تنوع العوالم والتقنيات الفنية في “محاولة أخيرة للظهور” للقاصة هبة بسيوني

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عزة رشاد

هي المجموعة القصصية الثالثة للقاصة المصرية، ابنة مدينة الإسكندرية، هبة بسيوني، صادرة عن دار “كلمة للنشر والتوزيع” عام 2024، وللكاتبة قبلها مجموعتان أخريان هما “بانتومايم” صدرت عن دار ليلى عام 2012، “تماس مع الوحدة” من دار روافد للنشر والتوزيع، عام 2016. وهذه المجموعة “محاولة أخيرة للظهور”، مكونة من 2  قصة، متنوعة في موضوعاتها ومتقاربة في حجمها.

في القسم الأول شيدت الكاتبة بلدة أسطورية، مكونة من تسع قصص، وقدمتها كالآتي: “كل شيء في بلدتنا يمضي في ثبات وهدوء، لا قلق، لا خوف، لا دهشة، لا شيء متغير، حتى سكنها السحر، فانقلب الحال”. بيئة البلدة غير مميزة، الأهالي مقسمون إلى عاديين وسحرة وكائنات أخرى، أما الأحداث فهي فوق واقعية، تجتمع الحكايات داخل “إطار قصصي” هو عالم البلدة بساحراته وطقوسه، ومكانسه وجنياته، ومصاص الدماء وقبل كل ذلك: عواطفه المتأججة بغير حدود، بدون عقلنة ومحاذير عصرنا الحديث، سواء متأججة بالعشق أو بالشعور بالانجراح، أو بالرغبة في الانتقام، لتنتج قصصًا غير نمطية، يصعب التنبؤ بمساراتها، يتميز أغلبها بنهايات شبه مأساوية، كما تتميز ببناء حبكات أغلبها جيد، وبناء جيد للتشويق، بالإضافة إلى تقنيات فنية أخرى منها:

ـ مزج الواقعي بالأسطوري، في قصص تستمد سحريتها من طابعها الأسطوري.

ـ تنتمي للازمن، فلا شيء يربط القصص بحقبة زمنية محددة، كما لا تدعي الإسقاط على زمننا الحالي.

ـ سارد القصص: جمعي في الأغلب، يسرد بصيغة ال: نحن فعلنا، عرفنا..، على طريقة حكاء أو حكائين القرية القدامى، حكائين متشابهين، وحكاية واحدة.

ـ أغلب القصص تمرر بين سطورها قيمًا مؤثرة، فالذهب مصدر للغواية في قصة “شيطان أصفر”، وصانع الذهب شيطان يغري به أهالي القرية فيتنازلوا عن قلوبهم ومعها حزنهم على غياب أطفالهم الغامض. يتنازلون عن عيونهم، ولا يعود الأطفال إلا بمساعدة ساحرة، تبعد الشيطان عن القرية. وثمة قيمة كبيرة الحب في قصة “بلا أجفان”، حيث الساحرة مجنونة بغرام شاب، تنزع جفنيها لكي تملأ عينيها بصورته ـ قبل أن يذهب ويبتلعه البحر الذي سيرتاده ليجمع مهرهاـ ولمَّا ذهب ولم يعد، نبت لها جفنان من فرط بكائها لغيابه، قيمة الحب تتبلور أيضا في قصة “عطر”، ثم ضراوة الانتقام في “ضاربة المقشة” حيث امرأة وهبت نفسها لقتل المتيمين عشقًا، تتحين فرصة وجود أحدهما وحيدا فتنقض عليه بمقشتها. وهناك جزاء لمروجي الشائعات في “رائحة الكذب”، بالإضافة لمعانٍ أخرى تمررها القصص، كالنظرة السلبية للغريب، فالغريب سيكون مصدرًا للخطر، في “حساء العدس”، وفي “رائحة الكذب” أيضا.

ـ ثمة رمزية في بعض القصص مثل قصة: “مقص ذهبي”، حيث يقوم قصاصًا بقص أجنحة الجنيات ليتوقفن عن الطيران ويصبحن عاديَّات، وفي قصة “حساء العدس” تغرم الساحرة بحب شاب يسكن هو وأمه أطراف القرية “غريبان”، ولما تتزوجه تكتشف شيئًا ملتصق بظهره “زميلك” تديره أمه فينفذ ما تريده. دفنت أمه وتولت أمر الزمبلك. وفي قصة “شيطان أصفر” كذلك يشير الذهب إلى القيمة الزائفة. كما تحوي القصص تفاصيل شبه أسطورية جذابة مثل: خيوط عنق قاتلة، تستدرج الساحرة عشاقها وتتخلص منهم، في “طعم العشق”، ثم أعين وقلوب ذهبية في “شيطان أصفر”، ثم نزع الأجفان في “بلا أجفان”، نزع الجلد. إلخ. وهي أيضًا قصص تحتفي بالأنوثة: فمصاص الدماء الذي أحب أهالي البلدة في قصة “مصاص دماء يستيقظ”، ويسعى للاستقرار بينهم، يحتسي دم حيض نسائها، عوضًا عن افتراس الأهالي كوسيلة للبقاء، ويؤكد الاحتفاء بالأنوثة كَون أغلب بطلات القصص إناث “ساحرات، يحلَّقن بمكانسهن وبأوشحتهن الملونة”.                      

