تطور كوميديا الصديقين فى السينما الأمريكية

لوريل وهاردي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحـمد عبد الرحـيم

المفارقة هى روح الدراما، بمعنى أن الاختلاف ينتج صراعًا يتم استغلاله لبناء عمل متصاعد وممتع. فى صناعة الكوميديا السينمائية، تم استثمار ذلك بصور متنوعة، واحدة من أشهرها هى The Buddy Comedy أو كوميديا الصديقين؛ وفيها نرى شخصيتين قد يختلفا فى الشكل، العرق، التفكير، السلوك، أو كل ما سبق، ويعيشا صراعًا دائمًا مع بعضيهما يُنتج عددًا من المواقف الطريفة، ناهيك عن اندماجهما فى صراع آخر مع قوة معادية، ومن ثم يسعى كل منهما للتصالح مع الآخر، والتكامل معه، لتحقيق الانتصار.

جسّدت هذه الكوميديا مفارقة أزلية، ليس بين أى صديقين وحسب، وإنما – ربما – بين المرء ونفسه؛ فيما يختص بوجود “صوتين” متضاربين داخل الإنسان أحيانًا، ومرّت بمراحل تطوُّر متعددة اختلفت فيها الشخصيتان الرئيسيتان، لكن لم تختلف كثيرًا التركيبة التي تجمعهما. فى هذا المقال، سنتابع هذا التطور بشكل خاص فى سلاسل سينما هوليوود، من عشرينيات القرن العشرين إلى الآن، حيث سيمكِّننا هذا من قراءة متغيرات عديدة فى الذوق الجماهيري، وصناعة الأفلام، والثقافة الأمريكية بشكل عام.

أولًا، عصر الصمت والبراءة

فى عصر السينما الصامتة، مثّل لوريل وهاردى أشهر ثنائى كوميدى بلا جدال، وأيضًا اللبنة الأولى لفكرة الثنائي الكوميدي؛ فمجرد وقوف الممثل البريطاني المولد أوليڤر هاردى المميز بالحجم البدين وطول القامة، بجوار الممثل الأمريكى المولد ستان لوريل المميز بالنحافة الشديدة وقصر الطول، يُنتج مفارقة شكلية واضحة، فما بالك إذا امتدت هذه المفارقة إلى التصرفات أيضًا، لاسيما عندما يلعب هاردى دور الشخص الجاد سريع العصبية، ويلعب لوريل دور الهازل سريع البكاء.

لوريل وهاردى ممثلان كوميديان، كل منهما حقّق نجاحًا فرديًا عند ظهوره فى أفلام صامتة قصيرة بعشرينيات القرن الماضي، ولكن بعد اجتماعهما معًا منذ 1926 إلى 1950، جسّدا نموذجًا قديرًا للثنائى الضاحك، ليقدما 34 فيلمًا قصيرًا صامتًا، و45 فيلمًا قصيرًا ناطقًا، و27 فيلمًا طويلًا ناطقًا، نائلين مجدًا فنيًا وصل لأن يفوز أحد أفلامهما، The Music Box أو صندوق الموسيقى (1932)، بجائزة الأوسكار لأحسن فيلم قصير، فضلًا عن المجد الجماهيري الممتد إلى الآن. 

تمركزت شخصيتيّ لوريل وهاردى حول هذين الصديقين، أو ربما الأخوين، اللذين يبديا فى الأغلب كزوج صعاليك متفائلين، وصراعهما المشترك لتحقيق هدف ما، من خلال اختلاف تام فى السمات الشكلية والسلوكية، وإن جمعتهما براءة ناصعة جعلتهما دائمًا أطفالًا فى ثياب رجال ناضجين. فى رأيى، بدا هاردى بحجمه الضخم وجديته الشديدة كمثال لأب عقلانى رزين، ولوريل بحجمه الأصغر وسذاجته المفرطة كابن أخرق شقى، وقامت أغلب كوميديا الثنائى على الحركات البدنية slapstick، بعيدًا عن النكات اللفظية حتى فى أفلامهما الناطقة، كما نأت عن إثارة الضحكات من خلال مواقف بذيئة، ليس فقط للجان الرقابة التى تحكمت فى أخلاقيات الأفلام وقتها، وإنما للمذاق الطفولي المميّز لشخصيتهما. 

