تمساح البجلاتي يقرض شعرًا
أحمد أنيس
ثمة حكاية شهيرة في أوساط الحكائين عن رجل يقابل درويشًا يهتف عند باب مسجد ( قادر ربنا قادر يكور الدنيا في قشرة بندقه ) بعد حوار خلافي بينهما يجد الرجل نفسه وهو يتوضأ في ميضأة المسجد وقد تحول لامرأةٍ جميلة على شط بحر، تستمر الأحداث بعدها ثم تتحول المرأة مرة أخرى أو بالأحرى تعود / يعود إلى صورته الأولى ، تأتي شهرة الحكاية من اعتمادها الأساسي على تكنيك من أصعب تكنيكات الحكي ألا وهو السرح مما جعل الكثير من معلمي الحكي يعتمدونها كإختبار للحكائين الجدد ، لو استطاع الحكاء أن يقفز بالمتلقي خطوة السرح / التحول دون أن يوقفه المتلقي فهذا معناه أنه حكاء ناجح صار قادر على أخذ لُب المتلقي إلى أي منطقة وعندها فقط يتم إيجازه أو إعتماده كحكاء جيد .
لو أننا اتفقنا جدلًا على تطبيق هذا المعيار كحكم على ديوان إبراهيم البجلاتي (حكاية مطولة عن تمساح نائم) الصادر حديثًا عن دار نشر ميريت ، أظن أن البجلاتي يمكن إعتباره واحدًا من أهم حكائي / سارحي الشعر العربي الحديث ،
وقد يدهش قارئ هذه السطور من اختيار مدخل الحديث عن ديوان شعري من بوابة الحكي والسرح، ولكن أَليست إحدى أهم مميزات قصيدة النثر قدرتها على دمج واستيعاب العديد من الأساليب الفنية ، كما أن هناك العنوان الذي يعلنها هكذا (حكاية مطولة) مما قد يعطي مبررًا ما لإختيار هذا المدخل دون غيره ، على الرغم من إعتباري أن هذا العنوان على جماله إلا أنه يبدو بعد عدة قراءات مخادع على نحو ما ، صحيح أنها حكاية لكنها ليست عن التمساح ، ربما هي حكاية / سيرة ذاتية عن روح الشاعر أو كما يحب البعض تسميتها الذات الشاعرة ، هذه الروح التي تتنقل طوال الرحلة باحثة عن سطوعها الثاني كما يخبرنا البجلاتي في النص الثالث من الديوان :
(كان اسمي النجم الذي يظهر مرتين
جاءت الأولى وأنا غر
فلم أنتبه
والثانية إذا لم تأت الآن
سأشد إلي شجرة النحل
لأموت بما بقي من إسمي )
هكذا يأخذنا الشاعر/ التمساح في حكايته أو رحلته بحثًا عن سطوعه الثاني والذي قد يمكن تأويله كإعلان عن إجتياز أزمة منتصف العمر، أو أزمة التوقف عن الكتابة أو أزمة الوعي باستمرار الاغتراب بعد العودة من الغربة المكانية، وقد لا يمكن الجزم بأي من التأويلات السابقة، كما لا يمكن نفي أي منها، إذ أن البجلاتي ربما اختار متعمدًا أن يترك باب التأويل مفتوحًا على مصراعيه، فاللغة في الديوان جاءت محملة بالكثير من الرموز أو بالأحرى برموز تحتمل أكثر من تأويل ، هكذا نجح البجلاتي في كتابة سيرة تمساح / روح شاعر تبدو مغرقة في الفانتازيا لكنها بعد تأويلها تصير شديدة الواقعية، وقد يكون هذا الملمح تحديدًا من أهم مميزات الديوان ، تلك الرمزية العالية واللغة والدراما الساحرية إلى حد الفانتازيا مع عوالم سحرية في أغلبها تُذكرك بكليلة ودمنة و ألف ليلة وليلة وحكايات الدراويش، هكذا يتنقل التمساح / الشاعر من صورة إلى صورة بسلاسة السرح بحثًا عن سطوعه الثاني أو عن ذاته المغتربة في صور وعوالم غرائبية
( أعود كما كنت
منبوذًا
صيادًا كسولًا
رسّام أقنعة
تمساحًا
قطًا يأكل الأحلام
تمساحًا صائمًا
رأسًا بلا ذيل
لصًا
طائرًا بلا حرية الطيران )
اختار البجلاتي أيضًا التنوع في النصوص بين التكثيف الشديد أحيانًا وبين السرد المطول أحيانًا أخرى فتجد مثلًا النص السادس كحكاية متكاملة أو كنص منفصل بذاته :
(الكوخ على أطراف القرية
بينه وبين المقابر شجرة واحدة يتيمة
علق الأسلاف في فروعهاأجراسًا
تنظم حركة الأموات بين العالمين
بعضهم يترك جسده هناك ويبيت عندي
نشرب أنخابًا كثيرة
غالبا كانوا مخابيل في العالم الأول
ولهم حكايات كثيرة
حكايات لا تنتهي
حتى بعد أن نسكر تمامًا
ونحطم أكواب الفخار
أو نجرح بعضنا بالسكاكين
يظل بعضهم يحكي
وأنا أسمعهم وأضحك
وأنا أسمعهم وأبكي
قبل أن تطلع الشمس
تصخب الأجراس
تهمس ثم تصمت
وأبقى وحيدًا مثل شجرة الأجراس
أمام القرص البرتقالي الكبير
أقع على ركبتي وأبكي من جديد
طوال الليل لم أقل كلمة واحدة
وليس لي حكاية مثلهم
كأنني الوحيد الذي عاش دون أن يقصد )
ما عليك إلا أن تقلب الصفحة فقط لتجد النص السابع كنموذج مثالي على التكثيف :