في القسم الثاني واحد وعشرون قصة وثيقة الصلة بمشكلات عصرنا، قدمت لها الكاتبة بعبارة “الزمن تكرار للحظة معزولة، عندما ترك السحر بلدتنا وسكننا نحن. نحن من نسكن في اللاوقت ونقول يوما ما سأفعل”. ربما تشير لعجزٍ من نوعٍ ما، قصص يغلب عليها الإحساس بالوحدة والاغتراب، تحكم البنكنوت بالبشر، وشهوة السلطة، وصعوبة التفاهم، ومعاناة النساء، مع صور للعنف، قصص تتنوع أجواءها وأماكنها.. سوق سمك، مدرسة، كنيسة، مشفى للعزل ذي طبيعة خاصة، موقع عمل مهني وغيره، كما تتنوع فيها التقنيات الفنية كالتالي:

ـ مزج العوالم الواقعية بالعوالم العجائبية في قصص تستمد سحريتها من غرابة ببعض أحداثها.

ـ تعتمد على سارد فرد، يسرد بضمير المتكلم في الأغلب وأحيانا بضمير الغائب. الساردون متنوعون: نساء رجال/ عرب أجانب/ غير آدميين: دمى بلاستيك.

ـ تعتمد غالبية القصص على صوت داخلي متقن يخدم مضمون القصة، ويدعم الجانب الواقعي فيه، في قصة “أيرون مان”.. “دائما ما تتردد أصوات في رأسي، تخبرني أنه سيكبر.. الكِبر معناه الموت، لا تكذبي على نفسك، أكثر ما أحببتِه بالحياة قد يذبل أمام عينيكِ. أغطي أذني مرارا في محاولة يائسة لكتمها، لكنها تلتصق بي كأنها جزء مني”. يعتمد السرد أيضًا على مفاجأة في نهاية القصة تحمل وقعًا غرائبيا، كما في قصة “عيون لوزية باللون البني الغامق” حيث الوحدة تجعل الساردة منجذبة للحيوان، تتوسم فيه التعويض عن البشر، لكن يوما بعد يوم تكتشف أنه يلتهمها.. “عندما اقتحموا الغرفة لم يجدوا سوى فستاني ورائحة نفاذة”، وفي قصة “أقدام ديناصور” تصف الراوية معلمتها بالبومة لاعتقادها أنها تضطهدها وتخيفها من زميلتها “homo”، وهذا يجعلها تحلم بالتحول إلى ديناصور يدهس، وفي الواقع “العجائبي” تأخذ قدماها في التضخم لتصير كأقدام الديناصور.

ـ أنسنة الأشياء: في معظم القصص تجريب بأشكال مختلفة، ومنها أنسنة الأشياء..قصة “بلاستيك”، حيث السارد متيم يحب “كلارا” لكنه يعف عن ملامستها لأنه لا يثق بجسده، فيما تتوق روحه الى التقرب من الله، لأنه وحده الذي يمكنه أن يحوله الى إنسان، فنكتشف بالنهاية أنه كائن بلاستيكي. ـ الرمزية في “سحابة سوداء” حيث تلاحظ الساردة سحابة سوداء فوق رأسها، تظللها بظل غائم فلا ترى انعكاسها على أي حائط، ترعد وتبرق غضبا عندما تفعل الساردة مالا يعجبها، وتنذر بلون أكثر قتامة ثم يبدأ المطر. وتكتشف الراوية أن لكل امرئ سحابة مثلها، ربما ترمز إلى رقابة ما. في قصة “مفرش” يكون الراوي عاملا متواضعا، يعشق موظفة تعلوه شأنًا وتحتقره. يُحضر مفرش ليداري ساقيها اللتين تفتنانه، فتلقي عليه المفرش ليغطيه، وبخفة ساحر ينزع المفرش من فوقه، لكن ينقلب السحر على الساحر، فيجد يديه تبدلتا ليدي ابن عرس، وصارتا صغيرتين، وذلك ربما للتعبير عن عجزه.

ـ صوت الكاتب في قصة “بارتليني”.. “كان ذلك سيحدث لو أن بعالمنا نهايات سعيدة، لكن بعالمنا الأميرة ستظل راقدة بتابوتها، والأقزام السبعة لن يزدادوا طولًا، وسندريلا ستبقى حافية”. _ثمة تأثير لفنون السينما: كالمونتاج، والمشهدية والفلاش باك: في قصص عديدة منها قصة “والت ديزني”، قصة “تحليق”.  _تداخل الأنواع: يتداخل مع السرد القصصي وعظات دينية في “دنج دنج”، نصوص دينية أخرى في “أرمجان” وغيرها، أفلام الكرتون كما في قصة “والت ديزني”، برامج تلفزيونية وبرامج طهي كما في قصة “بطعم الثوم”، موسيقى كما في قصة “بارتليني”، وكذلك أغانٍ كما في قصة “بطعم الثوم” وقصص عديدة أخرى. _اللغة: بسيطة ومعبرة، مع ومضات فلسفية قليلة، نال منها وجود الكثير من الأخطاء في الإملاء والنحو، لزم علينا أن نلفت نظر الناشر إليها.

ـ الزمن: في أغلب القصص حالة من التأمل، بصيغة تداعٍ حر، لحظة ينفجر منها السرد، فيصير الزمن متشظيًا أحيانًا، وفي أحيانٍ أخرى يصبح كالزجزاج، مع تقنية الاسترجاع “فلاش باك” مستخدمة في قصص عديدة، فيما استخدمت تقنية الاستباق في قصة: “احتمال”.. يحكي السارد عن حب مغدور (ربما أم وابنها) ولحظة حية وغامضة.. تُبقي السارد منتظرًا عودة المحبوبة، عالقًا في الذكريات.. “حاولت أن أملأ عيني بالتفاصيل التي ستجعل الموت شيئًا شاعريًا بعد قليل”.

                                                                       

 

مقالات من نفس القسم