تذكرة زيارة

محمد أبو الدهب
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد أبوالدهب

   سمعتُه يناديني، على السلّم الداخلي لقصر الثقافة، فالتفتُّ وابتسمت وانتظرت. صعدنا صامتَين إلى الطابق الثالث، حيث المكتبة التي تُعقد فيها ندوة نادي الأدب. وكنت أتلظّى صبرًا من أجل هذا الحدث، الذي لا يتكرّر إلا يوم الإثنين من كل أسبوع. عند باب المكتبة، توقّف، وهزّ رأسه، وبسط كفَّه، وقال، بطريقةٍ ذكّرتْني بباشوات أفلام الأبيض والأسود: “كويس إنك موجود.. معايا قصيدة جديدة”. وشِلتُ أنا الهمَّ فجأة. أضاف: “إنت بتفهم رغم إنك صغير”. كنا في الصيف، وكنت أفضّل الجلوس بالقرب من الشبابيك الشرقية، المطلّة على كليّة الحقوق القديمة، وكانت مدرسة ثانوية للبنين سابقا؛ لأني أستنيم للطشةِ هواء أول الليل المرسولة من ناحيتها، فيزداد تعلُّقي الصيفيّ بالتواجد في المكان.

**

   كلما رأيته، بابتسامته المُريبة ونظرته المُقرِّعة، سألت نفسي: “ما الذي أورطهُ في كتابة الشعر؟”. كنت أريد أن أعرف شيئا عن الشرارة الأولى. هو موظّف مثالي على الدرجة الثالثة في مديرية الريّ. يرتدي نوع الملابس الذي امتنعَ الناس عن ارتدائه قبل عشرين عاما، ولا يهتمّ بالتناسق بين الألوان، ومع ذلك يبدو أنيقا على نحوٍ من الأنحاء. يقضم السيجارة قضمًا. ولا يكتب الشعر إلا بالعامّية. يثق بأن العاميّة تناسب البجاحة التي يفيض بها العالَم. يقول ذلك كثيرًا. ويتكلم بغيظ واستنفار، إذا سنحت مناسبة الكلام، عن سيدنا (عثمان بن عفّان)، كما لو أن بينهما خلافات عائلية متجذّرة! وشغلني هذا الموضوع عدّة أيام بعد مشاركتي في تشييع جنازته، أتساءل إن كان ذلك تسبّب له ببعض المضايقات في قبره. خصوصا أني، في عامه الأخير، قبل أن يسقط ميتًا، مستجيبًا لهبوطٍ مفاجئ في دورته الدموية، بدأت أراسل مجلة (الأدب الإسلامي) مُختارًا أن أظلّ كاتبا للقصة القصيرة دون ارتكاب شطحات تؤدّي إلى دخولي النار!

**

   كان هو فاز، منذ بضعة أسابيع، برئاسة نادي الأدب، في انتخابات حرّة نزيهة، رغم التربيطات وبعض المؤامرات الصغيرة. وأشرفَ عليها مدير الإدارة الثقافية شخصيا، وكنت مضطربًا وخائفًا في حضرة هذا المُشرِف، متهيّبا خطورة الموقف الذي أدخلتُ نفسي فيه، دون عِلم أحد من عائلتي، فقد كنت أحدثَ عضوٍ عامل بالجمعية العمومية، وصار لي صوت معدود.

   وكان كلما وصل واحدٌ من مرتادي الندوة هزّ رأسه، وبسط كفّه، وقال بطريقةٍ أعادت تذكيري بباشوات الأبيض والأسود: “كويس إنك موجود.. معايا قصيدة جديدة”.

