تحت أمرك يا أستاذ!

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

يسري حسان 

الغريب في الأمر أنني، وبعد أن بلغت من الكبر عتيا واشتعل مني الرأس شيبا، أو بمعنى أدق اشتعل ما تبقى منه، وهو يعد، كما ترى، على أصابع اليدين بالكاد، ظللت أمام الاستاذ، نفس ذلك التلميذ الذي عمل تحت يديه في أوائل الثمانينيات، من القرن الماضي، محررا تحت التمرين.

ما أن يرن جرس الهاتف ويظهر اسمه على الشاشة، حتى أحمل الهاتف واهرع إلى البلكونة، لأن الشبكة واقعة في الشقة، وأرد، تحت مراقبة زوجتي، التي تظن أنها متزوجة من براد بيت: “أيوه يا ريس.. تحت أمرك.”

لا تهدأ زوجتي بعد أن تطمئن أنني لا اكلم موزة، لكنها تتساءل، ربما على سبيل الاستفزاز، أو حتى على سبيل الغيرة من هذه العلاقة: هو أنت بتخاف منه كده ليه ؟ أنا ساعات أرن عليك عشرين مرة ولا ترد. اجيبها: إنها المحبة لا الخوف، محمد جبريل هو أستاذي وصاحب الفضل الذي لا ينسى، وكل ما يطلبه مني هو أوامر يجب تنفيذها في التو والحال، فتعود إلى رشدها، أو تمثل أنها عادت، لأنها تعرف القصة كاملة.

حرفياً التقطني هذا الرجل من الشارع وعمل مني صحفياً، كنت في السنة الأولى بالجامعة واكتب ما اعتبره شعرا، ودلوني على ندوة المساء، وبعد أن تعرفت على عدد من أبناء جيلي، كنا نذهب الى أمسيات شعرية في بنها أو طوخ أو شبين القناطر أو غيرها من القري والمدن البائسة القريبة من القاهرة، ولا أعرف لماذا كنت كلما ذهبت الى ندوة أكتب عنها تقريراً وادفع به إلى الأستاذ جبريل أثناء ندوة المساء، لينشره في الصفحة الأدبية، ومرة بعد مرة فاجأني الرجل بأن طلب مني الالتحاق بالقسم الأدبي بالمساء، الذي كان مشرفا عليه.

اقسم لك برحمة أمي أنني لم اخطط يوما للعمل في مجال الصحافة، ولو أردت الصراحة المطلقة أخبرك بأنني لم أخطط. لأي شيء في حياتي، وادع الأمور تمشي بالبركة، وهي تمشي، حتى الآن، حبة فوق وحبة حبة تحت.

المهم أنني قلت له “ماليش فيها” قال ولا يهمك تعالى من بكره الساعة سبعة الصبح، ظننته يشتغلني، فكيف يكون أديبا ويذهب إلى عمله في السابعة صباحا؟ كانت معلوماتي وقتها أن الكاتب كائن ليلي ينتهي يومه في السابعة صباحاً، لا أن يبدأ عندها، لكني قلت لنفسي: جرب وخلاص.

عندما دخلت مكتبه في المبنى القديم، لم استبشر خيراً، هو لم يكن مكتبا بالمعنى الذي تصورته، حجرة مستطيلة بها أكثر من سبعة مكاتب إيديال، وفي نهايتها دولاب يدخل ويخرج بعض موظفي الخدمات المعاونة يأخذون منه جرائد أو أوراق أو بعض المأكولات، ثم فوجئت بعامل اسمه سعد يدخل بشنطة حلاقه ويأتي إليه بعض العمال ليحلق لهم رؤوسهم، أيقنت أنني في محطة مصر، وفكرت أن ألقي بنفسي من النافذة لكني اكتشفت عدم وجود أي نافذة في هذه الحجرة التي عرفت فيما بعد أنهم يطلقون عليها حجرة الفئران، وكانت مخصصة للمغضوب عليهم والضالين.

لم يكن الاستاذ من المرضى عنهم، ولا أدري لماذا، ربما لأنه كان في حاله، معتزا بنفسه لا يجيد النفاق أو التطبيل، كان معنا في نفس الحجرة محمد علي ابراهيم، الذي صار فيما بعد رئيسا لتحرير الجمهورية في عهد مبارك.

ولأن الاستاذ جربني في صياغة الاخبار، قرر أن يلقي بي مباشرة في البحر لا تعلم السباحة، طلب مني كتابة تحقيق، وأنا اسقط في يدي،  ولأنني وش كسوف لم أساله: يعني إيه تحقيق، طلبت منه التوسط لي لدخول الارشيف لأنني لم يكن لي بعد صفة رسمية، توسط ودخلت واطلعت على التحقيقات الموجودة، وكتبت التحقيق وقدمته له بيد مرتعشة، تصفحه سريعاً، وانتقلت الرعشة من يدي إلى جسمي كله، ثم وضعه جانباً، ولم يعبرني بكلمة، وتذكرت أن حجرة الفئران بلا نافذة فتسمرت في مكاني، أجرى قلمه في التحقيق ثم اعاده إلى لكتابته بخطي، ثم طلب مدير التحرير الاستاذ حمدي مراد، وكانت تربطهما علاقة طيبة، ودفع إليه بما كتبت وقال بفرح شديد: هذا زميلنا الجديد وهذا اول تحقيق يكتبه أرجو إلقاء نظرة عليه، وبعد أن ألقى الرجل نظرة، خلع نظارته وقال: من كتبه لك، فحكيت له الحكاية، وأمن الاستاذ جبريل على كلامي، فقال الاستاذ حمدي خلاص سيب لنا هذا الولد في الديسك، فقال جبريل بطريقته المازحة المعهودة: ديسك إيه دي عيل صايع أنا جايبه من الشارع سيبه لنا الله يكرمك.

