استفادت مىّ خالد من الموسيقى والغناء فى هذه الأصوات المتعددة التى تحكى رغم أن التى تروى صوت واحد، نزيلة المصحة النفسية، المذيعة السابقة، فيولا رفعت، رغم أنها صامتة لا تكلم طبيبا، إلا أنها ستكلمنا نحن، فى ذاكرتها طوفان من الأغنيات والمواويل والرقصات، سعاد ماسى ومنير وشادية، التانجو ودقات الزار مع سميحة السودانية، الليلة الكبيرة ومدائح السيد البدوى، جيمس براون ورقصات النوبة، السلم الخماسى ممتزجا بالسباعى، انمحت لديها الفواصل بين البشر وآلات الموسيقى، أصبح الناس مجرد أصوات، كل شخصية تستدعى آلاتها وموسيقاها وأصواتها: هى رقيقة وحساسة/ فيولا، رياض قوى وصاخب/ طبول، حسين مخادع وملتوى/ ساكسفون، مهجة صوت رفيع تاه فى المدينة/ جلاجل، مروان الطبيب الغائب، الملجأ والملاذ الذي سيضبط أوتار الروح/ البيانو، حتى أسماء عائلتها الصغيرة قادمة مباشرة من الغناء والموسيقى، الأم آريا (الغناء المنفرد فى الأوبرات)، والأخت الكبرى تغريد، حتى فيولا نفسها لها اسم آخر عربى موسيقى هو رباب.
بناء الرواية بأكمله أيضا يشبه الروندو، نغمة تنطلق الى نغمات أخرى ثم نعود من جديد الى النغمة الأصلية، دائرة محكمة، مريضة صامتة انهارت بعد موت أمها، فأدارت شريطا صامتا فى استديو الإذاعة، وغنت موالا فى قلب المسجد أثناء الجنازة، نعود إليها وقد أطلقت صرخة سوبرانو هائلة فى النهاية، وبينهما تنويعات على نغمة الفشل والإحباط، المسافة الهائلة بين ما نحلم به وما نجده، محنة فيولا، الكمان الوحيدة، فى حساسيتها الفائقة، فى أنها ثمرة عدم امتزاج الأم الأرجنتينية (آريا)، والأب المصرى (رفعت)، يظل حلمها فى برنامج بعنوان “تانجو وموال” غير مكتمل، كل العلاقات فى الرواية غير مكتملة أيضاً، آريا لن تكمل أبداً دراستها عن الموالد الشعبية القبطية والإسلامية، عندما تركت بلدها أخذتها معها، حاولت أن تندمج فى مجتمع جديد، ولكنها ظلت حتى النهاية تمثل ثنائية لا تتغير، فيولا هى ابنة عالم مزدوج ومتناقض انتهى بأختها الى النقاب، وانتهى بها الى المصحة، ولذلك ستبقى فى انتظار الطبيب مروان، صديق طفولتها، حبها الأقدم، الذى لن يظهر أبداً.
الحيلة البارعة التى استدعت الموسيقى والغناء هى أن بطلتنا مقدمة برامج موسيقية مشوشة ووحيدة فى مصحة، ذاكرتها مسموعة بالأساس، وتناقضاتها كثيرة، لا تستطيع أن تحكى دون أن تستدعى مصطلحات الموسيقى وأصواتها: من نقرة بيانو خشبى صغير فى الطفولة الى دفوف حلقة الزار، المرأة ذات الكعب العالى تستدعى مقام النهاوند، والرجل ذو الصوت الأجش يستدعى مقام العجم، واللحظات الحزينة تستدعى مقام الصبا، بل إن المؤلفة تهدى روايتها الى آلة تشيللو عملاقة شاهدتها فى الأوبرا، وبدا كما لو أنها تحاكى جسد امرأة، كل الفنون تطمح أن تكون موسيقى حسب القول المأثور، و”تانجو وموّال” محاولة جادة وجيدة فى هذا الإطار، يكفى أنها تستدعى أشكالا وألوانا من الأغنيات والمقطوعات، تكاد تسمعها وأنت تقرأ.
ولكن هذا التعبير المسموع لا يشغل مى خالد عن التحليل النفسى الرائع لشخصياتها، فيولا درست ايضا علم النفس، كانت تحلم أن تكون مدرّسة فى رياض الأطفال، رفضت أمها، علاقتهما مضطربة، ورثت مهنة الأم كمذيعة فى البرامج الموجهة والبرنامج الموسيقى، ولكنها تحلم بأب لم تشبع منه، مات وهى طفلة، عاشت فيولا بين منزل واستديو ومصحة، مفتاح صول الرواية (إذا استعرنا مصطلحات الموسيقى مثل فيولا) فى تلك الثنائيات التى صنعت عالم فيولا: الجسد والروح، إيروس غريزة الحياة، وثانتالوس غريزة الموت، التانجو (رقصة لاثنين) والموال (بث مباشر فردى)، الكلام أمام الميكروفون، والصمت بعيداً عنه، البحث عن أب، والبحث عن حبيب، ذكريات الطفولة وأحلامها، وإحباطات الحاضر. نغمة واحدة وتنويعات، نشاز وحلم بالهارمونى المفقود، مشكلة فيولا هى بامتياز مشكلة اغتراب عن الخارج، فلا يجد الإنسان سوى العودة الى الداخل.
“تانجو وموال” من أفضل ما قرأت فى الفترة الأخيرة، رواية مكتوبة على نوتة موسيقية بأحرف من شجن وحنين، وبألوان ثقافات وحضارات مختلفة، وبأحبار صنعت من أحلام الطفولة، ممتزجة بخيبات وتناقضات عالم من الأصوات المختلطة، وعلى إيقاعات عصر كالقطار لاينتظر أحداً، ولا يتوقف إلا وفقاً لخط سيره، ولا يخرج أبداً عن القضبان، ولا يركبه إلا من يدفع الثمن.
فيولا، الكمنجة الجميلة، فى زمن النشاز، يقول لها الموال الحزين:Top of Form
أمانة يا طبيب إكشف ع العليل واشفيه
وانظر بعين الحكيم جرح النظر إيش فيه
رد الطبيب وقال: ده اللى الزمن جرحه وخللى دمعه دم
لو يترك الهم أضمن له النجاح واشفيه.