الأمر قديم ويحدث على مر الأجيال, أعني تمرد الصغار على اللغة الأم، أحيانا بابتكار مصطلحات أكثر قرباً منهم ..من طبيعة حياتهم ومشاعرهم ومن روح العصر ..وأحياناً بالتحول للغة أخرى يظنونها أكثر رقياً ..نعم يحدث هذا طوال الوقت، ومنذ كنا نحن هؤلاء الصغار الذين يحشرون أحياناً كلمات غريبة في أفواههم سعيا وراء التميز وإثبات الوجود.
لكن الأمر يزداد سوءاً وتعقيداً فيما يبدو, والفجوة في اتساع مستمر، والصغار لا يكبرون ..وكلا الطرفين يزداد تعالياً على الآخر .. أعرف كثيراً من المثقفين يستخدمون اللغة الـ “فشيخة” في حياتهم اليومية وفي الكتابة أيضاً.. وهناك عدد لا بأس به ممن يُحسبون على الكتابة أيضاً يعانون أخطاء املائية فادحة من نوعية: “أنا الموضوع مقصر فيا أوي” بينما على الجانب الآخر تظل اللغة الرسمية في واد آخر بلا أي جهد حقيقي للتجديد ..لغة المنابر والمناهج الدراسية الجامدة .
في الثمانينات وربما حتى التسعينات كنت أتابع البرنامج الإذاعي “لغتنا الجميلة” وأذكر صوت طه حسين الرصين وهو يقول بإخلاص:إننا نملك هذه اللغة كما كان القدماء يملكونها ولنا أن نضيف إليها ما نراه ضرورياً في عصرنا الحديث .. فكيف ولماذا يُفقد الإحساس بامتلاك اللغة؟!
ربما لأن هناك من يظن أنه يمتلك اللغة – كما يمتلك الدين والوعي وغيره – ويرى أن التشبث بكل ما هو قديم هو “عين العقل” رافضاً بقوة التفاعل مع الجديد واستيعابه.
وفي المقابل يزداد هذا الجديد تطرفاً في البذاءة وكأنها وسيلته الوحيدة للمقاومة, فكيف لا يعي أن هدمه للغته ما هو إلا هدم لتفرده نفسه.
ربما يكون الرد الطبيعي أن الواقع أصبح شديد القبح وأن التجمل وراء ألفاظ منمقة ومهذبة سيجعلنا نتحول لعماد حمدي وهو يقول “مساء الخير يا نينة” بينما نينة نفسها قد أصبحت متسولة شمطاء تبيع المناديل في إشارات المرور.
لكنني بالفعل لا أستطيع استيعاب أن يتخذ المثقف من القبح دافعا للمزيد من القبح ولو بحجة التعبير عن الواقع، هل تم هدم فكرة أن المثقف يقود وعياً ما نحو التطور؟! ..ربما ..لكنني إذا استسلمت لفكرة كهذه لن أجد أمامي سوى قبحاً يتطور باستمرار ..وإلى ما لا نهاية .