تغريبة القافر: النص وليد الموت

تغريبة القافر
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد الرحمن إبراهيم

يمكن اعتبار “تغريبة القافر” لزهران القاسمي، الحائزة على جائزة البوكر للعام 2023، رواية نصوص؛ فالمروية التي تراوح بينها مازالت تنهض من ذات الأحجية التي تتكشف من بين رحمها الميت. وكل موت هو ولادة جزء من حكاية سالم بن عبدالله بن جميل القافر بطل الرواية. فهنا يضع القاسمي بطله في نفس سياق قصة النبي الذي يكذبه قومه، يشهد فيها الجميع معجزة مولده من رحم أمه الميتة، من حيث يقبع جثمانها في البئر؛ إلا أن نص المعجزة ظل قابعًا خلف الحكايات المختلقة من شهودها الذين يرجئون حقيقتها إلي التخييل.

هنا سيغدو الموت في حكايته دلالة على اقتفائه لأثر الحياة في متنها، ولن تلبث الهوامش حتى تحاك نصوصها المتفرقة.. تنبض بألسنة رواة يتناقلون حكايته غير متبنيين لأصولها المستقاة منها، فهي محض نصوص تفتقر للتدوين، فيما حكاية القافر ظلت تدون غير عابئة بالثرثرة التي تقطن تحت وطأة الممحاة لا ترى منها إلا خطوطها الوهمية.. مثل قناة الفلج التي تخون مسار مياهها تحت مسمع رؤاه. فهو يقتفي أثر الحكاية من ذات الصوت الذي يصحبه لبلوغ منبع مياه أفلاج القرى، فيما تنفض الأمكنة جغرافيتها الدالة على خصوصية، فهنا كل الأماكن في الصورة التي تشكلها متشابهة، وكأن وطأتها لا تعوزها الغربة.

ومنذ البداية تصطدم الحكاية بحوارية نشأت من نص الإفتاء الذي يسكن فيه نجاته، يروي هنا عن فقيه له كلمة، إلا أنها سرعان ما تندثر مثل هيبة عباءته الهشة، لا تعيق بها سلطة معجزة تسبق خروج الحي من الميت، فهي الجسد الذي احتضنه ماؤه، حتى لا تقتل حكاية هي وليدة اللحظة، هنا تشي استعارة الموت ليس بمعناها المجرد بمآلات المنفى، ولكن لتزيح ما يعيق القافر عن اقتفائه وهو يسمعه داخل جوف الفلج الذي سيؤدي بمن منحوه نصًا مقابل حياته.

يضع القاسمي رهانه على رجل من القرية لم تؤثر خلفيته عليه لتمنح جسد شخص ما قداسة مطلقة، هي الخلفية ذاتها التي تصحب سيرتها في وعي لا يتحسس أدواته تجاه الخطابات الايدلوجية، أن تمنعه من تأسيس حوارية أكثر إثارة من حقيقتها. هنا ينهض الخطاب التشكيكي في النص متسائلاً حول حقيقة نص الفتوة، أن يمنع جسدًا من الحياة، في المقابل ينفي بشخصية حساسة يقينًا مسبقًا في اللحظة الراهنة تجاه السياقات

 تصحب سيرة القافر منبع حكاية هو بطلها، فيما تختبئ مياه في أدواته، حتى خلقت طبيعتها إيقاعا للغة؛ فكل مفردة أو جملة تتخذ مسارها من ذات الوجهة التي تقودها السيولة، فإذا كانت المياه تصطدم بصخرة، سيظهر تعثرها المربك في مفردة تعقبها تغير طريق سريانها. وإن ألتمس في يهاجها غضب، أضحت الحوارية أكثر جدلًا وتوليدًا للأسئلة، وإن بقي سطحها هادئًا يعتنق صمت الصخور وغناء الشجر بحثًا عن لحنًا يفيض بشاعرية ما.. أمست الأوركسترا وتيرة تفضي إلى التأويل. إذا اللغة هنا هي التي تعانق الحواس وليست من يصنعها، فرغم اختلاف مستوياتها إلا أنها لغة واحدة لنص واحد، يفضي هامشه إلي نصوص متعاقبة، تعي مسارها من ذات الحكاية وذات التساؤل.

أول حياة وهبت للقافر كانت موت والدته، فيما تسبق حكايتها أثر اقتفائها لنبوءة مولد لن تشهده. من هذا المنطلق الفني في تغريبة الحكاية، نجد أننا أمام حياة تمنح لنص أكثر مما تمنح لجسد، في الحين أن المفارقة بين النصين؛ النص الذي وهب له حياته، ونص آخر فقده من ذاكرة ما تزال قرينه الموت.

هنا يحافظ الراوي على تدفق حكاية تسرد على تخوم الهوامش، فلا يوجد تقويض للبنية الاعتيادية للنص، ليبقى رهان الكاتب الأساسي هو اللعب على تلك التغييرات الطفيفة التي تطرأ على مجمل الحكاية من بين سياقاتها الأكثر ميلًا للغرابة، فكل سردية تنشأ من ولادة خرافة تقضي دورًا مهمًا لتوظيف محكية – كالماورائيات – التي يتبناها أهل القرية للتشكيك في رواية لا تخضع تحت منطقها الأساسي، لذلك تنهض شخصية سالم على أعتاب حلم يسنده واقع مشوه؛ كالذي تقتضيه البنية. فشخصيته تحيل إلي رمزية تتساءل حول يقين شخص لم يتعثر أبدًا أمام يقينه، إلا أن القاسمي قد شكك فيه في لحظة تخونه فيها قدرته على معرفة مكان مياه لصخرة تمتص غضبة أكبر مما يحتويه جوفها من يابس، وكأن موت النص الأخير، بفقدان والده عبدالله بن جميل، تحت قناة الفلج، قد نزع منه إيمانه المطلق تحت مسمعه، فبقي صوت الموت أكثر يقينًا من ما يتدفق من صوت فلج هو الحياة.

لكن هنا موت حاضر في الخلفية بأبعاده سلفًا، وموت آخر يقتل مروية تفضي إلى نهاية تساءل إلي أي مدى تساهم فرضيته فيها، فهنا الشخوص التي تقترن بالحدث تشكل علاقة وثيقة مع بطل يملك شيئًا من الفرادة، حتى إذا كانت عوضًا عن موت ما يزال يزحزح مكانًا لنص، لكن لكل نص – أي ما يخلفه الموت –  مستوى من نضج الأسئلة ورصد حياة سالم من الطفولة إلي العجز، وإن كان يحق له أن يقتفي راو ما أثر تشبث المياه في حكايته بالموت أكثر من الحياة.

 

 

مقالات من نفس القسم