علي حسن
الدكتور “طه حسين”؛ “العميد” الذي علمنا كيف نحترم عقولنا ونجادل، كيف نقرأ التراث، كيف نتعمق ونفكر بطريقة علمية؟
علمنا “العميد” إعمال العقل في كل ما نقرأ، ونخضع ما فيها إلى الشك والاختبار، ثم نرضى بما وصل إليه العقل من نتائج دون وجل أو خوف، طالما نحن في محراب العلم، وقاعات الدرس ومعامل البحث الجامعي.
عاش “العميد” على هذا المبدأ ومات؛ لم يفارقه لحظة، رغم أن سنوات حياته اتخذت أطوارًا متباينة، ومرت بمراحل مختلفة، سواء أثناء نهل العلم والتعلم أو الأستاذية ومنح عصارة علمه وتجربته لتلامذته.
لقد انتقل “العميد” من طور إلى طور، والاختلاف واضح بين كل مرحلة من حياته وأخرى، الغلام في الكُتابِ غير الشيخ في حلقات الأزهر، صاحب العمامة في أروقة الأزهر غير المُطربش في قاعات جامعة السوربون.
طه قبل أبي العلاء غير طه بعده، والذي كان قبل كتاب “في الشعر الجاهلي” غير الذي جاء بعده، وهو قبل الأيام ليس كبعدها، ومَن تولى نظارة المعارف ليس كمن كان قبلها أبدًا!
الدكتور “طه حسين” الذي عرفناه في العهد الملكي، ليس الدكتور الذي عاش في جمهورية ثورة يوليو،
بل إن الدكتور العميد لكلية الآداب، جامعة “فؤاد الأول” يختلف تمام الاختلاف بين العميد قبل هتافات طلاب جماعة الإخوان بسقوطه وبعد هتافهم القبيح: “يسقط العميد الأعمى” لأنه سمح بتدريس كتابين هما جان دارك وأحاديث خيالية!
العميد كالنهر اليافع الفياض، مياهه متجددة، مندفعة، متغيرة، لا يعرف السكون، ولا يقنع بالسهل، ولا يحبذ السير في طرق ممهدة، آمنة، يرتادها الناس دائمًا، إنما يسلك الوعر المهجور، غير عابئ بالعثرات والوحشة، ومكابدة العناء والعنت، هدفه الوصول إلى الحقيقة فقط!
لا يستطيع عاقل إتهام العميد في دينه – لأن العلاقة بين العبد وربه هي علاقة ذاتية، شديدة الخصوصية – ولم يعلن العميد يومًا أنه لا يؤمن بالله، ومع هذا يسعى السلفيون بشتى الطرق إلى إلصاق تهمة الكفر به، وهناك مؤلفات كثيرة ومتعددة في أدبيات الإخوان، تتهم الرجل بالإلحاد، وتحوله إلى “النصرانية”!
نظم أحدهم قصيدة بعنوان “كنت أعبد الشيطان” ادعى أنها من نظم “طه حسين”! وأراد أحدهم أن يجوِّد فقال: ” لطه حسين كنيسة في بدروم بيته في فرنسا، كان يقيم فيها مع زوجته وأولاده قداسًا كل أحد!
مع الأسف؛ في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، تأثرت كما تأثر ملايين الشباب أثناء المراهقة العمرية والفكرية بهذه الأكاذيب، والتفاهات، والخبل الفكري.
عند النضوج؛ وتحديدًا في بدايات العقد الثالث من عمري، بدأت أعيد قراءة جميع مؤلفات العميد، وأقوم بدراستها وتحليلها بمنظور آخر غير منظور التكفير والخيانة والعمالة للغرب!
لم يكن “طه حسين” كافرًا قط، ولم يعلن كفره، ولم يتبرأ منه أو يعلن توبته. لم يجد الرجل في التفكير إثمًا، بل كان صادقًا مع ذاته، متصالحًا معها، لا يجد في أفكاره أو معتقداته ما يستوجب التوبة أو المراجعة، وما تبرأ منها.
لكن الإخوان، والتيارات السلفية المتشددة، تأبى إلا محاربته، واتهامه بالكفر والإلحاد، أو إعتناقه المسيحية، وأنه خدم الغرب الصليبي، الذي كتب له ما يريد ليعود به إلينا زاعمًا أنه من بنات أفكاره، وحصاد جهده وتفكيره وعقله!
هذا العام؛ نحتفل بمرور “خمسين عامًا على رحيل عميد الأدب العربي” ولهذا نشط الإخوان، وعكف السلفيون على محاربة “طه حسين”، ظهر هذا واضحًا وجليًا لي في أمرين
الأول؛
تحت عنوان “تجديد ذكرى طه حسين” قدم مشروع النشر بالهيئة العامة لقصور الثقافة عشرين عنوانًا للقارئ المصري والعربي من مؤلفات عميد الأدب العربي، ليطلع الشباب على تراث عميده الفذ، ويعيد الكبار قراءة أعماله.
كنت دائم التواجد في معرض الكتاب، ولم يمض يومٌ دون زيارة لجناح الهيئة العامة لقصور الثقافة، ولفت انتباهي هجوم كل صاحب لحية على مؤلفات العميد! كان هجومًا شرسًا وعجيبًا، يلتقطون كتب العميد، يخرجون من القاعة حاملين أعدادًا كبيرة منها!
