تغريبة القافر لزهران القاسمي أو عندما تبدو الحياة كحكاية

تغريبة القافر
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

خلف علي الخلف

أرسل لي العزيز حامد بن عقيل قبل فترة نسخة إلكترونية من رواية صديقنا المشترك زهران القاسمي “تغريبة القافر” الصادرة عن «دار مسكيلياني» للنشر والتوزيع التونسية في نهاية عام 2021، وكتب لي أنها “عمل مهم لا يفوتك”. وعادة أأخذ ترشيحات حامد على محمل الجد، كون الرجل اشتغل في نقد الرواية وكتب رواية يتيمة. ضاعت النسخة، ولم ألح بطلبها لأني كنت في فترة سفر متصل بين البلدان، لكن زهران بعدها بفترة قصيرة أكرمني بنسخة الكترونية كما يفعل عادة عندما ينشر كتابا جديدا.

لم يدفعني الفضول لقراءتها بقدر مادفعني واجب تتبع مسيرة الأصدقاء الكتابية، خصوصا وأني أقرأ زهران شاعرا منذ عشرين عاما وأستطيع القول إنه من شعراء قصيدة النثر بالعربية الذين حفروا فيها وقدموا اقتراحاتهم الخاصة المتميزة. قلت لنفسي أريد أن أرى فيما إذا كان الشاعر استسهل “شغلة الرواية”، خصوصاً أنه كتب قبلها ثلاث روايات، أم أنه يكتب عملا يستحق الانشغال به كرواية. ومن عادتي أن أمنح كتب ربعي خصوصا الرواية أربعين صفحة إما أكمل أو أتوقف. قرأت قسما من تغريبة القافر في مطار ستوكهولم وأكملت قراءتي في الطائرة إلى برلين، وعدت إليها في برلين وهذا أمر نادر أن أقرأ كتبا بعد الوصول لجهة السفر.

الرواية منذ عنوانها تذهب في دلالة مباشرة إلى مضمونها، فـ القافر هو الرجل المختص في إيجاد الماء تحت الأرض وشقّ الأفلاج هو عمل تخصصي يبرع فيه بعض الأشخاص في المجتمعات الفلاحية الصغيرة التي لا تستوطن ضفاف الأنهار، نتيجة الموهبة والعلم والخبرة. أما التغريبة فترجع إلى جذر “غريب”؛ وتحيل إلى الغَرِيب عَنْ وَطَنِه، البَعِيد عَنْهُ. و”رَجُلٌ غَرِيبٌ”: لَيْسَ مِنْ أَهْلِ البَلَدِ.ويقال “كَلاَمٌ غَرِيبٌ”، و رجل “غَرِيبُ الأَطْوَارِ” أي شَاذُّ الطِّبَاعِ. وقيل في الأثر “طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ”. وسالم بن عبدالله بطل الرواية هو كل هذا. بل إن ولادته كانت حدثاً غرائبياً تبدو لغرائبيتها شديدة العادية.

فقد “ولد” الرجل من بطن أمه مريم بنت حمد ود غانم بعد وفاتها غرقاً. إذ بعد انتشال جثة الغريقة من البئر وأثناء تكفينها وجدوا أن “في بطنها حياة”، ودار صراع حوله بين أهل الفقه والفتوى وبين الناس. وبينما الجدل مستعراً بين “الفقيه” الذي أراد دفنه حيّا مع والدته الغريقة مستنداً إلى “شرعه” وبين حكمة الناس وموروثهم الثقافي معبراً عنه بصوت “الشايب” الذي نهر “الفقيه” عن التحليل والتحريم في أرواح الناس، “تدفن إنسان حيّ في التراب وتحكم عليه بالموت وتقول شرع؟”. ففي غمرة انشغالهم بالجدل حول مصير الجنين أو الحياة التي في بطن الغريقة، وفي غفلة عن الجميع تسحب كاذية بنت غانم سكينها وتشق بطن مريم الغريقة وتخرج الطفل الذي سيكون اسمه سالم ابن مريم وعبدالله بن جميل.

