تفــاهــة

أحمد برحال
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد برحال

تفاهة

كلما حاولت أن تقف على كل الجزئيات التي تمر من حولك وتعيش إلى جانبك، تكتشف خبايا وأسرار، وتدخل عوالم ساحرة، وأخرى قضاياها سافلة، كلما أمعنت النظر حولك في الأشياء والكائنات الحية منها والجامدة، كلما اكتشفت مناجم من معادن مختلفة، وتمكنت من الوصول إلى أعماق لم يكن لك أن تصلها لولا أنك أمعنت النظر، أمعن النظر لتستخرج الذرر، والطحالب والسلاحف الكبيرة المتوحشة ، هناك من الأعماق تأتيك مستسلمة طيِّعة، لتبوح لك بالأسرار، هي الحياة مليئة بالمفاجآت السارة والمحزنة، كما الناس، منهم الصالح والطالح، وجدتني أقف بين لحظة ولحظة أستنطق الأحداث والأمكنة، فأجد كل ما يقع من حولي هذه الأيام بدلالة واحدة، وإن اختلفت في الشكل، ماذا أصاب الدنيا؟ أسقطت كل المنظومات؟ أم تهاوت كل النظم؟

اقتطع لحظة من وقتك وحاول فقط، حاول أن تستمع إلى أحاديث الناس من حولك، إلى ما يشبه النقاشات التي تدور في فلكك، في تجمعات صغيرة أو كبيرة، ألا تلاحظ أن أغلب الكلام الذي يتجول بين الأشخاص ذو طبيعة تافهة؟

 هي التفاهة تتشكل لتصنع لنفسها رداء البياض، أَهو بياض زفاف أم وفاة؟

إنه المناسب للتَّجمع الذي ستحضره، فهي تتربع على قائمة الأحاديث في كل المناسبات و المنتديات، وتنتقل إلى السلوكات، فَتُضفي عليها طابعها الخاص، في انتقال آمن إلى الفعل لتتمكن من جذوره.

التفاهة كلام لا يمكن أن تقبض على أول خيط بدأ به النسيج، التفاهة كلام في كل شيء وعن أي شيء، التفاهة كلام لا بداية له ولا نهاية، التفاهة تسكن المجالس التي نقضم فيها الأوقات قضما، في انتظار ملـء السلال بماءٍ زُلال، وعندما تأبى أن تملأ يُصَبَّ الغضب على الآخر، ونُحمله مسؤولية إخفاقاتنا، فنلوك العلك أسئلةً من قبيل:

لماذا هو؟ ولماذا هم؟ والإجابة أبسط من البسيط:

ــ في الوقت الذي كنت تستهلك التفاهة بشراهة، كان هو، منشغلا بما ينفعه، وكانوا هم، منشغلين بما ينفعهم.

لو قُدِّر لك أن تنتبه إلى أنواع الخطابات من حولك، أن تُدون الكلام المتنقل بين حوافِّك، أو أن تسجله، كلام على طاولة في مقهى، على رصيف في انتظار حافلة، أو في طابور أمام بلدية، وحتى في وداع امرأة لأختها على باب منزل، تجد التفاهة مرتعها… لو قدر لك أن تسجل الكلام، لتعيده على مسامعك وأنت في وضعية مريحة قصد تحليله، لوقفت على أنواع التفاهات في بلدك، ولتحولت إلى مختص في دراسة التفاهة، بل ولحاولت فتح مسلك في الكلية التي تدرس بها يختص في علم التفاهة، وأنا على يقين أن الطلاب الذين سيتخرجون من الشعبة، سيجدون العمل في أول فرصة، لأنه قد تم التمكين للتفاهة في المجتمع عبر صناعة دقيقة متدرجة، وكل البرامج التي تسهر عليها المنظمات ، والتي تستهدف نشر التفاهة تنجح.