ثانيًا، عصر الصوت والإِبَاحة

خلال سنوات تراجع شهرة لوريل وهاردى، مع تقدمهما فى السن وتحوّل الذوق الجماهيري، ظهر ما يمكن تسميته بورثتهما؛ الثنائى الكوميدى بد أبوت ولو كاستيللو. بعد تاريخ من الأداء الكوميدى فى المسرح، وبعض الظهورات السينمائية العابرة ككومبارس؛ مثل ظهور كاستيللو كملاكم أمام لوريل وهاردى نفسيهما فى الفيلم الصامت The Battle of the Century أو معركة القرن (1927)—وقّع الثنائى الجديد عقدًا طويل الأمد مع شركة يونيڤرسال ليمثلا 36 فيلمًا، بين 1940 و1956، حصدت ملايين الضحكات والدولارات.

تميّز بد أبوت، مثل أوليڤر هاردى، بالشخصية الجادة رغم اختلافه عنه بالقوام الرفيع، وتميّز لو كاستيللو، مثل ستان لوريل، بالشخصية الهازلة ذات التصرفات الحمقاء، والذكاء البسيط، والذعر الدائم، رغم اختلافه عنه بالحجم البدين؛ أى أنهما قدما الشخصيتين نفسيهما من جديد، الأشبه بالأب الجاد والطفل الأخرق، لكن مع عكس السمات الشكلية.

استوعبت أفلام بد أبوت ولو كاستيللو مساحات من الكوميديا الحركية، لكنها قامت فى جزئها الأكبر على المفارقات اللفظية؛ تلك التى سبّبت شهرة الثنائى فى إسكتشاته المسرحية أو الإذاعية، وصار وجودها مُلازمًا للسينما فى مرحلة انتشار الأفلام الناطقة بعد عام 1927، كما وفّر عدد من أفلامهما لقاءات كوميدية مع نجوم العصر الذهبى لسينما الرعب وقتها (د. چيكل ومستر هايد، الرجل الخفى، المومياء، فرانكنشتاين، دراكيولا..) تسخر من هذه الشخصيات بشكل مبكر، فى مجموعة أفلام تبدأ عناوينها بالاسمين الحقيقين للبطلين “Abbott and Costello Meet..”  أو “أبوت وكاستيللو يقابلا..”، كما ستشاهد فى كوميديا هذا الثنائي أغنيات تؤديها فى الأغلب فتاة جميلة تشاركهما البطولة، أو لقطات لفاتنات يرتدين زى السباحة على الشاطئ، أو يتبادلن القبلات مع البطلين، حيث تواءم هذا مع دخول السينما الأمريكية لمرحلة مختلفة تحلّلت فيها قليلًا من القيود الرقابية، وقدمت نماذج للمرأة الأمريكية التى تحوّلت اجتماعيًا لسلوك أقل تحفظًا، وإن عُرِض هذا خلال صيغة ترفيهية هدفها تسلية المشاهدين، خاصة أيام الظروف العصيبة للحرب العالمية الثانية (1939 – 1945)، بشكل أدخل عنصر الجنس كمكوِّن رئيسى فى معادلة هذا الترفيه، وإن كان ضمن إطار راق رقيق، بعيد عن الفجاجة أو الإفراط.