هكذا أعطاني جبريل الثقة من أول طلعة، لكنه هرسني بعدها، وجهني إلى قراءات بعينها، وكان كلما طلب مني حوارا مع كاتب ينصحني بقراءة اعمال له بعينها، لكنه فاجأني يوما وكان معرض الكتاب يستضيف البرتو مورافيا، بأن طلب مني حوارا مع الأديب العالمي، وأنا لا أعرف أي لغة غير العربية، قلت كيف؟ قال أتصرف، فتصرفت وأجريت الحوار، بمساعدة صديق مترجم، وبمناسبة معرض الكتاب، كان يطلب تغطية يومية عن المعرض، اجمع ما كتبه زملائى وما كتبته، وبعد انتهاء اليوم في الثامنة مساء أحمله إلى بيته في مصر الجديدة فيجلسني أمامه على السفرة، لم يكن يكتب إلا على السفرة، ويطلب مني طبخ كل ما معي في موضوعين أو ثلاثة أو أربعة، ثم يلقى نظرة عليه، ويطلب مني الذهاب الى الجريدة لتقديمه لمدير التحرير السهران لينشر على صفحة كاملة في اليوم التالي، ويطلب مني مدير التحرير عمل “كابشن” للصفحة الاولى،  بعدها أعود إلى البيت في الثانية أو الثالثة صباحا، أنام ساعتين ثم اذهب الى الجريدة في السابعة صباحا لأخذ التكليفات الجديدة، وهكذا كل يوم حتى انتهاء المعرض.

لك أن تتخيل كم التعذيب الذي كان الرجل يمارسه على، لكنه كان أجمل تعذيب والله، خاصة أنه كان يمارسه بحب وابوة، وبرغبة صادقة في أن أتعلم وأستطيع العمل تحت الضغط، ربما لو لم أمر بمثل هذه التجربة ما تعلمت شيئا، هذا اذا كنت قد تعلمت شيئا في الأصل.

كان الرجل يمارس هذه القسوة بهدوء وحنو غير عاديين، هو نفسه كان يعمل تحت ضغط رئيس التحرير، الذي كان لا يعجبه العجب ولا الصيام في رجب، كنا نقدم صفحتين كل أسبوع، يطلب رئيس التحرير الماكيت صباحا، ويطلع في الصفحة القطط الفطسانة، ويكون علينا اعداد صفحة جديدة في ظرف ساعة أو ساعتين، فيجمعنا الاستاذ جبريل، وكنا ثلاثة فقط، السيد المخزنجي، ومصطفى القاضي، والعبد لله، ويكلفنا بإعداد صفحة جديدة يرضى عنها رئيس التحرير، فنلبي النداء وننجز ما كلفنا به في هدوء وبعيداً عن أي توتر.

كان يهتم بكل رسالة تصله من أديب هنا أو هناك، المعروفون منهم يتولى اعداد قصصهم أو قصائدهم بنفسه، ويدفع إلى برسائل من لا يعرفهم للرد عليها، مشدداً على بأن يكون ردي لطيفاً وليس من عينة ابحث لك عن هواية أخرى، قائلا: لاتحبط أحدا فربما صار بعد ذلك كاتبا جيدا.

لم يكن الاستاذ جبريل من أولئك الذين ينزعون صفحة العناوين من الحوار أو التحقيق أو الخبر، ويعيدون كتابتها بخطهم، ليظهروا كما لو أنهم هم من وضعوا العناوين، وهذا أمر يعرفه كل من عمل بالصحافة، بل كان يطلب منا تبييض العناوين بخط يدنا بعد أن يدققها هو، لنبدو نحن كما لو كنا صحفيين محترفين، ونلفت نظر رئيس التحرير وتكون أمامنا فرصة للتعيين.

أذكر أنني أهملت دراستي الجامعية لانشغالي بالعمل الصحفي، فكان أن مسح بكرامتي الأرض حتى انتهى منها ويتم تعييني، وربما لو لم يفعل ذلك لكنت الآن أغني ظلموه، وإن كنت أغنيها في بعض الأحيان.

الكلام عن أجواء العمل تحت قيادة الاستاذ يحتاج، دون مبالغة، إلى مجلدات، وأنا لست قريب أو نسيب الاستاذ ياسر عبد الحافظ رئيس التحرير حتى احتل هذا الملف بمفردي، لذلك اقول مجددا ودائما إنني كنت من المحظوظين أن قيد لي الله لقاء هذا الرجل، الذي تعلمت كل شيء في مهنتي على يديه، وإن كنت لا أعرف حتى الآن، والله، هل كان ذلك شيئا مفيدا للمهنة أم لا؟ عموماً.. الرجل فعل ما عليه وأكثر!

عودة إلى الملف 

مقالات من نفس القسم