محمد سمير ندا
بائع الأحلام
يمهد الكاتب القارئ للدخول إلى أجواء النص، بتصويره لبائع الأحلام العجوز، والطفل الحالم الذي يداوم على شراء الحلم تلو الآخر، معارضًا مقولة أمه بأن الأحلام مفسدة للأخلاق ومضيعة للوقت، يقطف الجميلات من مشاهدات عابرة حتى ينفرد بهن في حلمه، بمرور السنوات، تسلبه الحياة حق الحلم المسروق من أجفان العذراوات، يدور في سواقي الرزق فيكاد أن ينسى غواية الأحلام، الهاربة منها والمؤجلة والمحرمة، حتى يعود كهلاً إلى بائع الحلم، ليرث المهنة ويمسي بائعًا للأحلام بدوره، يسرقها من عيون النائمات، ويمنحها لمن يصر على تقصى أثر الحلم في عالم صاخب سريع الإيقاع. الكاتب هنا يتقمص شخصية بائع الأحلام، ولكنه يقرر أن يمنحنا مجموعة من الأحلام المجانية، عرض خاص لمن لم تنضب في عقولهم منابع الغواية، العرض مقسم إلى ثلاثة أبواب، وراء كل باب مجموعة من الصور القصصية التي جاءت بمثابة ومضات، فلاش كاميرا عتيق يلتقط مشهدًا حياتيًا يلخص من خلاله حياة كاملة، صورة ثابتة تحركها عيون القارئ. يمنحنا الكاتب نصوصه في صورة فيلم نيجاتيف، ليصبح كل قارئ منا مكلفًا بتحميض هذه الصور، وتحريكها. وبطبيعة الحال، فالتحميض يعوزه الضياء، بيد أن النور المنشود يسكن العقول ليغويها بالتأمل، ولا تسكبه الشمس في عيون الحالمين.
باب الأحلام
وراء هذا الباب، يقدم الكاتب أربع صور، في الصورة الأولى نشاهد أنفسنا في طور الشباب في رحلة بحثنا العبثية عن الكمال ولا جدواه، ومحاولات إقفال دوائر العقل حول حقائق ثابتة، قبل أن نكتشف كيفية اختصار عذوبة الرحلة نفسها في بساطتها. في الصورة الثانية نرى صورة تبدو مقسمة إلى اللونين الأبيض والأسود، في قلبها نشهد عن ثورة الأشياء والألوان على أحكام وقواعد لعبة الحياة، على الأبيض والأسود، حتى نشهد انتصار الحب على القانون. في الصورة الثالثة، نشاهد صورة مجسمة للحياة من خلال حفل عبثي، نحضره دون استلام دعوة حضور، ونلبي الدعوة الغائبة دون رغبة واضحة في حضوره، نشاهد الأنماط والأحداث بأعين زائغة فلا نترك من خلفنا سوى أبهت الأثر وأشحب الظلال، وأخيرًا؛ نشاهد صورة أخيرة تصور حلم الإنسان البسيط/المقهور بتحقيق الانتصارات الصغيرة، عن محاولة المهمشين للعب أدوار البطولة، ورغبتهم في ترك أثر، عبر إلقاء حجر صغير يظنون أنه كفيل بتغيير مسار النهر!
باب الكوابيس
وراء هذا الباب، تتسارع وتيرة الصور وتتشابك المؤرقات، ويبدو فيلم النيجاتيف أدكن من الصور القابعة خلف الباب الأول، مما يستلزم المزيد من نور اليقظة لتحميض الصور. نشاهد الحياة هنا من منظور مخالف للحفل القابع خلف الباب الأول، فنراها كمباراة نشارك فيها دون دراية أو إرادة، نشاهد في ملعبها سيل من المتناقضات، والصور التعبيرية التي يحمل كل منها إسقاطًا على أنماط شائعة اسيطر على مجريات حياتنا، يطلب منا اللعب، وتسجيل الأهداف، دون أن نمنح الكرة! عقب ذلك نلتقط صورة لذبول الحلم المعلق في جدائل ضي القمر، نشهد على حلم/قمر ينسحب جارًا من خلفه أوركسترا نجومه، تاركًا السماء لشمس تلهب الحالم بسياط سخونتها، فيما يفسر كانسحاب الأمل في مواجهة الشمس المندفعة الحارقة، القمر طالما كان للعشاق ونيسًا وسميرًا، في حين ظلت الشمس على الدوام ملتزمة بدور الميقاتي، المسؤول عن إعلان البداية والنهاية. عقب ذلك نتأمل صورة مؤلمة توثق إجراءات تفتيش العقول وتسييج الأرواح في أطر المسموح والممنوح، عن امتهان السلطة للإنسان واحتكارها للوطن، هي صورة تبدو عابرة كافلة باستدعاءات صور من أفلام لمخرجين بعينهم، واكنها صورة تختزا الهوان الذي بتنا نعيشه اليوم. ثم تأتي صورة مقبضة لحياة الانعزال، عبر اختزال العمر داخل غرفة بلا أبواب، قبل أن نلتقط آخر الصور المعلقة خلف هذا الباب، بمشاهدة لقطة جلية للخضوع، والعلاقة بين السجين والسجان، وعن أثر ذلك الخضوع في خلق القضبان الوهمية التي نحبس أنفسنا فيها طواعية، لتمنعنا عن حرية لم يسبلها منا أحدًا بقدر من حرمنا أنفسنا من تذوقها!