في التمهيد لروايته ينتقي الروائي أسماء أبطاله بعناية شديدة، والأسماء هنا ليست حيادية بل بتقديري استهلكت زمناً لإيجادها لتكون دالة على الحكاية والمجتمع الذي تدور فيه. فبقدر ما تبدو الأسماء محايدة يبتعد فيها الروائي عن محاذير اختيار أسماء تعود لأسر عمانية معروفة وشائعة ومتداولة كي لا تخلق أي إشكال للرواية ومعها، تبدو الأسماء عمانية منحوتة تدل على الجميع، فسالم الذي جاء اسمه من دلالة ولادته واسم ابيه الذي لا يدل على أحد هو كناية عن الجميع، ممثلا لهم عاكسا روح المجتمع وحكاياته.

وبالقدر نفسه الذي يبدو فيه حدث الولادة “أسطورياً”، يبدو عادياً كذلك لأن الروائي اشتغل على تقديمه لتبدو حكاية الغرق مجرد حكاية عادية يمكن أن تحدث في أي قرية فيها بئر. لكن الروائي لا يكتفي بهذا فهو يعود ويعمل على حكاية مريم الغريقة المرتبطة بالماء لتبدو علاقة “القافر” اللاحقة بالماء طبيعية تم التأسيس فلا تبدو غرائبية. فعندما يستمع القافر لأصوات المياه في جوف الأرض وفي أكتاف الجبال يجد القارئ ذلك طبيعيا، إنه مسار طبيعي لحدث ولادته ولعلاقة امه بالماء أثناء حملها به. هكذا يغدو طبيعيا أن يصبح الماء ثيمة العمل الأساسية. كل الحكايات وتاريخ السكان وعاداتهم وطرق عيشهم ورخائهم وقحلهم، وتاريخهم الشفاهي وأمثالهم وطقوسهم الدينية البسيطة وافراحهم وأتراحهم مرتبطة بالماء الذي تقدمه سيرة حياة القافر التي تنمو رويدا رويدا مع السرد لتقدم فترة من تاريخ القرى العمانية وحياة المجتمع التي كانت واقعا قبل وقت قريب.

ومن ضمن ذلك تتخصص الرواية في ثيمة الأفلاج التي تمثل الماء في الرواية، ومن هذه الزاوية يبدو العمل مشغولا بدراية تامة تكاد تكون معرفة موسوعية في موضوع “الأفلاج” في عمان وما شابهها من قرى في أي بقعة جغرافية أخرى من العالم، او لنقل العربي. أرشفة وثائقية لحياة صارت متخيلة كأنها رواية.

سرد زهران حياة القرى حول الأفلاج كأنه راوي حكايات غريبة متخيلة، لا كأنه يسرد حياة كانت قبل قليل، العادات المعتقدات الأساطير الخرافات نمط الحياة البسيط الذي يعيش على الأرض وتحفظه الحكايات.

وكما في كل عمل لابد من وجود ملاحظات نقدية على بنائه ولغته وزمنه وأبطاله، إلا أن هذا ليس غاية هذه المادة، لكني أود أن أشير فقط إلى بعض الهنات المتعلقة بـ “الحكمة” والرؤية النقدية للحياة ولطباع الناس التي يتبناها الروائي ويلبسها لشخوصه في مقاطع قليلة وبدت لي نافرة في تقريريتها و “حكمتها”.

وبالرغم من أني مجرد قارئ للكتب ولا اقدم نفسي ناقدا، يمكن لي أن أزعم أن رواية تغريبة القافر تشكل وثيقة اجتماعية ستعيش طويلا وستكون مرجعا لحياة قرى الأفلاج التي اندثرت أو تكاد. كما أعتقد أنها ستكون مرجعا للدراسات الاجتماعية في عمان، فهي عمل مهم لا يقارن إلا بعرس الزين لشيخ من شيوخ الرواية بالعربية الطيب صالح. هذه الرواية عمل نادر في زحمة الإصدارات الروائية لمن تغويه حكايات الأرض والماء الذي حكم مصير البشر منذ نشوء الخليقة.

 

 

مقالات من نفس القسم