ــ ألم تلاحظ أن برامج التفاهة تحقق أعلى مشاهدة في وسائل التواصل الإجتماعي، وغير الإجتماعي؟

ــ ألم تلاحظ أن التفاهة التي تبثها وسائل الإعلام، تنتشر بشكل سريع بين أفراد المجتمع، لتجدها بسرعة البرق تعيش جانبك ومعك، تشاركك النية والعمل، وكأن جنياً تعاقد مع هؤلاء، ليتكلف بنشر التفاهة عبر شبكة العلاقات الضخمة التي امتلكها و يمتلكها.

ــ ألم تلاحظ أن التفاهة هاجمتك في عقر منزلك، وتستعمل بعض ما أوتيت من حِيَّلٍ لتُخرجها بأقل الأضرار، وكأنك تداهن معتوها ليغادر المنزل، وبعدها ترميه بأقرب فردة حذاء تجدها أمامك.

ــ ألم تلاحظ أن كل مجهوداتك في الوقت الحاضر تحولت إلى محاربة التفاهة في أقرب أقربائك؟

هي التفاهة في هذه الأيام تحولت إلى لعبة تستهوي الكثيرين، وحتى بعض العقلاء يمسكون بها، تحت ذريعة ” ساعة و ساعة” ليتقاذفوها بينهم.

ــ ألم تلاحظ أن الجادَّ من الإنتاجات لا يلقى القبول الحسن، ولا الإقبال المشابه للذي تلقاه إنتاجات التفاهة، لقد توارى الجادون خلف الستار، وغابت شمس الثقافة التي تَرقى بالأذواق، وانكمش المبدع الذي يمشي صلاحا بين أفراد المجتمع، كما انطفأت شمعة العالم الذي يبغي ثواباً، وأضاءت شمعة ذاك الذي ينشد أجراً.

لقد أضاء مسلاط  كل من ينشد نشر التفاهة، وفي كل الميادين وعلى جميع الأصعدة.

ــ ألم تلاحظ أن كل منتوج  يصطبغ بصبغة التفاهة يجد إقبالا بحجم التفاهة نفسها؟

ــ ألم تلاحظ أن بنية استقبال التفاهة توسعت بشكل رهيب، والمنشآت المحتضنة لها بُنِيت بما يليق بالمقام، فأصبحت لها مركبات كبرى للتسويق، بواجهات تسحر الناظرين؟

ــ ألم تلاحظ أنني أكثرت الكلام، وكادت كلماتي تلامس جدار التفاهة، وقد حان وقت الصمت؟

أستسمح، آخر جملة وأصمت:

كان الله في عون المقاوم للتفاهة، هو كالقابض على الجمرة يَحار:

أيمسكها على هون؟

 أم يرميها فتحرق معطفه ومعاطف الآخرين؟

**

تَفــــاعُلٌ

أنتَ تُفشي السلام عندما تدخل المكتب،
وهو منشغل مع ربطة عنق يديرها على رقبته،
أنت تتحدث إليه باحترام زائد،
وهو يخاطب الورقة التي أمامه باستعلاء بيِّنٍ،
أنت تقف في انتظار أن يأذن لك بالجلوس،
وهو يخاطب سكرتيرته عنك بضمير الغائب،
أنت تعقد يديْك في انحناء ظاهر
وهو يبسطهما ليسمح لبطنه بالإرتخاء أكثر،
أنت تضع الورقة على مكتبه، وهو ينظر إليك مقوس العين،
أنت تضع يدك في جيبك، وهو يَجْحظ عينيه،
أنت تخرجها،
وهو يبتسم، أنت تُسلم عليه بيمناك،
وهو يمسكها بحرارة،
أنت تدلي يديك،
وهو يوقع الورقة،
أنت تخرج،
وهو يُدخل يده إلى جيبه.