بين الأحلام والكوابيس
خلف الباب الأخير، نلتقط ثلاثة صور بذات المقاس الأول، قبل أن نجد صورة كبيرة معلقة على جدران الحكاية، تضم الصور الأولى قصصًا تزاوج الواقع بالحلم، من خلال التقاط الصورة الأولى التي تُظهر فجوة زمنية تفصل بين الواقع والحلم، قد يظن القارئ أن هذه الصورة محروقة، ولكن؛ عبر تسليط الضوء عليها، يشاهد ملامح تلك الفجوة وإطارها الخارجي، والهوامش المضيئة التي فصلت بين لقاء أول ولقاء ثانٍ ذابت فيما بينهما ثلاثة أو أربعة عقود، في الصورة الثانية تُظهر شابًا عاريًا تجرد من كل الأفكار والثوابت والقوانين، ليقف على حافة جبل شاهق، يبدو الشاب وكأنه قد قرر القفز إلى الهاوية، بيد أن الأضواء والأصوات والألوان من خلفة تستعيده في اللحظة السابقة للقفزة الأخيرة، الحياة تظل غاوية محترفة رغم كآبة ظاهرها، والشاب يتراجع خطوتين إلى الوراء، ولكنه لا يقرر إلغاء قفزته الأخيرة، بقدر من يفضل الإرجاء. في الصورة الثالثة نشاهد عجوزًا يركض في مرابع ذاكرته قبل انقضاء عام آخر من عمره، يبحث عن صور قديمة أحرق الزمن النيجاتيف الخاص بها، العجوز الذي أهدر سنواته على أعتاب انتظار بابا نويل، يقبض على الزمن الهارب حين يجد سعادته في التحول إلى بابا نويل، قبل أن يستقبل العام الجديد.
هياج الدوبلير
الصورة النهائية الأكبر حجمًا، تختتم ما استهله الكاتب في حكاية بائع الأحلام، وإن كانت الصورة هنا ملتقطة من زاوية مغايرة، فالحالم هنا يمتلك حلمًا واحدًا، ولا حاجة له بشراء أحلام بديل، هو ذلك الكومبارس/الدوبلير الذي يؤدي دورًا لا يملك حق اختياره، هو أنا، وأنت، والكاتب، وكل من تراه يعبر حولك وأنت تقرأ هذه السطور، كل منا يؤدي دورًا لا يختاره، نحن؛ مجموعة الكومبارسات/الدوبليرات، نقف لوهلة، لنلتف حول هذه الصورة الأخيرة، حيث يتمرد الدوبلير على دوره، ويقرر تغيير السيناريو المفروض لينفرد بدور البطولة، قرر أن يتوقف عن تلقي ضربات الأبطال، وأن يوجه هو الضربات والطعنات. صورة تعبر عن حالة ثورية، وإن جاء مآل ثورة الدوبلير مشابهًا لثورات الشعوب.
ختام
ألبوم صور بديع انتهيت للتو من تحميضه بعناية فائقة، كنت أخشى أن أفسد بعض الصور ما بين التعجل والانشغال وعدم التركيز، أرجو أن أكون قد نجحت في تحيض الصور وعرضها بالطريقة التي أرادها الكاتب/المصور لتظهر بها في معرضه حين يقرر عرضها.
أحمد عبد المنعم رمضان، قاص مهموم بقضايا الإنسان، بالحرية، الحب، مشغول بتفكيك التعريف الشائع الحياة، والبحث عن معنى واضح لم يرد من قبل في كتب الفلسفة والشروح والتفاسير، قلم يكتب بحس مرهف، ويلتقط الصور من زوايا بارعة، يجيد التلاعب بالإضاءة واختيار الألوان خلف السطور، لغة محكمة سليمة، جمل قصيرة معبرة. تكنيك السرد اختلف بين القصص من ضمير المتكلم والراوي العليم، الأمر الذي جعلني أرتبط تلقائيًا -بدرجة أكبر- بالقصص التي جاءت على لسان الراوي، بصفتها حكاية تخص كاتبها، أكثر من القصص التي انفرد بقصها راوٍ موازٍ/عليم/بديل. لا ينفي ذلك أن المجموعة كعمل قصصي، جاءت على ذات المستوى الأدبي، فلم يشوبها اهتزاز أو تفاوت.
تجربة ممتعة، ستدفعني -حتمًا- للبحث عن رواية الكاتب السابقة
……………..
يمكنكم تحميل المجموعة من >>> هنا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائي وناقد مصري