تدوينات القراءة: كيف يبرر الخطاب نفسه؟ (1)

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ممدوح رزق

منذ سنوات طويلة وصلتني بالبريد رواية لكاتب عربي أتذكرها جيدًا. كانت أقرب إلى رواية "دينية" تحتشد بالاقتباسات الحكمية والأدعية والتوسلات التي يبعث بها شاب "مثلي" إلى الله راجيًا أن يغفر له "خطاياه"، وأن يخلّصه من "الدنس".

ممدوح رزق

منذ سنوات طويلة وصلتني بالبريد رواية لكاتب عربي أتذكرها جيدًا. كانت أقرب إلى رواية “دينية” تحتشد بالاقتباسات الحكمية والأدعية والتوسلات التي يبعث بها شاب “مثلي” إلى الله راجيًا أن يغفر له “خطاياه”، وأن يخلّصه من “الدنس”.

ربما كانت تمثل بالفعل النسخة المناقضة لرواية “في غرفة العنكبوت” لمحمد عبد النبي. لم أفكر حينئذ في كونها مجرد رواية ساذجة بل امتدت بي حساسيتي العدائية تجاه هذا النوع من الكتابات إلى التساؤل حول “شرعية” وجودها.. نعم.. إذا كنت ستملأ صفحات كتاب ما بنفس المحتوى الذي يمكن بعفوية خالصة أن يفرزه أي متعبّد آخر يؤمن بحقيقة شاملة لذاته كـ “إنسان آثم”، ولا يريد سوى التطهّر والتكفير عن ذنوبه فما هو المبرر للكتابة؟.. لماذا لا يكتفي بطل الرواية سواء كان شخصية واقعية أو متخيلة بالصلاة والدعاء وترديد المتون الاستغفارية والتعاويذ الشائعة دون توثيقها؟ .. لماذا لا يقاوم “الشيطان” ويسعى “للتوبة” في مكان آخر؟.

ربما كنت سأفكر في الأمر بنفس الطريقة لو كانت الرواية مجرد استعمال تقليدي لأي من الأنماط الاجتماعية أوالسياسية أوالتاريخية السهلة، لكن ما أعطى للاستفهام قوته الملحّة هو الطابع “الاستفزازي” لموضوع للرواية بالنسبة لي: نحن مذنبون في حق “المقدس” الذي طالما فكرت فيه كشيء لم يكن ليقبل أن يكون إنسانًا.. قادني هذا التفكير نحو مسار مغاير: هناك دائمًا لكل كتابة ضرورة ما لدى منتجها، ولدى قارئ لها أيضًا .. هذه الضرورة تنطوي على ما يمكن أن يُعد خصوصية غير مطالبة بأن تكون مرضية بصورة مطلقة، أي أن توزع دون عطل حصصًا مشبعة لجميع من يصادفونها. في الوقت نفسه يمكن لشخص آخر أن يكتشف مكانًا داخل هذه الكتابة يصلح لبناء جسر ما، لا يُلزم الباقين بمشاركته العبور فوقه .. ما أتحدث عنه ليس مستويين متفاوتي العمق، بل سياقين منفصلين داخل فضاء واحد .. أن تراها رواية “دينية” تحمل تلخيصًا اعتياديًا لتراث بدائي، وأن تكون رسالة من كائن لم تجذب كلماته اهتمامك إلى كائن لديه استعداد لاستقبالها كأنها تقصده تحديدًا.

ترتبط هذه الفكرة بسطور أستعيدها الآن من مقال سابق لي بجريدة “القصة” حول ما يُسمى بـ “الحشو الروائي”:

(في السنوات الماضية قرأت وكتبت عن كثير من الروايات سواء عربية أو مترجمة، معظمها سيفقد نصف حجمه تقريبًا لو أعدت كتابته، وهذا أمر ليس له علاقة بإعجابي المؤكد بهذه الروايات .. الصفحات التي بدت زائدة بالنسبة لي في كل رواية من هذه لم تكن بالوصف السهل والساذج مجرد “حشو” مسيء للعمل، وإنما مادة روائية تقع دائمًا في نطاق الاحتمال بأن هناك قارئ آخر في حاجة إليها .. هذا القارئ الآخر ليس فردًا بل ممثلا لكل من يشابهه أو يتوافق معه في هذا الاحتياج، فضلا عن أنه كذلك القارئ الوحيد الذي قد لا يشاركه أحد في ضرورة وجود هذه الصفحات، ولكنه يستحق ـ باعتباره مجردًا من حصانة الآلهة ـ أن يحصل على هذه المادة الروائية، وأقصد بهذا القارئ الوحيد الكاتب نفسه، الذي كان لديه يقين ما في لحظة معينة بأن وجوده في العالم يتطلب هذه الصفحات داخل الرواية حتى لو تبدّل موقفه من هذه الحتمية في لحظة أخرى).

حينما أقول أنني ككاتب أستمتع بكوني مقروءًا، وبأن كتاباتي محل تقدير وتحليل وتداول فهذا لا يعني توجيه أي نوع من الخصومة نحو كاتب آخر يتخذ موقفًا لامباليًا أو ازدرائيًا تجاه القراء بشكل عام. لكن الاستمتاع لا يقتصر على هذه المظاهر الاحتفائية بل يتخطاها نحو تشريح القراءات التي تتناول أعمالي أيضًا.

حينما أضفت كتبي إلى موقع جودريدز عام 2009 لم يكن الغرض هو قراءة التدوينات حولها فحسب بل تأويل هذه التدوينات أيضًا، مراقبة سلوكها اللغوي، النطاقات التي تتحرك في حدودها، والمقارنة بينها. كان الغرض هو اقتفاء أثر ما تتبناه، وما تهمله، وتفسير الدوافع وراء ذلك.

مقالات من نفس القسم