في كتابه «في مدح الحب» يحرض الفيلسوف الفرنسي آلان باديو، على فتح الأبواب للحب بكل تجلياته. باديو يحلل واقع الحب في ظل الميل الاستهلاكي عند البشر في القرن الواحد والعشرين، لكنه رغم كل المعوقات الواقعية والنفسية والحياتية يميل للانتصار للحب، فهو يرى أن الحب يتشكّل من مسار ومن رحلة نقطعها معاً في مواقف الحياة، وبُنى لا تعد، مثل العائلات، وأماكن العيش والأصدقاء والمهن.
لكن مَنْ الذي يستطيع أن يقرر مما تتشكّل حقيقة الحب؟ إن هذا السؤال الأزلي، الذي يكرره باديو أيضاً، ينفتح على تأويلات شتى، لأن طريق الحب يمر عبر حوادث ومراحل لا يمتلك فيهما أي من العاشقين جواباً حاسماً عما سينتج عنهما؛ لكن النتيجة الحاسمة بالنسبة للفيلسوف الفرنسي، أنه في اللحظة التي تؤمن أنك تمتلك حقيقة الحب، حين تعتقد بأنها هذه أو تلك بالتأكيد، تضيع منك تلك الحقيقة.
في مقابل وجود عناوين كتب وروايات كثيرة تتضمن كلمة الحب، يأتي عنوان رواية «مديح الكراهية» للكاتب السوري خالد خليفة، ليضع القارئ في مواجهة شعور بالكره، بل بامتداح هذا الإحساس المناقض للحب والمسكوت عنه في أغلب الحالات، كنوع من المداراة، إذا كانت الكراهية لشخص مقرب، أو لسلطة، أو لنظام ما سيلاقي مَنْ يجاهر بكراهيته مصيراً سيئاً. يأخذ خليفة قارئه نحو عوالم متنوعة وساحرة، نشاهد الحب والكراهية، الرغبة والدهشة، وندخل إلى غرف سرية في قلوب نساء انفتحت على الحب، وتقلبت نحو البغض، وظلت تبحث عما ضاع منها في دروب الحياة الشقية.
وبين الحب والكراهية تأتي من المحكيات الشعبية في المجتمعات العربية، كلمة «حبك برص» حاسمة قاطعة حين يرفض شخص ما، عبارة أن فلان يحبه، فيأتي الرد الرافض القاطع بالتمني للشخص المرفوض بأن يحبه «برص»، والبرص لمن لا يعرفه هو نوع من الحيوانات الحرشفية أكبر من الصرصار، وأصغر من الفأر، لا يطير ولا يقفز، لكن ما يجعله منفراً جداً للبشر، إنه لزج ويتسبّب في أمراض جلدية، لونه يتراوح بين البني والبيج، وشكله يدفع للإحساس بالقشعريرة. ربما انطلاقاً من كل هذه الأسباب شاعت في المجتمعات العربية صلة بين الحب المكروه ومواصفات البرص، الذي لا يمكن الإمساك به ويسبّب الإزعاج، حد التمني للشخص غير المرغوب فيه أن يحبه برص.
في التصوف الإسلامي تُعتبر ذروة الحب هي الحب الإلهي، كلما كان الله في قلبك، أحببت البشر والحياة من أعماق روحك، وتلاشيت في هذا الحب فلم تعد أنت أنت، ويصير نور الله يسكنك وينعكس على جميع تصرفاتك وعلاقاتك بالناس والكائنات. يقول ابن عربي:
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي
إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
لقد صار قلبي قابلاً كل صـورة
فمرعى لغزلان وديرٌ لرهبان
وبيتٌ لأوثان وكعبةُ طائـــفٍ
وألواحُ توراة ومصحفُ قرآنِ
أدين بدين الحبِّ أنّى توجهــت
ركائبه فالحبُّ ديني وإيماني.
نحن نحتاج جميعاً إلى هذا الحب التطهري الذي يحكي عنه ابن عربي، في تجليات شغفه الحقيقي والعميق في تساميه النادر، سوف يفتح بصائرنا لتصير نافذة، كي تمضي بنا الحياة في إيقاع مسكون ببعض الرأفة والتعاطف نحو العالم ككل.