أمس -الخامس من فبراير- شاهدت الجناح المخصص لمؤلفات العميد شبه خاوية، مع ازدحامٍ، وطوابير طويلة أمام الموظف المختص بالتحصيل.
يقف على رأس الطابور رجلٌ ذو لحية طويلة، يحمل من كل عنوان ثلاث نسخ! أصابني الغم، وتذكرت أن هذه هي وسيلتهم مع مؤلفات العميد منذ بداية المعرض، رغم أن الشباب أيضًا كانوا يتهافتون على هذه المؤلفات بشكل يثير الإعجاب، ويبعث على التفاؤل والأمل في الغد.
قلت لهذا الرجل بصوت سمعه كل مَن في القاعة:
“هذا لا يحدث إلا مع طه حسن، طه حسين فقط، لماذا السلفيون مهتمون بطه حسين لهذه الدرجة؟
لم ينطق الرجل، وارتبك، ولاحظ الجميع ارتباكه!
فقلت: “لن ينجح السلفيون في القضاء على أدب وفكر طه حسين التنويري أبدًا، وهذا الشباب المصري العظيم سوف يقرأ لطه حسين، سيتعلم من فكره، ويقف لهم بالمرصاد.
كان كل الشباب والشابات في الطابور ينظُرن إليَّ بدهشة، ثم رفع كل واحد منهم ومنهن مؤلفات العميد، وقال أحد الشباب: “ولا يهملك.. كلنا معانا طه حسين!”
تلك الكتب المدعومة من الدولة، والتي دفع المصريون ثمنها، لا يجب أن يسطو عليها السلفيون، كي لا يكون مصيرها الإتلاف والحرق، أو تقديمها للفئران في مخازنهم، بعد إخراج مؤلفات شيوخهم إلى الأسواق بديلًا عنها!
إنهم يملكون أموالًا طائلة، يأتيهم الدعم من داخل وخارج مصر، لكن مصر الليبرالية، لن تنتهي، وفكر طه حسين وأحمد لطفي السيد وكل عمالقة الفكر والثقافة والداعين إلى تحرير العقل والتنوير سوف لن ينمحي فكرهم، ولن تزول دعوتهم أبدًا، سيعم نورهم ربوع مصر من جديد، ويمحو هذا الظلام الوهابي الذي بدأت بل كادت الدولة التي رعته تتخلص وتتحرر منه، وتستأصله من أرضها!
الثانية؛ أُقِيمت ندوة في معرض القاهرة الدولي للكتاب بعنوان “طه حسين وقضايا الهوية” حضرها عدد غفير من رواد المعرض، في نهاية اللقاء، مَنضح مدير الندوة للحاضرين فرصة التعليق والأسئلة، فخرج علينا زائر سوري، قال ضمن ما قاله:
“لقد تبرأ طه حسين من كل ما كتب، وعاد للإيمان بعد كفر بَيِّن، تاب إلى الله، تقرب إليه بكتاباته الإسلامية، مثل مرآة الإسلام، الشيخان، الفتنة الكبرى، وحزن كثيرًا أنه كتب “في الشعر الجاهلي”، وعدل عن كل ما قاله في كتابه “مستقبل الثقافة في مصر”، بل نادى بأن تكون هوية مصر “إسلامية” فلماذا أنتم مصرون على الاحتفاء بهذا الكتاب – يقصد مستقبل الثقافة في مصر – فإن الرجل أخطأ فيه، ورجع عن خطأ فعله، ثم لماذا لا نوضح للشباب أن طه حسن عاد إلى حظيرة الإيمان، وتاب إلى الله، نادمًا على كل ما كتبه في شبابه!”.
كان الرد على هذا الرجل من المنصة صادمًا، ولم أجد ردًا يليق بهم أو بعميد الأدب “طه حسين”، ربما لأن موعد الندوة انتهى، ودخلنا في الوقت المخصص للندوة التالية، لكن الحق أقول: أن مدير الندوة حاول الرد باختصار واقتضاب شديدين، ورد عليه أحد الأساتذة من المنصة، لكن ردهما لم يشف قلوب الحاضرين من تلاميذ العميد وأبناء مدرسته!
مصر تتعرض لهجمة شرسة، وعظماء مصر، وأعظمهم ودرة تاجها يتعرض لحرب شعواء، غير نزيهة، يلعب فيها المال وكثرة أعداد التابعين والمسيرين كالقطيع، تجعل الكفة تميل لصالحهم، ولكني أرى أن الأجيال القادمة، لديها شغف عظيم للعلم والقراء، ولن يجدهم جنود الجهل والتهميش والتخلف لقمة صائغة أبدًا بإذن الله، وستبقى مصر شمسًا للعلم والمعرفة والثقافة والحضارة، وعلى مصر ومؤسساتها وتلاميذ العميد الاحتفال بخمسينيته بما يليق به وبمنجزه الثقافي والأدبي، ولعل ما قام به الأستاذ جرجس شكري، والهيئة العامة لقصور الثقافة، بداية طيبة، وعلى الجميع استكمال الاحتفاء، ليكن عام ٢٠٢٣ كله هو عام العميد
“طه حسين”.