(وكيف أنزع السكين من ذيلي
وأنا مثبت هكذا على الباب)
أما عن اختيار التمساح تحديدًا دون غيره من الحيوانات، فربما جاء هذا الاختيار عفويًّا من البجلاتي إلا أن هذا لا ينفي دلالة هامة لهذا الاختيار، فالتمساح واحد من أهم آلهة العالم السفلي في مصر القديمة وله علاقة وثيقة بالدخول في العالم الآخر مثله في ذلك مثل القط الذي يتحول إليه في مرحلة ما ليشكلان معًا (التمساح والقط) المساحة الأكبر والأهم من الديوان بينما تأتي بقية الصور/الأقنعة سريعة وعارضة كتنويعات على الصورتين الأصليتين في إشارة إلى مدى تشرب روح الشاعر بالتاريخ المصري القديم والحديث بخيره وشره لو جاز التعبير، فتجده يقول في موضع آخر
( كل مصائبي
لها علاقة بذيلي)
في إشاره إلى ماضيه الشخصي أو ربما إلى ماضينا العام، في الحقيقة ليس الذيل وحده ما يمكن اعتباره من مفاتيح الديوان، رغم التركيز عليه في أكثر من موضع إلا أن هناك أيضًا شجرة الأجراس، وكذلك الجنية الزرقاء التي يقابلها في الرحلة أكثر مرة، فيقول عنها :
(أنقذتني من الغرق مرة
ومزقتني مرة
إذن نحن متعادلان)
ثم يعود بعد فترة ليقول :
(لسنا متعادلين في الحقيقة
أعطتني فرصة
وأعطيتها فرصتين
لست معنيًا بذلك
فأنا أعرف أن العمر لا يقاس بالفرص الضائعة )
بالرغم من تعدد المفردات التي يمكن اعتبارها نقاط أو مفاتيح للدخول في عالم التمساح السحري، يظل في رأيي حدث الانفجار الكبير حدثًا مركزيًا في الديوان، أن تنفجر وتتشظى فتصير روحًا ورأسًا وقلبًا وجسدًا وذيلًا كلٌ في مكان ليس بالأمر الهين
( لم تدر روحي مع أي قطعة تسقط
علقت في الغلاف الخارجي
تراقب ما يحدث
وتنقل الأخبار)
،
(يا روحي يا أخت الشمس في الأعالي
لمن أشكو اليوم / ....
......
الرائحة لا تطاق
التماسيح تأكل بعضها
والخفافيش تلقي بفضلاتها على رأسي
لمن أشكو اليوم وقلبي بعيد في البحر
كنت قريبًا من ميزان العدل
ترمي الآلهة القلوب المثقلة بالإثم في جوفي
يا روحي في الأعالي
لمن أشكو اليوم
ومن اليوم في البحر
يأكل قلبي )
هكذا تذهب الروح مرة بعد مرة في رحلة البحث عن التحقق أو الهروب من مصير مشئوم من (النجم الذي يظهر مرتين) إلى (التمساح النائم) في بحيرة الفضة إلى (القط البري) على فرع مائل من شجرة الأجراس مرورًا بالتشظي والإنفجار الكبير وحتى النهاية التي جاءت تشبه الحكمة على لسان ضفدعة في سحابة تنصح تمساحًا طائرًا بأجنحة خفاش
(قالت: تركتك قبل وقت في البحيرة
صائمًا عن اللحم وزاهدًا في الضفادع
فما الذي جاء بك إلى هنا
أفطرت على لحم غيري فانشطرت
وفي الإنشطار فقدت ذيلي
وأنا طائر في إثره
أنا قديمة مثلك
ومن قديم فقدت ذيلي
خفيفة صرت
والعاقل لا يبص إلى الوراء
كنت أحسد الطيور
والآن أحسد السلمندر
كلما فقد ذيلًا نبت له ذيل سواه
أنا ضفدعة صغيرة بلا ذيل وحرة
طر أنت وراء ذيلك
حتمًا ستجد مكانًا لائقًا
كعلامة تجارية على قميص )
هكذا جاءت نهاية المغامرة الشعرية مفتوحة هي الأخرى لتزيد من أفق التأويل ، فنحن في النهاية لم نعرف كيف انتهت الرحلة ولا كيف ستنتهي لكن من المؤكد أننا في الغالب سنتفق مع رؤية الفنان أحمد اللباد الذي اختار أن يستبدل أرقام النصوص في التصميم الداخلي للديوان بطائر يحمل في فمه سنبلة من الشعر ربما التقطها وهو ينظف بين أسنان تمساح البجلاتي الذي يقرض شعًرا .
في الختام بقي أن أؤكد أن هذه المغامرة الشعرية / الخيالية جاءت تحمل الكثير من التجريب والجرأة في الطرح والتناول والتنوع مما دفع البعض إلى الخوف من الإغراق في الفانتازيا وَمِمَّا دفع البعض الآخر إلى القول بأن البجلاتي أطال الحكاية قليلًا ، وإن كنت شخصيًا لا أتفق مع هذه الأراء فمن قال أن على الجمال أن يكون متوقعًا أو قصيرًا ، وقد يدفعنا هذا إلى العودة مرة أخرى إلى خداعية العنوان فالحكاية ليست مطولة ، ببساطة لأن الحكاية لم ولن تنتهي ، وحتى هؤلاء الرافضون للتجديد والتجريب والمغامرة الميالون إلى الطمأنينة والسكون فقط عليهم أن يقرءوا مرة أخرى فقد يجدوا ضالتهم عند إحدى أقنعة تمساح البجلاتي
(عندما في البحيرة
ربطت الطمأنينة في حجر
كي لا تضيع )
ــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعر مصري