بعد الكتابة عن تجربتي الشخصية مع مرض الاكتئاب في مقال سابق، كانت الكتابة مصدر لمشاعر مختلطة، منها الفخر، السيطرة، وحتى التعاطف والشفقة، أكون بحاجة إليهم في بعض الأوقات، مهما ادعيت العكس. وكأنها بكرة خيط طويلة أمسكت بطرفها، فأصبحت تجبرني على المزيد من سحب الخيط، واستعادة لحظات الألم في الحياة، اللحظات التي تغير بعمق بداخل الإنسان.
بدأ الأمر بوخزات خفيفة في الحلق، تشبه آلام الاحتقان العادي، حاولت تجاهل الأمر، والاعتماد على المسكنات والمشروبات الدافئة، لكن الألم لم يتراجع بل تفاقم حتى أنه منعني من الابتلاع، كنت اذيب أقراص المسكنات في شربة ماء صغير في قاع الكوب، واشربها على مراحل بالبكاء والصراخ من الألم.
تعددت الزيارات للأطباء والتشخيصات بين، احتقان في الزور، التهاب في الحلق، هيربس في الحلق، وتنوعت المضادات الحيوية والمسكنات والألم لا يتراجع، ولا يتوقفى عن نهش حلقي؛ حتى أن وزني بدأ في التراجع بشدة، كيلو، إثنين، خمسة، عشرة، عشرين كيلو.
.
أكثر ما كان يؤلمني أن الأطباء لا يشعرون بما أشعر به، يتعاملون مع الأمر ببساطة، وكل منهم يطلب مني أن أفتح فمي ولا يدرك أحدهم أن فتح الفم ووضع خافض اللسان حتى يحتك بمنطقة الألم كانت لحظة العذاب الكبرى. في لحظة بكاء، قال لي أحدهم “بلاش دراما، الدراما مش هتفيد”.
أكره الأطباء، لا يعرفون الفارق بين التراجيديا والدراما، ولا يمكنهم اختيار المرادفات الإنسانية والعاطفية المناسبة، قلوبهم حادة تشبه مشارطهم المعقمة، يشخصون المرض دون تعاطف مع المريض، دقائق الكشف لا تحتمل البكاء، والمرضى ليسوا سوى أرقام، على أجهزة الكمبيوتر، وأنا أكثر من مجرد رقم، والعالم حولي ليس سوى مسرح كبير، هل يمكن للمسرح أن يكون بدون دراما.
الأكثر ألما، أن من حولي لم يشعروا بألمي أيضا، كانوا يظنون أن محاولتهم المستمرة في الضغط علي لتناول الطعام، أو المشروبات الدافئة، ستساعدني على تخطي الألم، لم يكن أحد في مكاني، لأن الألم في نهاية الأمر يتحمله الإنسان وحيدا، عاريا إلا منه. كما يقول ديفيد لوبرتون في كتابه تجربة الألم، إن الألم لا يقبل البرهنة، بل يعاش كتجربة، وقوة تأثيره خاصة بالشخص الذي يحس به، الشخص وحده يعرف مدى ألمه، وهو وحده ضحية العذاب الأليم.
بداخلي كان هناك يقين إنني أعاني من سرطان الحنجرة، خاصة مع تأكيدات الصديق العزيز جوجل على تشابه كل الأعراض مع كل ما أشعر به. استمرت الرحلة بين العيادات، أخيرا طلب الطبيب منظارا على الحنجرة. أمام خرطوم المنظار عدت للبكاء من جديد، لكن الطبيبة كانت متعاطفة، واعتذرت عن الألم المضاعف الذي سببته لي، ولم تسخر مني وأنا أجفف دموعي في طرف الشال الذي أرتديه، أخبرتني أن هناك التهاب ضخم بالحنجرة، نتيجة لفيروس نادر لا يتوحش إلا في حالة انهيار المناعة بالكامل، وربما يستدعي الأمر حجزي بالعناية المركزة.
بعد التشخيص، بدأت رحلة جديدة من البحث عن طبيب مناعة، ليعرف اسباب انهيار المناعة بالكامل، كل يوم يمر في انتظار موعد الكشف، كان الألم يقتلني، يتكثف في حلقي مثل نقاط من حمض حارق تنسكب على جرح مفتوح. لم أعد بحاجة إلى كلمات المواساة، أو مشاعر التعاطف، أنا بحاجة إلى التخلص من كرة الألم النابضة في حلقي مثل قنبلة صغيرة على وشك الانفجار.
لم يكن هناك مفر من زيارة طبيب الأورام، وكان هاجس سرطان الحنجرة، يتضخم بداخلي، لكن طبيب الأورام، بعد نظرة على نتيجة المنظار، لم يقل سوى جملة واحدة “جسمك بياكل نفسه” وجدتها جملة شعرية جدا، ومحاولات تحويلها للفصحى، أفقدها جزء كبير من شعريتها. أفكر ما هو الجسم سوى صورتنا المتخيلة عن أنفسنا، أو الهيئة التي نرغب أن يعرفنا بها الناس. أتخيل كيف لجسمي أن يأكل نفسه، كيف يتمدد ذراع، ليلتهم وجه، أو تستطيل ساق لتأكل صدر، أو تتآكل أصابعي حتى تتلاشى تماما، أو يتحول وجه لفم كبير يلتهمني كلي وينتهي الأمر.
