صبري الموجي
يزيد عمرُ العلاقات المصرية – الروسية، علي 75 عاما، ومؤخرا بلغت هذه العلاقات أوج ازدهارها، عبَّرَت عن ذلك الزياراتُ المتبادلة بين رئيسي البلدين، وتدشين الشراكة، والتعاون الاستراتيجي الشامل بينهما، وكان من ثمرة هذا التعاون مشروعُ محطة الضبعة للطاقة النووية، ومشروع المنطقة الصناعية الروسية الذي ينقل العلاقات المصرية – الروسية إلي مستوي غير مسبوق، إضافة إلي القمة الروسية – الإفريقية، التي عُقدت مؤخرا.
وكتابُ “تحفةُ الأذكياء بأخبار بلاد الرُّوسيا” لمؤلفه الشيخ محمد عياد الطنطاوي(1810- 1861م) – والذي أخرجته مكتبةُ الآداب المصرية في طبعة جديدة فاخرة، قام بتحقيقها د. محمد سيد علي عبد العال الأستاذ بكلية الآداب بجامعتي العريش وجازان هو إحدى لبِنات قصر العلاقات المصرية – الروسية المنيف.
يستهل المُحقق تقديمه الكتاب بعتابٍ لاذع للعرب عامة، والمصريين خاصة، الذين كانوا برأيه أحد رجلين: منكفئ علي نفسه يتواري من الناس من سوء ما بُشر به، إذ جعل بينه وبين الآخر حجابا. لسان حاله قول العامة : (الباب اللي يجي لك منه الريح سده واستريح )، أو مُنبهرٍ بالبريق الوافد من الغرب، فيفتح له ذراعيه علي آخرهما، مثله مثل الإسفنجة تمتص ما يُصادفها من ماء سواء كان عذبا أو آسنا، فيأخذ من الآخر بغير تعقُل وبلا تمييز بين غث وسمين، فتتلاشي هنالك شخصيتُه، وتنسحق إرادتُه. هنالك لام المُحققُ كلا الفريقين، وطالبهما بأن يفيقوا، ويحذروا مما سماه (العمي الثقافي والحضاري)، ويبحثوا عن مصدر الشعاع الفكري، بل طالبهم بأن يكونوا مصدره، كما كان أسلافُهم من قبل، ثم ينتفضُ المحقق مُدافعا عن الطنطاوي، فيرفض اتهام الكاتب رجاء النقاش له بأنه كان مُنشغلا بذاته، منصرفا عن وطنه، وهو في ذلك عكس رفاعة الطهطاوي، وطه حسين اللذين لم يمكثا في غربتهما طويلا.
يثبت المحقق أنه اتهام ظالم، ووصفٌ لا ينطبق على الطنطاوي، تماما كما لا ينطبق علي “تشارلز بوكوفسكي” الألماني – الأمريكي، الذي جاءته الشهرة آخر حياته، بعدما عاني الفقر والشظف والسُكر والعربدة، مؤكدا أن البيئة والظروف، قد تلعب دورا كبيرا في شهرة شخصٍ ما، وتُعطي ظهرها لآخر أكثر استحقاقا لها منه!
ويلفت المُحقق إلى أنّ صلة الطنطاوي بالمستشرقين، بدأت عندما التحق بإحدي المدارس الإنجليزية، وهنا كانت بداياتُ الدهشة، والتعرف علي المستشرقين والاستفادة منهم، وثناؤهم عليه بعكس كثير من المصريين العائدين من أوروبا، حيث وصفه د. براون بالعَلم الراسخ في العلم والترجمة، وقال عنه المستشرق الكبير غوتوالد : إنه الأديب الشاعر الرقيق صاحب التصانيف البديعة، وأحد أعاظم العلماء الأجلاء المتبحرين في الأدب وعلومه، ورغما عن هذا فقد جفاه قومُه جفاء يفوق الحدود.
