، وكسرت أيد، حتى سقطوا جميعا إعياء يلهثون بينما الظل يزداد سواداً، والأمل يهرب بين الفروع المفرودة في وجه الريح” .
من الواضح انه كلما ازدادت مساحات السرد، خفت القصة وتخففت من بعض عناصرها، لتهيم في فضاء الخاطرة التي تتماهي مع القص بالمحافظة على توافر ظاهرات الصدفة الموضوعية وإدراكها فيكون من خلال ذلك نمط جديد من العمل الفني الذي ينزع إلي دمج صنيع الإدراك والبحث المتعلق بالحلم والواقع والخيال من أجل أن يرفع وتائر القص القصير جداً والذي ظل محافظا عليها وماسكا لخطواتها ومداخلها طالما ظل ضمن إطار التكثيف اللغوي والصوري حتى تجاوزت أسطر القصة العشرة لتجد قصا قائما على خمسة عشر سطراً، ضاعت ملامحها بين القصة القصيرة جداً والقصة العادية المتمسكة بكثيرٍ من عناصرها، على أن هذا لا يمنع من القول، إن مثل هذا القص الذي طال مسروده لم يخرج كليا من فضاءات المفارقة واللغة الشغوفة التي تدفع القاص إلي أن يزيد من أسطر القصة ولكن من دون أن يغفل دور أهمية العمل الفكري، لأن كتابة القصة القصيرة نفسها، ليست عملية ميكانيكية، ولكنها عملية حيوية، أي أن لها دوافعها التجريبية، وهي فكرة حتمية في ساحات ما تحت الوعي الثقافي، التي تبرر حركتها تلقائيا في الوعي الذي يرمي إلي زيادة دقة هذه الطريقة، لأن فعل كتابة الـ ق. ق. ج إشارة كافية للتأني، وليست تعريفا، فهي افتراض بين الوعي الخالص واللاوعي، وكلاهما يستندان إلي تعاون بين قوى واعية، ولكن بمقادير لابد وان تختلف وتتنوع والمبدع يضعنا دفعة واحدة أمام 159 قصة قصيرة جدا تنوعت موضوعاتها، واختلفت مستويات تناولها التي بدت أنه كلما قلت عدد اسطرها كلما انداحت الصور واللغة إلي لوحات تشكيلية وفنية تحاول كل قصة أن تقدم مفهوما لدور الوعي في الـ ق. ق. ج ـ يعتبر أساسا تقدميا للبيان الفني والإبداعي الذي تقدمه، والي أهميته، لان ذلك يكون من الجملة الأولى التي تنطوي على مفارقة ما، والتي ترد من تلقاء نفسها، ولأن هناك في جملة ما يثير وعينا الذي يعني: إن المبادرة في الفعل الكتابي من خصائص القصة القصيرة جداً، مع إضافة الموضوع التي يسترعي الانتباه .
لتظل القصة القصيرة جدا والشغل عليها هدف المبدع “د/ عمار علي حسن” الذي نراه يسعى بين أروقة الكتابة المختزلة، من أجل أن يجد حدثاً يستطيع فيه أن يرسل قصته، ويعمل من خلال ذلك إلي دفع الفكرة التي صورها، ومن الملاحظ أن الأفكار كانت غزيرة بين يديه مما جعله يملأ مئة وأربع عشر صفحة تضمنت مائة وخمسين قصة، لدرجة انه لم يترك صورة إلا وحولها إلي قصة قصيرة جدا، حفلت بها مجموعته التي عرفت كيف تستلهم تجارب الرمزية الأدبية، وبلوغ المرحلة التي وضع فيها مفهوم القصة القصيرة جدا، حيث كانت تلك الأطوار الفنية من حيث تعريفها أكثر إثمارا وبعناية وقدرة على الإيصال وقوة على الوصول، لأنها استطاعت أن تلم النقاط المتنافرة التي أسست لفن قصصي، سردي أهم صفة له انه تحرر- وبكل ثقة ووعي ـ من كافة التقاليد الكلاسيكية السابقة لفن كتابة القصة عموما.