ثالثًا، عصر الغناء والرقص والألوان

رغم أن الثنائي بوب هوب وبنج كروسبى بدأ فى عام بداية بد أبوت ولو كاستيللو، فإنهما مثّلا نموذجًا مختلفًا عبّر عن اختلاف ذوق المجتمع، وتطور صناعة الأفلام. كانت الفكرة حينذاك هى جمع أقوى كوميديان (هوب)، وأشهر مطرب (كروسبى)، فى أفلام يدور كل منها فى بلد ما؛ لنشاهد مطاردات لطيفة، وأغان رومانسية، واستعراضات مرحة، وأماكن طبيعية، وثقافات مختلفة، وحسناوات كثيرات تتنوّع وكل فيلم. صنع الثنائي 7 أفلام ما بين 1940 و1962، بدأت كل عناوينها بـ”Road to..” أو “الطريق إلى..” مع اختلاف المكان فى كل مرة؛ مما جعل الدمغة التجارية لأفلام الصديقين تشتهر لأول مرة باسم السلسلة وليس البطلين، بعد مثلًا أفلام “أبوت وكاستيللو”.

من المُلاحظ أن تركيبة المفارقة بين البطلين بدأت فى التباين عن تراثها المألوف من هنا؛ فكلا البطلين يتميزا بالرشاقة والوسامة، ويتصرفان ما بين هازل (كروسبى)، وأكثر هزلًا (هوب)، ويتنافسان على فتاة جميلة، خادعين بعضهما بكل الطرق الشريفة وغير الشريفة ليحظيا بها، كما يشتركا معًا فى الغناء والرقص. قدمت أفلامهما الألوان بعيدًا عن الأبيض والأسود، وأظهرت طابورًا طويلًًا من نجوم السينما الأمريكية كضيوف شرف؛ مثل همفرى بوجارت، وچين راسيلل، وبيتر سيلرز، وديڤيد نيڤن.. وغيرهم، إلى جانب قيامهما بكسر الحائط الرابع عبر الحديث إلى جمهور الفيلم، والسخرية من شركات إنتاج أخرى، أو السخرية من صناعة السينما ذاتها؛ فمثلًا فى فيلم Road to Bali أو الطريق إلى بالى (1952)، خلال تيه البطلين فى جزيرة استوائية، يظهر فجأة فى الكادر فتى ببندقية يطلق منها طلقة ثم يغادر ولا يظهر ثانية، بعدها يخبرنا كروسبى أن هذا هو أخوه “..ووعده بلقطة فى الفيلم!”، إلى جانب طغيان عنصر الجنس بشكل واضح، ليزيد ظهور ألبسة البحر والقبلات، أو الاستعراضات التى تؤديها فتيات فى ملابس زهيدة.

فى نهاية الأربعينيات ظهر أيضًا دين مارتن وچيرى لويس، وسار هذا الثنائى على خطى كروسبى وهوب؛ فمارتن مطرب ذو صوت رخيم، ولويس ممثل هزلى موهوب، مع نجاحهما فى الملاهي الليلية والإذاعة والتلفزيون، اجتمعا فى 16 فيلم من عام 1949 حتى 1956، وتميّزا بكل ما سبق ذكره فى سيرة الثنائي السابق، بل أن مارتن ولويس ظهرا كضيفي شرف فى لقطة بفيلم كروسبى وهوب الطريق إلى بالى، وإن تأكدت فى أفلامهما المعادلة القديمة المؤسَّسة منذ أيام لوريل وهاردى؛ حيث لعب مارتن دور الرجل الجاد اللبق، ولويس الشريك الأقرب لطفل أحمق مزعج، والذى يورِّط نفسه – وطبعًا صاحبه – فى مشاكل لا حصر لها.

وعليه، كان واضحًا فى خمسينيات القرن العشرين أن هوليوود تسعى لترفيه أكثر إبهارًا، لذا اعتنت بالغناء والرقص، ووظّفت الألوان والسينما سكوب، ولجأت لوسائط كحشد النجوم وزيادة العنصر الجنسي والتعرض لثقافات مختلفة، خاصة مع نهاية الحرب العالمية الثانية، ورغبة الجمهور فى نسيان ويلات الدمار، مع وجود توترات حرب باردة لاحقًا، فضلًا عن ظهور التلفزيون كمنافس قوى أجبر المشاهدين على البقاء فى بيوتهم، وميل المزاج الجماهيري إلى التسلية الأكثر صخبًا وإثارة؛ مع فوران موسيقى الروك أند رول، وتحوّل المراهقين إلى جمهور له ثقله فى ريادة السينما.

