تعلمتُ منه استلهام التراث

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. شيرين العدوى

لم تكن علاقتى بالأستاذ محمد جبريل قوية أو مباشرة، إذ كنت آنذاك أعيش فى كفر الشيخ، منغمسة فى هدوء الأقاليم، أبدع بعيدًا عن صخب القاهرة وأضوائها التى تستنزف الإبداع وتخطف البشر من أيامهم وكلماتهم. فجاءتنى دعوة منه لحضور صالونه الأدبى، حيث كان يلتقى فيه المبدعون الشباب جنبًا إلى جنب مع كبار الكتّاب.

فى ذلك الوقت، كنت متزوجة وأقيم فى مدينة السكر بكفر الشيخ، وأمًا لولدين، فاصطحبتهما معى إلى الصالون. هناك، حظيت باستقبال دافئ من الأستاذ محمد جبريل، وحفاوة كبيرة عززت شغفى بالكتابة وأمدتنى بطاقة لمواصلة مسيرتى الإبداعية بحب وإصرار. وبلغنى لاحقًا أنه كتب عنى ضمن مجموعة من الأصدقاء المبدعين، فكانت فرحتى لا توصف بهذا الدور الريادى الذى اضطلع به فى دعم الكتاب الشباب والمبدعين.

لم تقتصر علاقتى به على ذلك اللقاء، بل امتدت بصورة أعمق، وإن لم تكن مباشرة. فقد ظللت أتفاعل مع عالمه الإبداعى من خلال رواياته ومقالاته، وتعلمت منه كيف أستلهم التراث فى الكتابة، وكيف أدمج العمق التاريخى فى العمل الأدبى بأسلوب إبداعى متفرد، حيث تميزت أعمال الأستاذ محمد جبريل بالعمق والتنوع، واستطاع من خلالها أن يقدم صورة واقعية للمجتمع المصرى، بكل ما يحمله من تحولات وتناقضات. وكان التراث عنصرًا أساسيًا فى رؤيته للعالم وفى بناء عوالمه الروائية، حيث اتكأ عليه كمصدر للإلهام، مستلهمًا من التاريخ المصرى الغنى ومادته الخام، ومنهلًا من القصص الشعبية والأمثال والحكم، ليصوغ عوالم روائية زاخرة بالتفاصيل والشخصيات.

لم يقتصر استلهامه للتراث على الجوانب التاريخية فحسب، بل امتد ليشمل الأبعاد الثقافية والاجتماعية، مما منح أعماله عمقًا وأصالة. فقد كان التراث لديه أداة لفهم الواقع وتحليله، حيث ربط بين الماضى والحاضر، وسبر أغوار الظواهر الاجتماعية من منظور تاريخى. كان يؤمن بأن فهم التراث يعين على فهم الذات والمجتمع، ويسهم فى تجاوز التحديات التى تواجههما.

تجلى هذا الارتباط الوثيق بالتراث فى تشكيل شخصياته الروائية، التى تحمل فى طياتها سمات وقيمًا مستمدة من التراث المصرى. فهى شخصيات نابضة بالحياة، تحمل أبعادًا تاريخية وثقافية، مما يضفى عليها تأثيرًا وعمقًا خاصًا. كما أن لغته الروائية تميزت بالبساطة والجمال، مستمدة من التراث اللغوى المصرى، إذ كان يوظف العربية الفصحى بسلاسة، مع استخدام الكلمات والعبارات الشعبية التى تمنح كتاباته طابعًا مصريًا أصيلًا.

من أبرز أعماله التى تركت أثرًا كبيرًا: رواية «الأسوار» التى تناولت فترة ما قبل ثورة 1952، واعتمدت على التراثين التاريخى والشعبى لتقديم صورة حية لتلك الحقبة، رواية «من أوراق أبى الطيب المتنبى» التى سلطت الضوء على حياة الشاعر الكبير المتنبى، مقدمة صورة شاملة لفترة مهمة من التاريخ العربى من خلال استلهام التراث الأدبى والتاريخى، ورواية «قاضى البهار ينزل البحر» المستوحاة من التراث الشعبى المصرى، حيث قدمت صورة نابضة للحياة فى الإسكندرية، وتميزت بلغتها السلسة وشخصياتها الواقعية.

هكذا ظل الأستاذ حيًا فى وجداننا بأعماله الإبداعية ونبله الإنسانى تجاه دوره الثقافي؛ رحم الله الأستاذ والإنسان.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم