بين جسر الوعي وجسر الحلم

art
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عدنان الورشي

يقول أحد الحكماء إنَّ الإنسان حين يروي حكايةً يُقيم جسرًا من صوته إلى العالم، وفي كل جسرٍ يتعايش الحجر مع الهواء؛ صلابة الواقع مع خفة الخيال. هكذا يبدو الأدب — منذ الأساطير الأولى حتى أجرأ التجارب الحديثة — تربةً خصبةً يُنبت فيها الخيالُ شجرةَ الحقيقة، لا لينفيها، بل ليجعلها أكثر حضورًا وعمقًا.

فالكاتب حين يقتنص شرارةً من يوميّات الناس، يُعيد صهرها داخل أفران التصوّر؛ يكشف ما وراء القشرة السطحية للأحداث، ويطرح أسئلته المقلِقة: ماذا لو كان المسكوت عنه هو الجوهر؟ ماذا لو بدت الحقيقةُ هشّةً بقدر ما هي راسخة؟ فيُشَكِّل لنا لوحةً يتجاور فيها الضوء والظل، فتغدو التفاصيل «أشدَّ واقعيةً» لأنها مرَّت أولًا عبر غربالِ المخيّلة.

وليس الخيالُ خصمَ الواقع؛ إنما ركيزةٌ تُعلي البناء الفكري وتسبق أحيانًا زمنها برؤى استبصارية. ألم يتخيّل جول ڤيرن الغواصةَ والرحلاتِ القمرية قبل أن يصبحا حقائق علمية؟ وألم يرسم ماركيز في «مئة عام من العزلة» خرائطَ العزلة الجماعية قبل أن تُصيب عالمنا حُمّى الوحدة الحديثة؟ إنَّ الخيال هنا يكاد يكون جهازَ إنذارٍ مبكرًا، يلمح الموجة قبل أن تضرب الشاطئ.

ومع ذلك، قد يضطرُّ الكاتب إلى هروبٍ إبداعيٍّ مؤقّت، لا لينكر قسوة الواقع، بل ليجد مسافةً آمنةً يتأمّله منها. فكثيرًا ما يضيء البعيدُ ما يعمي القريب؛ وعينُ القلب لا ترى إلا إذا ابتعدت قليلًا عن الضوضاء. إنَّه هروب يشبه صعودَ الجبل: يتعب الجسد، لكن الرؤية أعلى، والهواء أصفى، والدروب المُتَشعِّبة في السهل تنكشف خيوطُها من تلك القمة.

هنا، في فضاءِ الخيال، ينال الكاتب حريته القصوى؛ يختبر المعنى من زوايا لا تتيحها الوقائع الجافة، ويعيد ترتيب قطع البازل كي تتشكّل صورةٌ تُحفّز القارئ على التساؤل: أين ينتهي الواقع ويبدأ الحلم؟ بل هل ثمة حدودٌ أصلًا، أم إننا نحيا دومًا في منطقةٍ رماديةٍ تتحوّل فيها الوقائع إلى استعارات، والاستعارات إلى بوصلاتٍ لفهم ذواتنا وعالمنا؟

لذلك نبقى، نحن والكلمات، معلّقين بين جسرين: جسر الوعي الذي يشدّنا إلى الأرض ليسقينا تفاصيلها، وجسر الحلم الذي يوسع الأفق ويُعلّمنا الطيران فوق الأسوار. وما الأدب إلا تلك الرحلة اليومية على الجسرين معًا؛ نَعبُر فنكتشف، نهرب فنعود، نكتوي ونُشفى، ثم نمنح القارئ مفتاحًا ليرى العالم بعينين جديدتين… عين الواقع الصلبة، وعين الخيال الرحبة.

…………..

*كاتب يمني وأكاديمي

مقالات من نفس القسم