رابعاً، عصر نهاية البراءة

شهدت الستينيات والسبعينيات نهاية الثنائي الغنائي الاستعراضي، الذى يظهر ببدلة أنيقة تحت أضواء لامعة، مع تراجع السينما الموسيقية إلى حد كبير. فى الواقع، لم يكن هذا هو التحوّل الوحيد، إذ إن الولايات المتحدة الأمريكية كلها عاشت فى هذه الفترة تحوّلات عديدة فى مختلف المجالات، وتغيّر المجتمع إلى صورة أكثر ثورية على الأطر القديمة، وأكثر إنحلالًا من القيم الأخلاقية. انعكس هذا فى الأفلام، فصارت – مع تحوّل قوانين الرقابة سنة 1968 – قادرة على تقديم العرى الكامل، وتعاطى المخدرات، والألفاظ البذيئة، والعنف الصارخ ضمن تصنيفات (ممنوع لأقل من 13 سنة، أو 18 سنة، إلخ..)، لتميل السينما إلى جو أقل دماثة وفنيّة، وأكثر فظاظة وإباحيّة.

لم تُستثنى الكوميديا من ذلك، ليظهر نوع جديد، بذيء أو مقزز، استطيبه الجمهور وازدهر تجاريًا. سر هذا النجاح قد يفسره انحدار القيم المجتمعية فى أمريكا نحو تحطيم الروحانية والعفة، والاحتفاء بالمادية والمجون، كذلك التشبع من كوميديات العصر السابق، المهذب للغاية بالمقارنة، أو زيادة الضغوط العنيفة والتوترات النفسية المميِّزة للإيقاع الحياتي فى المدنية الأمريكية الحديثة، والتى صارت تدفع المواطن لتفريغ انفعالاته السلبية تجاه مشاكله فى بحر بذاءة قد يعجز عن خوضه فى حياته اليومية. على أى حال، صارت البذاءة، المسموعة أو المرئية، جزءًا من الكوميديا السينمائية الأمريكية منذ نهاية الستينيات حتى لحظتنا هذه، وبالتبعية ترك هذا أثره فى أفلام كوميديا الصديقين.

ظهرت ثنائيات كوميدية جمعت بين أطياف مختلفة؛ منها المُعبِّر عن هذا التحوّل، ومنها المُشتاق للمرحلة الأقدم الأكثر براءة. أخطر ثنائي مثَّل هذا التحوّل كان ثنائي ريتشارد شيتش مارتن وتومى شونج، اللذين ظهرا لأول مرة فى فيلمهما Up in Smoke أو وسط الدخان (1978)، ليجسّدا الشخصيتين اللتين سيُعرّفا بها لاحقًا: زوج من المساطيل لا يتوقفان عن تدخين الحشيش، وشم الكوكايين، ثم إلقاء النكات عن تبعات نشوة المخدرات، ورغم كون الأمر وقتها سخرية من ظاهرة “الهيبز” التى ازدهرت من نهاية الستينيات إلى بداية الثمانينيات، وما صاحبها من “ثقافة مضادة” عارضت القيم الثقافية والجمالية والأخلاقية السائدة؛ فإن التركيبة الجديدة أصابت نجاحًا جماهيريًا واسعًا، وقادت إلى 5 أفلام إضافية لهذا الثنائى ما بين 1981 و1985، وفيلم كارتونى سنة 2013، بل أسّست اتجاهًا فى كوميديا الصديقين عُرف بـThe Stoner Comedy أو كوميديا المسطول؛ التى تقوم غالبًا على زوج من الرجال، يتناولان المخدرات طوال الوقت، ويصبحان فى حالة سعادة واستخفاف دائمين، مما يدفعهما لعدد من المواقف الكوميدية، مع احتكاكهما بظروف جادة تحيط بهما. صنعت هذه الكوميديا جماهيرية عاصفة لشخصية المسطول، وعرضت بانطلاق مشاهد تعاطى مخدرات لا تنتهى، وروّجت لهذه الحالة “اللطيفة” التى تصبح فيها عندما تتعرض للمخدِّر؛ فى تحلّل أخلاقى كامل لا يقدم نهاية رادعة لهذا السلوك، أو درسًا قيميًا يحض على مضاره!

