د. سحر شريف
بناء كل النصوص الروائية يتم وفقا لحبكة ما، تلك الحبكة تبدو مختلفة ومتنوعة وفي خلال مسار السرد العربى للرواية، تعددت تلك المعطيات وتبدت الحبكة مختلفة فى الكثير من الروايات المعاصرة.
لعل هذا التنوع يرجع ﺇلى الكثير من الطرق الماهرية والخبرات الخاصة للروائي، بل ويرجع الى تنوع مشاهدات وقراءات الروائي نفسه.. في المقابل ولأن الروائي يمتلك خيارات متعددة، بل وقدرة على اﻹضافة، فالرأي يتجه ﺇلى القول بأن الحبكة ترتبط بالراوي.
ولأنها مرتبطة بالراوي.. ذلك الراوي النبي الذي يختاره الروائي، وهو نفسه الوسيط ليروي ويحدث القراء وكل شيء في السرد يتوقف عليه.. فالزاوية التي يري منها الراوي، والمسافة عن الشخصيات التي تفعل، والأحداث التى تحدث، مع معطيات الزمان والمكان، كلها عوامل مؤثرة وتحدد رؤيتنا نحن القراء وعلاقتنا بالنص.
فكونه (الراوي) من داخل النص أو من خارجه يؤثر في أسلوب السرد، بدرجات متنوعة ومختلفة أيضا، وكلها تلعب دورها الفاعل والمؤثر على رؤية الأحداث وتقيمنا لها وللشخصيات (وكلها خاضعها للراوي).. وتشير الخبرة الجمالية ﺇلى أنها تؤثر على درجة قرب الراوي للشخصيات والأحداث في رؤيتنا وفي البناء الفني.. فقد تبدو الشخصيات مسطحة لعدم وعي الراوي بها، وبالعكس لقرب الراوي من الشخصية يجعلها نامية متطورة.
كما تلاحظ أن قرب الراوي من الشخصية، قد يؤثر في لغة الرواية (أسلوب ﺇخباري أو أسلوب حديث الشخصية ﺇلى نفسها، ومرة أنفسنا داخل قالب الشخصية، تستمع ﺇلى نفسها وهكذا.. والكاتب يفعل ذلك مع الشخصيات الرئيسية).
بعد تلك الاطلالة وبالاطلاع على رواية (ضجيج الضفادع) للسيد نجم (وهي الرواية العاشرة لهن بعد ست مجموعات قصصية، والعديد من كتب أدب الطفل ودراسات في أدب المقاومة) نرى ﺇنه يجيد لغة القص ويمتلكها حتى يتحسس لكشف الشخصيات من جميع الزوايا.. ويتبع لتحقيق ذلك التالي:
أولا: يستخدم الراوي ضمير المتكلم (أنا) حيث يجعل الكاتب راوية، يستخدمه لتكون الذات السارده ضخمة بارزة، وترى الأشياء من منظوره (وهو استخدمها كثيرا) وهو ملمح غالب، به يلعب الرواى دوره الكاشف عن الكثير من الرؤى والفكار القريبة، مع القاء بصيص الضوء للافكار البعيدة.. نرى الشخصية الراوية والاساسية فى النص (عبدالوارث) يقدم نفسه للقراء ببساطة ووضوح، بدرجة تتناسب مع رؤية الرواي نفسه، يقول: “أنا من مهندسي الري.. أنا شيخ حارة بحر النيل، ومخاطبا القاريء وقد عبرت السبعين، أنبهك أن تصدق ما أقول، ما خلقت ﺇلا لأن أكون على مقربة من نهر النيل..) ص3
كما تقدم (جميلة) السيدة النوبية ٌوقد تبناها “عبدالوارث” أثناء فترة تهجير أهل النوبة، وكانت طفلة فقدت والديها في حادثة مثرة وعميقة، حيث سلمتها أمها ﺇلى ﺇحدى جيرانها المسافرين او المهاجرين على المركب الكبير، بينما هبطت لتلحق بزوجها الذي قرر البقاء فوق أرضه حتى يغرق بمياه السد مع الأرض / أرضه التي سوف تغرق ﺇلى الأبد. كما أن جميلة هي الشخصية التى نراها خلف كل أحداث النص، ومع كل شخصياته، بل والضمير في فضاء قرية تطل على نهر النيل على ترعة المنصورية تحديدا.. تقول جميلة: “المنصورية ليست وطني.. المنصورية هي.. وعرف الجميع الصمت.. من المياه البنية بأي همس كان همس الله في أذني..” ص11
وهكذا يستخدم ضمير المتكلم ليقدم “هانم” وهي زوجة عبد الوارث، وأم لثلاثة أولاد، تقول: (أتمنى أن أعيش ممزوجة بالفرح..) ص16 والكثير من الاامثلة هنا ولبقية الشخصيات..