**

حـــالَتان

الحالة الأولى: تَـلَـــبُّسٌ.
في لقاء معه على هامش ثرثرة حضرتها عن طريق الخطإ، في إحدى الندوات التافهة شكلاً، و الفارغة مضمونا، أثار صديق مُبتلى تعرفت عليه حينا، موضوع تلبسِ النص به في أوقات ربما في الكثير منها غير مناسب، وأنه عندما يبدأ في الكتابة يجد نفسه في بعض الأحيان يكتب باسترسال ظاهر وكأن جنيا يغذي عقله بأفكار ممتدة بخيط يدليه من الأعلى و يصب محتواه في المخ صَباً دون سابق ترتيب للقاء، فلا يتوقف قلمه عن الكتابة، استجابة لأفكار تتساقط عليه أحجارا من جبل، تصيب دماغه بشكل مباشر، فلا يكلف نفسه إلا بِتَرْجمتها إلى كلمات، ووضعها في جمل تحمل المعاني التي يوحي له بها هذا الكائن الغريب، الذي يزوره في أوقات غير مناسبة.
حكى لي صديقي فقال:
ــ يبدو أن هذا المخلوق، لم يجد سكنا يلبي طموحاته في مشروع الدولة المسمى “اجتماعي”فقرر أن يسكن عظامي.
ــ كثيرا ما يوقظني في الليل ليأمرني بالتدوين، وأنا أُجاهِد تَعَبي، أستجيب في استسلام لترهات هذا المخلوق.
ــ تسبب لي في مشاكل كثيرة مع أولادي وخصوصا الصغار منهم، فعندما يستيقظ أحدهم ليلا، يأخذه الخوف من وضعيتي، يجدني مرميا على البساط، ممدداً في فناء البيت أمسك قلما ومذكرة، وأنا أُسَوِّدُ البياض بشكل هستيري، والإرتجاف قد أخذ مني مأخذا.
ــ هذا المنظر يخيف صغار البيت، أما كباره فقد سئموا من هذه الوضعية فاهتدوا إلى التجاهل حلا للأمر، ولا أخفيك سرا، إن الحل الأخير أراحني.
ــ هذا المخلوق يُضايقني في كل الفضاءات والأمكنة التي أقصدها ، فيتعمد إحراجي، ويأمرني بإخراج القلم والمذكرة.
ــ وأنا منحنٍ في سوق الخضر بعد أن فاوضت الخضار عن الثمن، أجتبي البطاطس أو الطماطم، يوخزني بإبرته لأتوقف عن الفعلِ، وأمارس الفعلَ.
ــ يأمرني بالكتابة وأنا في مجلس مع أصدقائي، في حديث فكاهي أو جدي، فأتوقف مسلوب الإرادة عن الكلام، وفي خنوع ظاهر آخذ ورقة وقلما من جيبي فأكتب كلمات.
ــ يضايقني حتى وأنا في الصلاة، كِدْتُ يوما أن أنحوَ برأسي يساراً و أَلْعَنَهُ، وفي يوم جمعة والخطيب على المنبر، وَكَزَنَي بعصاه، فلم ألتفت إليه،(وكزني المخلوق وليس الخطيب) ولولا أني تذكرت الحديث الذي يروى قبل آذان الجمعة، لأخرجت القلم والورقة التي تصاحبني ولبدأت الكتابة على مرآى من خطيب الجمعة، وأنا على يقين لو فعلت لَلَعَنني الخطيب هذه المرة، وَلَرماني بعصاه، لكنني تمالكت نفسي وجاءني صدىً من داخلي ” ومن لغا فلا جمعة له”.
ــ كنت يوما في قاعة انتظار، فأراد صاحبي أن يمارس عليَّ لعبة الإكراه، فاستجبت بإخراج قلم ومذكرة صغيرة من حقيبة الظهر الصغيرة التي تلازمني على الدوام، فإذا بكل العيون التي في القاعة تنزاح عن الشاشات التي كانت تحدق فيها، وتلتفت إليَّ في استغراب ظاهر، ومنهم من أبدى استغرابه بكلمات خفيفة قالها بصوت خافت:
ــ عجيب ! لا زال بيننا من يكتب !
وأدار رأسه نصف دورة وأكمل:
ــ ويحمل الأوراق على ظهره !
ــ حديث في المشاعر يجمعني وزوجتي، على مائدة عشاء، فإذا بي أتلمس جيبي لأخرج الورقة والقلم، فأقسمت بأغلظ الأيمان إن أنا فعلت، لتغادرنَّ البيت ولن تعود إلا بعد إحراق كل الكتب والمجلات، وكل الأوراق المتناثرة داخل البيت وفي مدخله.
احتار صديقي وتأكد فيما لا يدع مجالا للشك أن الأمر جِدَّيّ، وأن حياته وحياة أبنائه في خطر، وعليه أن يتصرف، أن يتصرف التصرف الذي لن يجني حصاده تِبْناً، ويذهب الريح بالحَبِّ كما الحُبِّ.
ما عساه أن يفعل؟
هو السؤال الذي طرحه عليَّ صديقي.
وبكل ما أوتيت من حِيَّلٍ حاولت أن أتجنب ورطة الإجابة.

الحالة الثانية: هـــروب.

لقد راوغت صديقي، ولم أُشِرْ عليه بحلٍّ ليخرج من الحالة التي يعيشها، تمكنت من الهروب ببراعة وتركته يعيش ضيقه لوحده، حتى يتحمل تبعات القرار الذي سيتخذه، فأنا لست بقادرٍ على تحمل مسؤوليةٍ مثلَ هذهِ، وغير مستعد لتقديمِ مُساعدةٍ من هذا النوع.
أنا بدَوري أعيش حالة، لم أجد من يقدم لي يد المساعدة فيها، أعيش ضيقا يكاد يخنق أنفاسي، حالة ترتفع فيها درجة حرارة جسمي، وتصطك ركبتايَ، كما تتوقف الغُصة في منتصف حلقي لا تريد الخروج، تكاد تزهق روحي، أحس أنني سجين في غرفة، بهواء ثقيل لا يريد ولوج حنجرتي بالقدر والسرعة الكافيتين، حالة أعيشها في خضم نص أكتبه، لم أجد من يخلصني من لهيب يرسله مباشرة إلى وجهي، يريد أن يأكله بالكامل، وتذكرت قَولةَ صديقي:
كل نص فهو نار يحرق كاتبه، قبل أن يتلذذ بِطَبيخِهِ المتذوق من القراء.
ينتصب النص معاندا لا يريد أن يلين لِتنتهي الولادة بسلام، هو معاند إلى درجة لا يمكن تصورها، يجعلك تتصبب عرقا، تزفر زفرات، تتنهد بعمق، تمسك على فخذيك بعصبية، تتأسف لحالك، فتأخذك الشفقة من نفسك، هي المعاني لا تريد أن تستقيم، تستعصي على التراص، أحداث تأبى أن تجري بسلاسة، وشخصيات تتمرد على الأدوار، فتنتفض في استعلاء بيِّنٍ، وكثيرا ما تقلب الأوراق غير راضية بمسار حياتها في القصة، فتنبري بدون حياء لمحاورتي، لتدافع أو تشتكي، بل وترفض في أحيان كثيرة، فأعجز عن إيجاد الحل، وأتحول إلى قاضٍ جاهل، يوزع الظلم بين الشخصيات بلا عدل، لأنهيَ الجلسةَ في أغلب الأحيان، بهروب خارج الغرفة، تاركا النص في غمرة اللهب والفوران، وكثيرا ما تتوصل الشخصيات إلى توافق في غيابى، لترتب الأحداث في المنحى الذي يليق بمقام و مركز كل منها، فأعود منتشٍ بانتصارٍ موهوم:
ــ لقد تمكنت من بناء القصة، وما بنيتها ولكن شُبِّهَ لي.
تذكرت حال صديقي، فتراجعت عن قراري، وقررت أن أساعده بعرض تجربتي عليه.
لكن مع الأسف هاتفه غير مُشَغَّلٍ أو خارج التغطية، كما أخبرتني الحريصة على خدمتنا.

 

مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

ثقوب