يفلت من سمات هذه المرحلة كوميديا الثنائى تيم كونواى ودون نوتس، وكلاهما كوميديان أحرز نجاحًا كبيرًا فى التلفزيون، وبرع فى كوميديا Farce؛ أو التهريج القائم على تغيير ملامح الوجه ونبرة الصوت، والمواقف التى يتأتى فيها الضحك من المبالغة والعبثية، وظهرا كثنائى فى 4 أفلام فى الفترة ما بين 1975 و1981، ليقدما كوميديا شديدة البراءة، بها حنين لطفولة “الماضي” وقيمه الأخلاقية. فعلى الرغم من قيامهما بدورى مجرمين فى فيلمى The Apple Dumpling Gang أو عصابة فطيرة التفاح (1975)، وThe Apple Dumpling Gang Rides Again أو عصابة فطيرة التفاح تنطلق من جديد (1979)، فإنهما كانا على درجة من التهذب جعلتهما متعة عائلية فى زمن عزّت فيه هذه النوعية، ولا غرو؛ لأن أفلامهما نشأت فى رحم شركة ديزنى التى احترفت الأفلام العائلية المحافِظة آنذاك.

ومن الثنائيات التى جمعت بين الاتجاهين ثنائي چاك ليمون ووالتر ماثاو، وكلاهما ممثل ماهر فى الأداء الكوميدى والدرامي سواء بسواء، ليقدما 9 أفلام فى فترة عريضة امتدت من 1968 إلى 1998. فى أفلامهما الأولى مثل The Fortune Cookie أو كعكة الحظ (1966)، وThe Odd Couple أو الثنائى الغريب (1968)، نجد ظلالًا وأصداء من التركيبات القديمة للثنائي الضاحك؛ حيث يلعب ماثاو الرجل الطويل النَكِد الخبيث، ويلعب ليمون الرجل القصير اللطيف المسالم، لينتج عن اجتماعهما مفارقة شكلية وسلوكية ناجحة. فى أفلامهما الأحدث مثل Grumpy Old Men أو عجوزان متذمران (1993)، وجزءه الثانى Grumpier Old Men أو عجوزان أكثر تذمرًا (1995)، يبديا خارج هذه المنظومة كجارين متحاربين لكن متساويين فى القدرة على ارتكاب المقالب، خاصة عند تنافسهما على الفوز بجارة جميلة سكنت بجوارهما؛ وفى هذا الفيلم نلاحظ الإفراط فى الشتائم الجنسية، والمفارقات اللفظية البذيئة.

خامسًا، مرحبًا بالأكشن والعنف

التقى فيلم الأكشن والتشويق بنوعية كوميديا الصديقين على نحو متلازم منذ سنة 1974، والتى ظهر فيها فيلم Freebie and the Bean أو فريدى وذا بين، بطولة چيمس كان وآلان أركين، وفيلم Busting أو إعتقال، بطولة إليوت جولد وروبرت بليك، اللذان وضعا معًا – دون إتفاق مسبق – حجر الأساس فى تركيبة ما ستعشقها السينما الأمريكية، وتحقِّق معها نجاحًا ساحقًا طيلة عقود لاحقة؛ ليولد فيلم الصديقين الكوميدى من جديد، لكن فى إطار بوليسى عنيف، حيث المعادلة لا تتغيّر: يجتمع شرطيان، أحدهما حاد الطباع مع آخر هادئ، فى حالة “انجذاب فرقاء” تبدأ بهما أعداء ثم تنتهى بهما أصدقاء، وذلك من خلال الرحلة التى يستغرقها الفيلم، والذى يدور – فى الأغلب – حول صراعهما ضد قوة شريرة (سفاح، عصابة، ضباط أو سياسيين فاسدين..)، وينتهى بانتصارهما.