احتمالات لا نهائية لأعضائي وهي تتلاشى أو تلتهم بعضها البعض، تماما مثل احتمالات القصيدة أو اللوحة، لكني الآن لا أختار النهاية بنفسي، يعاملني جسدي كعدو، وما يفترض أن أحتمي به، يصبح هو عدوي الأول، ثقوب الجسد التي تخلفها مشارط الأطباء وآلاتهم، ليست سوى ثغرات كامنة تنمو فيها بذور الألم من جديد.
أخبرني طبيب الأورام أن علاجي عند طبيب متخصص في الروماتيزم وأمراض المناعة، لم أفهم في بداية الأمر ما علاقة آلام الحلق بطبيب الروماتيزم. لكنه كان الأمل الوحيد، بعدما سقطت في هوة الألم وفقدت أكثر من ثلث وزني. طلب الطبيب قائمة من 44 بندا، تتنوع بين الآشعة والتحاليل والسونارات والصبغات، لكن اللحظة الأصعب كانت عندما وقعت عيني على تحليل (hiv) أو تحليل فيروس نقص المناعة المعروف (بالإيدز) هنا أصبح سرطان الحنجرة، هو الأمنية التي أتمناها، ليلتان بالكامل من كل الهواجس المشتعلة، والأفكار المتداولة عن مريض الإيدز ونبذه، فكرت في بناتي، كيف سأتعامل معهن، وقررت أن أنهي حياتي بالكامل في حال كانت النتيجة إيجابية. عند استلام التحاليل لم أهتم بأمر كل الأوراق في يدي، لكني سألت مباشرة عن نتيجة تحليل (hiv) واخبرني الفني أن النتيجة سلبية.
في نهاية الأمر وفي عيادة الطبيب، كانت كلمته الحاسمة: (lupus) أو ذئبة حمراء، ولأني لم أتوقف عن البحث على جوجل لأسابيع طويلة، كنت قد مررت بالذئبة وأعراضها، وأسبابها، كان الأمر بالطبع أهون من الإيدز، وسرطان الحنجرة، لكنه كان سيئا أيضا. حاول الطبيب شرح الأمر لي، وقال أن الذئبة مرض مناعي له أنواع مختلفة، أحدهم يؤثر على الرئة، وآخر يؤثر على الكلى، ونوع أخير يؤثر على الجهاز المناعي للجسم، ويجعله يهاجم نفسه، وأجهزته، بدلا من الدفاع عنه، وهو النوع الخاص بي. وأخبرني ببساطة أنه مرض مزمن، والعلاج ليس سوى للسيطرة على المرض ومنع تفاقم الأعراض والمضاعفات.
خرجت من العيادة بقائمة جديدة من التحاليل التي سأكررها دوريا كل شهرين إلى ثلاثة أشهر، بالإضافة إلى روشتة مزدحمة من الأمام والخلف، ب 14 نوع مختلف من العلاجات اليومية، تتنوع بين الكورتيزون، وأدوية المفاصل، ومضادات الالتهاب، والفيتامينات، وأدوية المعدة.
كانت أصعب اللحظات، هي اللحظات التي أنهض فيها صباحا، لأضع قائمة الدواء أمامي، وأفرغ الكبسولات في راحة يدي، وأبتلعهم دفعة واحدة، يليها نوبة بكاء طويلة.
شهور من الحزن والاكتئاب والصلاة، وعدم الرغبة في الحياة ولا الكتابة ولا العمل، أكوم شرائط الأقراص الفارغة أمامي لتشكل عملا فنيا مفاهيميا، لا أحد يدرك أهميته سواي، وجرعات المخدر لا تمحو الألم، فقط يربض في ركن سحيق من الذاكرة، لينمو وينمو، ثم يتسلل لينهشني من جديد، مثل قطيع غادر من الضباع.
لشهور أصبح الألم هو الإطار الكبير من حولي، الذي أتموضع بداخله قهرا، لأبدو كلوحة توضيحية، يعلقها الطبيب داخل عيادته. أخبرتني صديقة أن الألم جعلني أضيء، لم أكن أهتم وقتها أن اضيء، كنت أرغب في الخلاص، الجميع يقولون “جيد فقدت كيلو جرامات زائدة من وزنك” 20 كيلو فقدتهم لأصبح في الوزن المثالي الذي تمنيته، لكني كنت أتمنى استعادة سحب روحي الضاحكة، التي تبخرت تماما مع الكيلو جرامات المفقودة.
