ممدوح رزق
لا تتعلق هذه الخلاصات بكتابة معينة، بل تبدو عند تتبعها كأنها أصل غريزي، تطغى هيمنته بأشكال متعددة على المراجعات العربية؛ فمن السائد على سبيل المثال احتفاء القرّاء ـ حتى داخل الأعمال التي تبدو معقدة ـ بالجوانب التي تعطي انطباعًا ـ مهما كان خادعًا ـ بالبساطة، أو سهولة الفهم، أي التي لا تستلزم بذل جهد في استيعابها. كأن النص يقوم بمهمة التلقين مثلما يجب على أي مصدر معرفة أن يفعل امتثالًا لما يفرضه المصدر الكلي الأكبر للمعرفة، وهو المقدس.
ليس هذا فحسب، بل تحاول هذه التدوينات أيضًا إخضاع ما ليس مفهومًا إلى الشروط العفوية للإدراك المباشر، أو النطاقات غير المجهِدة، التي لا تستفز أو تجادل الثوابت المضمونة. كأنها تسحب هذه المتون “العسيرة” بعيدًا عن إبهامها الشائك، الذي ربما يناوش محظورًا ما، أو يقترح تساؤلات لا يجدر طرحها إلى حالة من التجريد القسري الذي ينقّيها من الخصائص “الصعبة”، ويمنحها الطبيعة المسالمة، أي البسيطة والمفهومة الأقرب إلى درس أو عظة أو رسالة قيمية ينبغي الاستفادة منها.
يكاد معظم التقدير الموجّه إلى أعمال “نجيب محفوظ” مثلا من هؤلاء القراء يكون مندرجًا تحت ذلك الإطار ـ قد يبدو هذا بالنسبة لكاتب ما كأنه نوع من الاغتيال أو الإساءة للنص؛ إذ أن هذا الاحتفاء بالقشور التي لا تمثله، أو بالسطوح الباهتة التي يخوض مغامرته بعيدًا عنها، هذا الاحتفاء أشبه بالتعرّض للمسخ. لكنني، وإن كنت لا أنكر بالطبع على أي كاتب هذا الشعور بعدم الرضى على الأقل؛ أجد ضرورة لتخطي مثل هذه المفارقات الهزلية ليس فقط للاستمتاع بشكل من التجاوب بين عمل هذا الكاتب والقارئ، وبصرف النظر عن المستوى الذي عقدت هذه الصفقة البائسة من خلاله، وإنما للاستمتاع كذلك بتأمل الطريقة التي يستخدم بها القارئ عمل هذا الكاتب لتأكيد نفسه. لإثبات ما هو عليه؛ فالقارئ حينما يمارس هذا النوع من الاحتفاء المروِّض، أو عند انتقاد عدم الفهم لا يفعل ذلك من أجل تغيير النص بقدر ما يؤديه من أجل منح يقين جديد لوجوده الذي يسبق العمل الأدبي، لما يمثله هذا الوجود، لما سيظل يعتقده عن ذاته وعن العالم بعد الانتهاء من قراءة هذا النص.
أستعيد الآن ما قاله “رونان ماكدونالد” في كتابه “موت الناقد”:
“دفاعًا عن عالم المدونات وتفضيلها على المراجعات الأدبية المطبوعة، يدعي كتّاب الشبكة العنكبوتية أنهم يأخذون النصيحة في العادة من أشخاص يعرفونهم، ويتفقون معهم في الرؤية والذائقة. إنهم يرغبون في قراءة ما يريدون أو مشاهدة ما يعتقدون أنه سيمتعهم، لا ما يحاول الخبير إقناعهم أنه جدير بالانتباه. تتمثل المشكلة الرئيسية في هذا الموقف في كون القراء والمشاهدين يعتمدون في الحقيقة على نظام من المراجعات يعزز تحيزاتهم ونزوعاتهم ويؤكدها بدلًا من أن يتحداها ويضعها على المحك. يستطيع ناقد قدير ذو خبرة، يتمتع بقدر من الاحترام والمرجعية، أن يقنع القراء بإعطاء عمل غريب غير معروف فرصة ثانية، ليروا ما لم يستطيعوا أن يروه في المرة الأولى. هذا ببساطة واحد من الأسباب التي تجعل النقد الصحي الذي يتوجه للجمهور يقدم خدمة مفيدة للفنون: إنه يعيد النظر في الآراء المتداولة والأشكال المستهلكة ويقدم وجهة نظر عكس السائد. في هذا السياق يمكن للنقاد المتدربين، رغم الحديث عن تحجر ذائقتهم ، أن يكونوا مبشرين بالجديد. لكن عالم المدونات، المزدهي بتنامي سلطته، يعلن عن ازدرائه لثقافة المراجعات في الصحف المطبوعة وفكرة الناقد بوصفه خبيرًا”.
إننا عند تأويل ريفيوهات هؤلاء القرّاء سنلاحظ أن إشكالية “عدم الفهم” لا ترجع سوى إلى خطأ الكاتب الذي حينما أقدم على “التعقيد” فإنه ارتكب إثمًا تجاه قيمة تكفلت الكتب المقدسة بحمايتها؛ فالنص يجب أن يكون واضحًا ـ مثلما يُعتقد ـ كالآية أو الحديث النبوي، وحينما يشكو قارئ ما ـ بتفاصيل مختلفة عن قارئ آخر ـ في مراجعته من “غموض المعنى” في العمل الأدبي، أو حينما يهاجم غياب “الحكمة” التي يمكن استخلاصها من هذا العمل ـ من السهل أن يرصد أي متابع قاموسًا من التعبيرات الشائعة، والاستفهامات الاستنكارية المتكررة أو ما يُسمى بـ “السلوك اللغوي” في ريفيوهات هؤلاء القراء: “لم أحصل على أي استفادة من هذه الرواية ـ ما الغرض من كتابة كهذه؟ ـ لم أخرج من هذا الكتاب بقيمة ما” ـ حينما يفعل القارئ ذلك فكأنه بالضبط يوجه تحذيرًا استباقيًا: “ومن يستطيع أن ينحاز إلى الغموض الذي يناقض الصواب المعلن والمحصّن للخطاب الإلهي، أو يرفض وجود الحكمة التي تنطق في الوثائق العقائدية بالصدق المطلق، وتمتلك بقدرتها الغيبية الأقدار والمصائر كافة؟! .. إذا لم تكن قادرًا على إقناع الجميع بحقيقة تدعم ما يؤمنون به مثلما تفعل المتون المقدسة التي تشتمل على الحقائق الكلية الأعظم فإن هذا يمثل خللًا في علاقتك ككاتب بهذه الحقائق غير القابلة للشك، و بالتالي بالصور والتمثلات الإنسانية التي تجسّدها”.
قد تنطوي متعة الكاتب أيضًا الذي يحصل على ذخيرة ملهمة نتيجة هذه المراقبة للقارئ على متعة أخرى، وهي تأمل الفرق بين التغيّر المستمر للذائقة الأدبية الذي لا يجب التوقف عن المراهنة عليه، وبين المرجعيات التي تظل ثابتة رغم التبدّلات المنطقية، وبين الدوافع الحاكمة المشتركة بين ذائقات مختلفة، وبين سياقات المعرفة التي تحاول السيطرة على هذا التحولات، أو احتجازها ـ كسلطة ـ داخل مسارات نمطية.