اختلفت أفلام هذا النوع نسبيًا، فمثلًا تكرّرت المعادلة ذاتها، لكن دون أن يكون البطلان شرطيين، فى أفلام الثنائى ريتشارد برايور وچين وايلدر، سواء Silver Streak أو القطار الفضى (1976)، وStir Crazy أو جنون مطلق (1980)، وSee No Evil, Hear No Evil أو لا أرى شرًا ولا أسمع شرًا (1989)، حيث التناقض المثير للضحك بين زوج مغفلين، لكن فى إطار تشويقى يحوى حبكة بوليسية لقاتل لابد من الإيقاع به، أو سجن لابد من الهروب منه. كان الجمع بين ممثل أسود مثل برايور، وأبيض مثل وايلدر، فى ثنائية كوميدية تشويقية أمرًا نادرًا حينذاك بالنسبة للسينما الأمريكية. نعم، ظهر ذو البشرة السمراء وذو البشرة البيضاء فى أفلام سابقة، مثل سيدنى بواتييه وتونى كيرتس فى The Defiant Ones أو المتحديان (1958)، أو سيدنى بواتييه ورود ستايجر فى In the Heat of the Night أو فى لهيب الليل (1967)، لكن ليس فى فيلم بوليسي كوميدي حوّلهما إلى ثنائي استمر فى عدة أفلام تالية.

بدأ الأمر ينضج أكثر إلى صورته المميَّزة فى فيلم Hrs. 48 أو 48 ساعة (1982) من بطولة إيدى ميرفى ونك نولتى. هنا البطل، نولتى، شرطي أبيض البشرة، حاد وقليل الكلام، يسعى بصحبة ميرفى، المجرم أسود البشرة الطريف والثرثار، للإيقاع بتنظيم عصابي؛ فى ثنائية الأب العصبي والابن الشقي مُجددًا، وعبر تركيبة بوليسية كوميدية، أصاب الفيلم نجاحًا مشهودًا قاد إلى جزء ثانى Another 48 Hrs. أو 48 ساعة أخرى (1990)، حيث البطولة لعنوان السلسلة وليس اسمي البطلين؛ الأمر الذى سيسبقهم إليه Lethal Weapon أو السلاح القاتل، وهو الفيلم الذى سيمثِّل ذروة هذا النوع، ويصل به إلى أوج نجاحه ماديًا فى الثمانينيات.

السلاح القاتل هو فيلم أكشن وتشويق ظهر سنة 1987، من بطولة ميل جيبسون ودانى جلوڤر، حيث يلعب الأول دور شرطي أبيض انتحاري يعانى ألم قتل زوجته، والثانى شرطي أسود متزن يعيش وسط أسرته، وكيف يتحدا لقتال إحدى العصابات فى إطار من العنف المستعر، دون أن يتوقفا عن الشجار مع بعضهما البعض طوال الوقت. حقّق الفيلم نجاحًا مدويًا، وتجاوزت إيرادته 120 مليون دولار، ورغم أن نبرته كانت جادة، فإنها جنحت للكوميديا المبتهجة خلال أجزاءه الثلاثة التالية، المنتجة أعوام 1989 و1992 و1998، ليتم استغلال مفارقة الرجل الأهوج الفوضوى، ونقيضه الرزين المنظم، فى إطار أكشن كوميدى حوّل الأمر لصورة أيقونية تم نَسْخها فى عدد وافر من الأفلام طيلة الثمانينيات، والتسعينيات، وما بعدها..