بعد مرور المراحل الأولى لاكتشاف المرض، والتعايش مع فكرة المرض المزمن، أحاول استعادة، لحظات البداية، ولا يمكنني بمنتهى الحيادية أن أفصل بين الحالة النفسية السيئة وتوحش مرض الذئبة، الذي كان كامنا بداخلي من سنوات، لكن عند تدهور الحالة النفسية، تنهار مناعة الجسم ودفاعاته، ليسيطر المرض. كنت بحاجة إلى تفكيك معنى الألم وتشريحه، كأنه عدو قوي، أبحث عن طريقة لفهم استراتيجياته، ومن ثم التغلب عليه، سيطر المرض علي تماما وعلى تفاعلي مع من حولي، بالإضافة إلى الآثار الجانبية للدواء التي أفقدتني رغبتي في التواصل مع من حولي، وجعلتني أكثر عصبية، وجعلت رؤيتي مشوشة، وأصابعي مرتعشة، حتى اعتدت الأمر.
على لوحة كبيرة بجوار مكان كتابتي، بدأت ألصق كل ما تطوله يدي، وأشعر أنه يوثق لحالتي المرضية، لصقت الروشتات القديمة، شرائط الدواء الفارغة، قصاصات من كتب أو جرائد قرأتها، بقايا ورود، وأوراق شجر جمعتها في لحظات تجلي، كتابات شخصية لي ألعن فيها كل شيء وأي شيء، قصاصات من ملابسي، بصمات أصابعي ووجهي، أفكاري عن الحياة والحب والجنس والإله. كانت اللوحة مكونة من طبقات تتجدد كل يوم، لا أخشى من لصق أو تدوين اي شيء على سطحها، وكأنها تأريخ لتلك الفترة العصيبة في حياتي. كنت أدون الألم الجسدي والنفسي على ذلك السطح، وكأنه كولاج لا يدركه سواي. عندما يسألني زوجي، أو بناتي، لماذا أخفيت طبقة بطبقة جديدة، قائلين “كانت اللوحة جميلة قبل تلك الطبقة الأخيرة” كنت أفكر أنني لست بحاجة إلى لوحات جميلة، اللوحة هنا جوهرها ليس التعبير الجمالي، ولكن جوهرها هو العملية المستمرة نفسها، اختيار الملصقات، والتلوين، والتفكير، ومراقبة نفسي أثناء العمل، ومراقبة الأشكال والألوان التي أضعها على السطح ودلالاتها.
بعد ستة أشهر من بداية الألم، وفي لحظة تراجيدية كبرى، قررت دهان اللوحة بالكامل بكل محتوياتها وملصقاتها، باللون الأسود. بالتزامن مع اعتيادي التام على الآثار الجانبية، التي اكتشفت تلاشيها نهائيا، حتى لحظات ابتلاع الأقراص اليومية، أصبحت أكثر من اعتيادية، أفعلها كما أرتدي ملابسي، أو أربط رباط الحذاء، بلامبالاة ولا تفكير سلبي أو إيجابي. أدركت أن عقلي الباطن يتصرف، ويترجم مشاعري من جديد على اللوحة، عندما غطيت اللوحة بالكامل باللون الأسود، ربما كنت أنهي تلك المرحلة المؤلمة، من حياتي، وأقرر أنه “no more sadness، no more tears”
في تلك المرحلة، تأكدت أن المشاعر الطيبة، بالإضافة إلى الفن هم العزاء الأكبر الذي أصدق به، وأحتاجه. اللوحات، الكتب، الأغنيات، هي الأشياء التي كانت تساندني. كتاب قصة الألم لديفيد لوبرتون، أغنية أجمل ما عندي لسعاد ماسي، لوحات فان غوخ وسيرته، لوحات خوان ميرو، التكوينات الخاصة بالفنان كيرت شويترز، الألوان والملصقات، وفراشي الرسم وأنا أغمسها بداخل اللون، وبعد ذلك أراقب شعيراتها وأنا أحركها برتابة على راحة يدي، أثناء تنظيفها، مشروب الينسون الذي عشت عليه لشهور كاملة، حتى ذكرياتي مع الألم، أصبحت من عزاءاتي الشخصية الآن.
بدأت أدرك ماذا قصدت صديقتي عندما قالت لي أن الألم جعلني أضيء، ربما لأني أصبحت أكثر تخففا من الصراعات اليومية، ومن محاولات إثبات صحة وجهة نظري لمن حولي، تخففت حتى من يقيني الشخصي في أشياء كنت أظنها من الثوابت، اختفت النبرة الساخرة من اختلافات الآخرين، مهما بدت صغيرة أو تافهة. عندما واجهت الألم والموت عن قرب، أدركت في نهاية الأمر، أنه لا شيء مهم، ربما يحمل ذلك نظرة تشاؤمية للبعض، لكن تلك اللحظة بالنسبة لي، كانت لحظة النضج الإنساني الذي تمنيته. الآن بعد أن اعتدت المرض والعلاجات والتحاليل الدورية، تراجعت بداخلي قليلا تلك النزعة المثالية والتقبل الإنساني غير المشروط، لكنني مازلت أحاول تذكير نفسي بها، كلما اقتضى الأمر ذلك، وكلما اعتقدت أنني أملك أي نوع من الأفضلية، لأي سبب من الأسباب.