هكذا يستخدم الراوي ضمير المتكلم الذى يعلم ما تعلمه الشخصية.. هذا الراوي محدود العلم هنا ولم تخبرنا الشخصيات ﺇلا على ما رأته أو سمعته.
يرى النقاد هذا الضمير يسمح التدخل في الشخصية، ولا يتسامح النقاد مع السارد المتكلم، لذا نرى الكاتب قدم الكثير من المعلومات منها حول السد العالي، حتى لا يتغلب السرد المتكلم.. وربما تمكن الكاتب من تعريف القاريء بالكثير من خفايا النص وأسراره، وهو ما جعله يوظف هذا الضمير بأريحية، وللابداع حريته في النهاية.
ثانيا: أما الصورة الأخرى فهي استخدام “ضمير الغائب”.. أو الراوي الغائب الخارجي، وهي وسيلة يتوارى خلفها السارد أو المؤلف ويقسمه النقاد ﺇلى:
الراوي العليم، وهو الذي لا يكتفي بنقل الحدث وتفاصيله الظاهرة وحسب، بل ويتدخل بأسلوب تقريري وبزاوية رؤيته في عرض المزيد من يراه الرواي نفسه، ويسعي ﻹضافته ﺇلى الشخصية ومجمل الأحداث..
أما الراوي العليم المحايد، فهو ذاك الراوي الذي يصفه النقد بأن له موقف سلبي أو لا رأي له.. مثلا ثلاثية “محفوظ،” الشهيرة، وضح فيها استخدام هذا الراوي العليم. كما تلاحظ استخدمه في هذا النص بمعرفة “السيد نجم” في مواضع كثيرة، مثل حديثه عن الجنرال(وهو الابن الأكبر للمهندس عبدالوارث، وقد أطلقوا عليه لقب الجنرال من الصغر لقوة شخصيته وقبل أن يلتحق بكلية الشرطة ويصبح جنرالا أثناء أحداث يناير الشهيرة).. يقول الكاتب: (أمر الجنرال بضرب النار للدفاع عن هيئة شرطية) في ص52.. ومع شخصية علام (وهو الابن الاوسط ونموج المثقف المتعالى غير المنتمي الا لشخصه، بالرغم من كل الادعاءات والشعارات التى كثيرا ما يسجلها فى مقالاته، وهو من اتضح جليا أثناء ما قبل وأثناء وبعد أحداث يناير، ففي ص 77 يقول: (حالا سوف توافقونني على أن “جميلة” أحق سيدات الآرض بامتلاك صفتي الصموت والصبور..).. ومع جميلة أيضا ص31 يقولك (المدهش أن تفاصيل هذا الحوار حينما تكرر بعد سنوات قليلة بينى وبين هانم، تجدد مع الباشمهندس.. وبمعناه نفسه وان بدا بكلمات مختلفة)
الملاحظ للقارىء الفطن وللناقد أن السيد نجم يستخدم الضمائر بمهارة، حيث ينتقل بينها من خلال الشخصيات بحنكة ملحوظة، كما يوظظفها أنماطها ببساطة قد لا ينتبه اليها القاريء العجلز
لم يكن استخدام الضمار وحده، هو ما يمكن أننتوقف أمامه لبيان بعض جماليات تلك الرواية “ضجيج الضفادع”.. حتما من ينتهى من قراءة النص غير الطويل، سوف تصله جملة معلومات غير تقليدية لغير المتخصص فى هندسة الري بمصر.. سواء عن تاريخ انشاء الترع والمصارف والرياحين.. كذلك تاريخ انشاء القناطر والسدود، والاهم تاريخ الانسان المصري مع المياه الجارية بين الضفتين.. والتهديدات التى تلحق بها، منذ قديم الزمان حتى الان (ومحاولة السيطرة على منابعه)!
يمكن الاشارة الآن ﺇلى تلك المعلوماتية التي وظفها السيد نجم، تلك التي تبعد القارىء عن خيال الدراما بصفة عامة.. كما فعل مع جميلة وسردها للتراث المصري القديم وغيره.. وربما هناك الجدير بالاهتمام والتوقف معه، ألا وهو الاشارة ﺇلى محور المسكوت عنه فى النص.. فهو جدير بدراسة منفصلة.
بالعموم هذه الرواية ﺇضافة ﺇلى منجز السيد نجم، وقد قدم رواية جديرة بالدراسة والفحص والقراءة المتأنية.