شملتْ هذه الأفلام أعمالًا فردية، وأخرى مسلسلة، مثل: Stakeout أو مراقبة (فيلمين عام 1987 و1993) من بطولة ريتشارد درايفوس وإيميلو إستيڤنز، حيث شرطي كبير سنًا وشرطي أصغر سنًا. K-9 أو كيه-9 (3 أفلام بين 1989 و2000) من بطولة چيمس بيلوشى عن صداقة بين شرطى وكلب. Bad Boys أو فتيان سيئون (فيلمين عام 1995 و2003) من بطولة ويل سميث ومارتن لورانس عن شرطى وسيم جاد، وزميله الأقل وسامة وجدية؛ وربما كانت هذه هي أول سلسلة “صديقين” كوميدية بوليسية فى تاريخ السينما الأمريكية يتم إنتاجها بعشرات الملايين وتقوم على بطلين سود البشرة. Men in Black أو رجال فى ملابس سوداء (3 أفلام بين 1997 و2012) من بطولة النجم الأسمر ويل سميث أيضًا، والنجم الأبيض تومى لى چونس، والقائمة على شرطيين أحدهما شاب هازل، والآخر ناضج جاد، يعملان فى جهاز سرى يتتبع كائنات فضائية مجرمة؛ مما أدخل عنصر الخيال العلمى فى السلسلة بجوار الكوميديا والأكشن (قاربت إيرادات الفيلم الأول 590 مليون دولار؛ ليصبح أنجح فيلم كوميديا صديقين إلى الآن). Rush Hour أو ساعة الزحام (3 أفلام بين 1998 و2007) من بطولة چاكى شان وكريس تاكر، وفيها يجتمع شرطي آسيوي جاد ومحنك فى القتال، مع شرطي أمريكى أسمر أبله لا يكف عن الكلام، لمحاربة بعض العصابات (جملة الدعاية كانت: “أسرع يد فى الشرق، مع أسرع لسان فى الغرب”!). ثم Shanghai أو شنغهاى (Shanghai Noon أو ظهيرة شنغهاى عام 2000، وShanghai Knights أو ليالي شنغهاى عام 2003) بطولة چاكى شان أيضًا وأوين ويلسون، التى قامت على مفارقة السلسلة السابقة، لكن مع استبدال البطل الأسمر ببطل أشقر، ورجوع الأحداث زمنيًا إلى نهايات القرن التاسع عشر.

ستلحظ أن التركيبة القديمة لاتزال فعّالة؛ رغم وجودها وراء أدخنة القنابل وضجيج الرصاص، وعنصر “العِرْق” (أصحاب الأصول الإفريقية، أو الآسيوية، أو الأوروبية..) صار جزءًا من مفارقة البطلين ومنبعًا للضحكات، وفكرة تكامل ذوى الأصول المختلفة فى المجتمع الأمريكي معروضة بشكل واضح، وأمور مثل البذاءة اللفظية موجودة على نحو غزير مُقَدم لذاته أحيانًا.

سادسًا، الصديقان فى الوحل!

فى العقد الأخير، رغم تنوع أفلام كوميديا الصديقين الفردية، التى لا تتحوّل إلى سلاسل، ما بين أكشن خيال علمي (I Spy أو أنا أتجسس – 2002)، أكشن فانتازى (Bulletproof Monk أو راهب مضاد للرصاص 2003)، أكشن كوميدي (The Dukes of Hazzard أو أدواق هازرد – 2005)، بوليسي (Miss Congeniality 2 أو ملكة الدماثة – الجزء الثاني –  2005)، كوميديا سوداء (The Matador أو مصارع الثيران – 2005)، رومانسي (Wedding Crashers أو مقتحمى حفلات الزفاف – 2005)، غنائى (Soul Men أو رجال السول – 2008)، وكوميدى بحت (Role Models أو أمثلة عليا – 2008)—فإن كوميديا الصديقين التى نالت كونها “سلسلة” كانت هارولد وكومار؛ وهذا وحده كفيل بإثارة التساؤلات عن ذوق المشاهد الأمريكي مؤخرًا، مع وضع محتوى هذه السلسلة فى عين الاعتبار.