**

  بعد سنوات كثيرة، وكان مضَى على موته أيام، ذهبنا في وفدٍ رسميّ من أعضاء نادي الأدب إلى شقته في مساكن الموالح الحكومية، لنقدّم إلى عائلته نسخة من ديوانه الذي فرحَ بمشاهدة بروفته قبل موته. كان ديوانه الثاني والأخير. تعشّمنا أن يواسي ذلك أمه وزوجته وأشقاءه، ولم يكن له أبناء. رحنا نتقافز، كلٌّ حسب وزنه ورشاقته، على قوالب طوب أحمر، موضوعة في الشارع بنظامٍ معيّن لتفادي مياه الصرف الصحّي، إلى أن بلغنا مدخل العمارة، وقرأنا على حائط المدخل “هطلّع عين أهلك يا شلضم لو عملتها تاني”، وصعدنا إلى الطابق الأخير. الشقة صغيرة، ومكدّسة بالبشر الذين هم سكانها الأصليّون بلا ضيوف أو دخلاء، ومعظمهم يتحرّكون باستمرار بين الحجرتين والمطبخ والحمّام. وقفنا مكسوفين في طابور غير منتظم، نفكر بحجم الخطأ الذي ارتكبناه. قادنا شقيقه إلى حجرة النوم، التي بدا أنها أكثر جاهزية لاستقبالنا، وكنا صافحنا أمه الجالسة في جلباب حدادها، على كرسي خشبي في الطرقة بين الغرفتين، وربما كانت تُستعمَل كصالة للشقة. ورأيت في عينيها، تحت النظّارة، حزنًا عليه لن تتخلّص منه إلا بالذهاب إليه. تربّعنا متزاحمين فوق مرتبة السرير، ووضع شقيقه جزءًا من مؤخّرته على حرف السرير، ليرحِّب بنا، عارضًا قفاه الّلحيم في وجوهنا، وكان يدور برأسه إلى الخلف عندما يكلّمنا، مراعاة للأصول، لكن عنقه السمين لم يسمح لعينيه إلا بالنظر إليّ وحدي، نظرةً أقرب إلى غمزة، وهو رضي بالأمر الواقع، فصار يوجّه كلامه لي نيابة عن الحاضرين، وأنا مرتبك. ولا بُدّ أن هذا الوضع كان يؤلم فقرات رقبته بين دقيقة وأخرى، فيستسلم، ويعيد رأسه إلى الأمام، مواصلا الكلام والترحيب، متفحّصًا فردة الشبشب المقلوبة، تحت الكرسي الذي تجلس عليه الحاجّة في الصالة، على بُعد مترين أو أقل من السرير. وكنا متفهِّمين تمامًا. قال إن المرحوم كبير العائلة من يومه، ورفعَ رؤوسهم جميعا إلى السماء، خاصة بعد نشر صورته في جريدة المحافظة أيام انتخابات قصر الثقافة. وقال إنه ذهب مرة إلى مستشفى الجامعة، ليزور زميله مبيّض المحارة، وكانوا أجروا له عملية (عِرق في الخصية). أوقفه رجال الأمن على البوابة، وطلبوا منه أن يقطع تذكرة زيارة أوّلا، ولما أخبرهم أنه شقيق رئيس نادي الأدب، سمحوا له بالمرور فورًا.

   بعد شهور، دخل علينا المكتبة، وكنت نسيت أنه شقيق الشاعر. انتظر حتى فرغنا من الندوة، نزل معنا إلى المقهى، وسأل عن أرباح مبيعات كتاب المرحوم، التي هي من حق الورثة.

 

**

   قرأ قصيدته الجديدة، بحنجرته المدخِّنة، وأدائه المُحتجّ. فهمتُ أنا أنه غاضب من الله قليلا لأنه جعل في هذه الحياة الدنيا أناسًا أغنياء وآخرين فقراء. وأعلن في آخِر القصيدة أنه سيحافظ على غضبه القليل لو صار غنيا ما دام هناك فقراء. وطُلب مني إبداء رأيي، فقلت أشياء كثيرة لا أعرف أنها موجودة بالفعل في النّص، وأذكر أنني أشرتُ إلى (حِدّة الإحساس بالفوارق الطبقية عند الشاعر). وهو كان يرمقني ويبتسم، ويقضم السيجارة.

   ذهبنا كالمعتاد لتمديد الندوة في المقهى وراء القصر. جلسنا ننكّت ونضحك إلى أن جاءت المشاريب. رفع كوب قهوته، واستدار ناحيتي، وكنت أجلس إلى يساره. سألني: “شُفت أنا كاتب إيه عن عثمان؟”. فوجئت وانتبهت، وأحسست بغبائي إذ اختارني من دون الجميع، ومع ذلك استفسرت بسرعة: “عثمان مين؟”. أعاد الكوب إلى المنضدة، ورفع ذراعه معترضًا: “إبن عفّان، صح النوم!”. كان ذلك أول عِلمي بمشاكله مع سيدنا (عثمان بن عفان)، ولم يفلح أحدنا في تسويتها بينهما.

………………..

*من كتاب قصصي قيد النشر بعنوان (أدركتْه حِرفةُ الأدب)

مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

ثقوب