و” تحفة الأذكياء” هو التحقيقُ العلمي الأول والكامل لأهمّ نصٍ رِحَلي عربي إلي أوروبا الشرقية، ويُعد نموذجا فريدا للتنافذ الثقافي والحضاري مع الآخر، جاء مُحملا بحمولات أبستمولوجية، وأنطولوجية، وإثنوغرافية، صيغت بأسلوب أدبي راق، وخطاب تداولي آخَّاذ، ويمثل هذا النص قيمة أدبية وثقافية وحضارية لا تقل عن نص رحلة رفاعة الطهطاوي إلي فرنسا، فهو رحلةٌ نبيلة قام بها أحد النبلاء؛ ليترك تراثا عظيما يستوجب نشره ودراسته وإعادته للواجهة، صيغ بعين الطنطاوي المائزة، التي خالفت عيون كثيرٍ من الرحالة، والتي كانت إما زارية ساخرة، أو غامزةً رامزة، أو ذاهلةً مُستلبة.
وكتاب ” تحفة الأذكياء” جاء في سفر ربا علي 500صفحة، بدأ بمقدمة، وتمهيدٍ كاشف لماهية هذا النص الأدبي الموجود بين دفتي الكتاب، والذي هو الرحلة الثانية أو الثالثة بعد رحلة ابن فضلان الشهيرة إلي بلاد الروسيا، وما حولها من بلاد الترك والصقالبة، والتي كانت بغرض تعليم وتفقيه سكان تلك البلاد، بعكس رحلة الطنطاوي التي كانت بغرض البحث عن أسباب جديدة للنهضة الحديثة التي تبناها محمد علي، ويبرُز من التمهيد أيضا الجهدُ المبذول في تحقيق هذا الكتاب، حيث صال المحققُ وجال في ميدان الصنعة التحقيقية، عارضا المقارنات بين النسخ، مُرجحا الأصوب وفقا لمعايير البحث والدراسة المنهجية، كما عقد المُحقق مُقارنات واسعة بين رحلة الطنطاوي والطهطاوي، كاشفا الفارق بينهما ونقاط الاتفاق والخلاف.
بعدها تأتي مادة الكتاب، والذي جاء في ثلاثة أبواب، تحدث الأول عن منشأ الروس، فأكد أنّ السكان الأُول في تلك الأراضي كانوا ” إسكافي وصرماطي” يعني الصقلب، وكانت تلك الأراضي عبارة عن غابات مُلتفة، وغيطان مُتسعة، وكان سكانها مساكين لا يعرفون الله، ويعبدون المخلوقات : الشمس والقمر والأصنام، ومن ثم عُرفوا بالوثنيين، وكانوا لا يعرفون القراءة ولا الكتابة، ولا يبنون المدن الظريفة، ولا يخيطون ملابس فارهة، بل يلبسون جلود الوحوش، ويعيشون في ” أخصاص” أو حُفرٍ في باطن الأرض يحتمون فيها، كما يتناول الباب أنواع الصقالبة، وأصلهم وطريقة معيشتهم القائمة علي الغارة علي الجيران، وسلب مواشيهم وسلعهم، وغيرها من معالم النشأة الأولي. وفي الباب الثاني، يتحدث عن “بتربورج”، ووضعها، وعرضها وطولها، وطبيعة أرضها، ومائها، وقوة البرد فيها، لدرجة أنه كانت تُنحت من الجليد أحجارٌ، وتُستخدم في البناء، وتمر العربات فوق الأنهار المتجمدة، فضلا عن عدد من الفصول الكاشفة لمعالم البلاد الروسية، حتي إنه يمكن القول إن هذا الباب هو دراسة تاريخية جغرافية جيولوجية عن بتربورج، حيث قسمه إلي عدة فصول، ركّزت في معظمها علي حياة بطرس الأكبر، وإنجازاته وإصلاحاته، ودوره في نهوض روسيا وتقدمها في المجالات العسكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية. وفي الباب الثالث يتحدث المؤلف عن عوائد الروس وأخلاقهم وملابسهم وأعيادهم وأديانهم، وخطوطهم وتقدمهم في العلوم والفنون، وعادات الزواج والتعميد والدفن ومراسم الولادة والتنظيمات الاجتماعية ودور المرأة في المجتمع، وتقدم الروس في العلوم والفنون، والسكن وأنماط المعيشة وغيرها من العادات التي تكشفها مُطالعة هذا الكتاب الشيق، الذي صاغه شيخٌ معمم بأسلوب أدبي راقٍ.