هارولد وكومار هى سلسلة من 3 أجزاء (إنتاج أعوام 2004، 2008، 2011)، من بطولة چون شو وكال بين، وتدور عن صديقين أمريكيين؛ الأول هارولد ذو الأصل الكوري، والثاني كومار ذو الأصل الهندي. مبدئيًا، بدت السلسلة متميزة ببطليها ذي العرقين المختلفين، واللذين لم يجتمعا كبطلين فى كوميديا “صديقين” هوليوودية سابقًا، مما بشّر بمفارقات عن اصطدام الموروثات الثقافية لكلا منهما، وأوحت إعلانات الفيلم الأول أنه سخرية من هوس الشك عند الأمريكان تجاه ذوى الأعراق الشرقية بعد واقعة 11 سبتمبر 2001. لكن للأسف لم تقم السلسلة على هذا أو ذاك، وإنما استغلّت الشخصيتين فقط كشابين أمريكيين يعشقا المخدرات والجنس والسباب، ويتورطا فى كل مرة بمجموعة مشاكل تقوم على خط حبكة رفيع للغاية. اكتظت أفلام هذا الثنائى، كما لم تكتظ أى سلسلة “صديقين” كوميدية من قبل، بأطنان من مشاهد تعاطى المخدرات، والعرى الكامل، والبذاءة اللفظية، وتدنيس المقدسات، على نحو مراهق ومُمرِض. فى هذه الأفلام، يبدو تناول المخدرات أمرًا عاديًا جدًا، والانحراف الجنسى طريقًا للمتعة، ستجد بول وغائط وسوائل منوية فى الطريق، وكلمة “مضاجعة”، كلمة السباب الرئيسية فى العامية الأمريكية، منطوقة كل خمس ثوانى تقريبًا. أى أن كوميديا الصديقين انتهت إلى بذاءة مرعبة ومجانية، والأسوأ من ذلك أن يعرض الجزء الثالث من السلسلة، A Very Harold & Kumar Christmas أو كريسماس هارولد وكومار جدًا، حبيبة كومار تطلب منه ألا يتوقف عن تدخين الحشيش، وأطفال يتعاطون الكوكايين، والشخصية اليهودية هى الأنقى والأروع والشيء الوحيد السوى وسط كل ذلك! صحيح أن البذاءة صارت سمة أساسية فى أغلب كوميديات هوليوود المعاصرة، وصحيح أن هذه السلسلة تنتمى لنوعية Stoner Comedy السالفة الذكر، لكن أن يحصد هذا الثنائي الجديد إيرادات تدفع لتفريخ فيلم ثان وثالث، فهذا يثير التساؤل، إن لم يكن الأسى، بخصوص رغبة المشاهد الأمريكي فى استقاء متعته من بالوعات مجارى صريحة كهذه!

***

إذن، من الضحك البريء والغناء الرومانسي، إلى العنف الدموي والتمتع بالمخدرات، أكّد تطور سلاسل “كوميديا الصديقين” تحولات فى مزاج مجتمعي وصناعة سينما. وكما تظل المفارقة بين الصديقين معبِّرة عن اختلافهما وتكاملهما معًا، ستظل أفلام “كوميديا الصديقين” معبِّرة عن مفارقات فى الثقافة الأمريكية، باعتبارها واحدة من أطول الأنواع عمرًا، وأكثرها قدرة على التلوّن والبقاء.

……………………..

*نُشرت فى مجلة الثقافة الجديدة / العدد 273 / يونيو 2013.  

 

 

مقالات من نفس القسم