خرج سيد محمود فى ديوانه ” تلاوة الظل ” بقاطرته الشعرية عن القضبان المرسومة التى حملت مئات بل آلاف القطارات قبله إلى محطات التقليد والاجترار وتسول الصور والمفردات والتراكيب اللغوية والشعرية التى لاكتها الأخيلة مرارا وتكرارا ؛ فاستحقت الإهمال والنسيان ، مخالفا بتعمد وجراءة ما ساد ويسود قصيدة الفصحى منذ سنوات طويلة سواء النثرية أو الموزونة لاسيما قصيدة النثر من مسألة الاستغراق فى العادى واليومى والهامشى والمعيش وغيرها من سمات تلك القصيدة وهى التفاصيل التى تنجرف فى كثير من الأحيان بالحالة الشعرية إلى مفارق الاستهلاك والفقر الشعرى ، لينهل فى ” تلاوته ” من بئر لم تمر به القوافل ولم يصل إليه طرف الرشا من قبل وكأنه بئر الحقيقة الشعرية البكر الذى وجدها بعد أن فتش مخلصا عن شاعرية مختلفة وجدها فى إحساس طازج ولغة نقية ورائقة تروى الظمأ وصورة شعرية صادقة غاية فى الجدة والإدهاش والبكارة
يقول مثلا ص 28:
صوتها /
يوزع الصباحات على العالم /
ويترك الشمس قطة تموء تحت قدميها
لم يكن سيد محمود يكتب الشعر بقدر ما كان يتعبد ، فالديوان الذى يلمسك كشعاع ضوء جاء ت سطوره كصلاة متواصلة وابتهال لم ينقطع ودعاء وترتيل وتقرب إلى وجه محبوبه هى إلى عالم السماء أقرب جاهد فى محبتها الشاعر / العاشق ورغب عما سواها إلى أن وصل فى محبتها إلى حالة من الفناء فرأى ما رأى وشاهد ما شاهد فحق له الكشف واستحق ” الشعر اللدنى” فسجل ما تلقاه من كلمات وحروف فإذا بها ” تلاوة الظل ” ذلك الديوان الذى تحولت فقراته إلى ورد من أوراد الصوفية
يقول ص 26
أنت زهرة /
وأنا آنية من خزف /
بدأنا معا من طين الحديقة
وص 39:
أمامك /
يفرد الله قلبى/
قطعة قماش /
تقول لأناملك : فصلينى ثوبا لوردة
بدا جليا أن سيد محمود كتب ديوانه البديع فقط استجابة لغريزة الكتابة بعيدا عن التعسف والافتعال تاركا نفسه قشة تذهب به ريح الكتابة حيث تريد فى الوقت الذى يلهث فيه الكثير من الكتاب والشعراء لإنجاز دواوينهم ومؤلفاتهم من رواية وغيرها بينما تخايلهم الجوائز والمسابقات
ولاشك أن أصالة موهبة الشاعر وثقافته عاملان حاسمان فى بقاء قصائده وخلودها ؛ فكلاهما يزودان النصوص بالقابلية الدائمة والمستمرة للتأويل و القدرة المتجددة على ضخ المعان والدلالات رغم مرور الوقت ؛فالموهبة الحقيقية تعمل كمضخة المياة الجوفية فبقدر قوتها بقدر قدرتها على تفادى شوائب السطح وجلب الشاعرية /الماء النقى من الأعماق البعيدة وكذلك الثقافة التى تثرى النصوص وتربطها بالعالم عبر علاقات لغوية ودلالية يتحكم فيها الشاعربموهبته ، وقد توفر لسيد محمود مالم يتوفر لغيره من الشعراء فى هذا السياق وهو واحد من عدد قليل من المبدعين والصحفيين القلائل الذين يمتلكون ثقافة موسوعية ، وقد أسهمت موهبته وثقافته فى تمكينه من صنع عجينة شعرية ذات مذاق خاص يمكنك أن تلمح فيها : ظلال أشعار الأقدمين والمحدثين وروائع المتصوفة من أمثال جلال الدين الرومى وكذلك طاغور والخيام فضلا عن نفحات كبار الشعراء العالميين .الذين أثروا التراث الأدبى الإنسانى بأعمالهم ، كل ذلك دون أن تقبض على صوت أحد سوى صوت سيد محمود ، والحقيقة أننى لا أعرف لماذا بالضبط يراودنى شعور بأن الشاعر قد كتب ديوانه هذا كاملا أو ربما تنزل عليه فى ليلة واحدة أو جلسة واحدة لم تنقطع كأنه فرض صلاة أداها بكامل الخشوع كبر فيها ثم ركع وسجد ورتل ما رتل وتلى ما تلا من آيات العشق العظيم ؛ ربما لعدم خفوت مؤشر انفعاله قط بطول الديوان أو لعدم تراخى قبضته على التجربة قيد سطر شعرى واحد من البداية للنهاية يقول سيد فى آخر سطور اليدوان الشعرية :
غرامنا /
علامة مائية /
لا يقوى الآخرون على فهمها
وقد خلا الديوان إلا قليلا من إشارات زمانية أو غيرها قد تحيلنا إلى زمن إبداع القصائد ولو كنوع من الإسهام فى تلقيها وتأويلها بمعنى أنه فارق بشكل ما حساسية العصر وفى المقابل قبض بفطرته الشعرية الخالصة على ماهو أهم وأبقى بكثير وهو حساسية الشعر ذاته إن جاز التعبير ، فقد قبض على الإنسانى الثابت الذى يعلو دائما ويتجاوز الأزمنة وحاز على جماليات تزداد ألقا وإشعاعا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
جمال فتحى
شاعر وصحفى – مصر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خاص الكتابة