بيرم التونسي.. في المنفى وفي سلسلة الروائع

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

وئام مختار

"الأوّله آه، والثانية آه، والتالتة آه.
الأوَّلة مصر.. قالوا تونسي ونفوني جزاه الخير وإحساني.
والثانية تونس، وفيها الأهل جحدوني وحتى الغير ما صفاني.
والتالتة باريس، وفى باريس جهلوني وأنا موليير في زماني"

هكذا باختصار جامِع، يصف بيرم التونسي، الشاعر العظيم، حياته ما بين مصر وتونس وفرنسا، في ثلاثة أسطر، يجمع عشرون عاماً من حياته في المنفى، ما بين مارسيليا وليون وباريس وتونس وبورسعيد والاسكندرية، عشرون عاماً من السَفر والأعمال الشاقّة والبرد والجُوع ومحاولات العودة إلى مصر أيضاً، يختزلها في ثلاث جُمل، لكنّه كما يترُك الخيال للقارئ هُنا، فإنه يأخذه معه في رحلة أخرى عبر التفاصيل والأيّام في "مذكرات المنفى".

"مذكرات المنفى" هي مجموعة من المقالات التي كتبها بيرم التونسي متفرقةً لبعض المجلات والجرائد المصرية والتونسية، يتحدّث فيها عن أيامه في المنفى، عن مشاهداته، وعن عمله، عن صراعه اليومي لسَد رمقه ولو بكسرة خُبز جاف أو بصلة منسيّة في ركن الغرفة، كان يجوع في مارسيليا حتّى أن: "كان منظر" "المرقاز" والاجبان والخبز في الحوانيت أجمل وأشهى من منظر المجوهرات والفراء والمنسوجات الفاخرة. لقد كنت أجد نفسي واقفاً أمام واجهة الحلواني اتفرّج على الفطائر المنقوشة في ذهول، ثم أنتبه وأحسب أن الناس تراني وتعلم حقيقة أمري فأنصرف خجلاً"، لم يتخلَّ عن الفكاهة أبداً حتى في أكثر الأوقات برودة وقسوة، ولربما كانت هذهِ طريقته في التغلّب على مرارة الحياة.

 

وُلد بيرم التونسي، في حي الأنفوشي بالإسكندرية، في 23 مارس 1839، لم ينَل من التعليم إلا بعض السنين في الكُتّاب، وبدأ مبكراً العمل ليعول أمّه وأسرته بعد وفاة الأب وهو ابن الثانية عشر، وسط شروط معيشة شديدة التعاسة، حيث تزوّج الأب على الأم قبل وفاته، وماتت أخته الصغيرة بعد ثلاثة أيام من ولادتها، وزاد من ذلك الحزن وتلك التعاسة المبكرة موت الأب الذي لم يترك للأم والأخت والابن غير المنزل الذي يعيشون فيه، حيث استولت زوجة أبيه علي ثروته لحظة موته، والتي كانت خمسة ألاف جنيه ذهبًا، وتدريجياً باع تجارة ابيه لأبناء العم، وبدأ يعمل كصبي في محل بقالة، ثم طُرد منه، ولم ينتهي الأمر عند هذا الحد من التعاسة حيث تزوجت أمه، والتحق بيرم بالعمل مع زوجها، في عمله الشاق وكان يعمل بصناعة هوادج الجِمال. ثم توفيت أمه عام 1910. ويعلق بيرم علي موت أمه في المذكّرات قائلًا: “ابتدأت حياة من الضياع، فقد انتقلت للإقامة مع أختي من أبي المتزوّجة من خالي، وكانت تعد علي الأنفاس والحركات والسكنات وتضيق ذرعًا بأية خدمة تؤديها لي”.

رغم أن المذكّرات عن سنين المنفى، إلا أن بيرم ما ينفّك يتذكر سنين بداياته في مصر بين الفينة والأخرى، فلقد أشار إلى طفولته أكثر من مرّة، وأشار إلى رحلته مع القراءة والكتابة، وتبحّره بعد سنين الكُتّاب في القراءة وحيداً، وأشار إلى حادثة مهمة، وهي كتابة ” قصيدة المجلس البلدي” التي فتحت عليه باباً واسعاً لاحتراف الكتابة، وبداية الأدب كمصدر للرزق.

“يا بائع الفجل بالمليم واحدةً

كم للعيال وكم للمجلس البلدي

كأن أمي بلَّ الله تربتها أوصت

فقالت: أخوك المجلس البلدي

يحكي بيرم قصّتها، وكيف حجز المجلس البلدي على بيته وطالبه بعوائد كبيرة لا يعلم عنها شيئاً، فقرر “مسخرة” المجلس البلدي، ونُشرت القصيدة بالفعل في جريدة “الأهالي” في الصفحة الأولى، وطبع منها كتيباً وباعه بخمسة مليمات وباع مائة ألف نسخة، وراج رواجاً عظيماً، وطلب أعضاء المجلس البلدي ترجمتها ليفهموا ما قاله عنهم، ولا زلنا نحنُ حتى اليوم عندما نريد “مسخرة” الحكومة، فإننا نتذكر أبياتها الساخرة الذكيّة، وانطلق بيرم يكتب الزجل والشعر في كتيّبات صغيرة تنتقد الحكومة وسياساتها.

لكّن مسيرة الزجل والشعر الاجتماعي والسياسي، لم تعجب السُلطة، وصدر الأمر بإبعاد بيرم التونسي من مصر، ونفيه إلى وطن أجداده في تونس يوم 25 أغسطس عام 1920، وكان سبب الإبعاد غضب الملك فؤاد عليه، بسبب قصيدته «البامية الملوكي والقرع السلطاني، ويحكي في المذكّرات، كيف وصل تونس وبحث عن أهل أبيه، ولكن العلاقة بينهم اقتصرت على بعض “المجاملات البسيطة”، فالعائلة أصبحت إقطاعية منغلقة على نفسها تصون أملاكها، ولا تريد من يُعكّر هذا الصفو، ويحاول الاتصال ببعض الكتاب التونسيين أيضاً للاشتراك معهم في إصدار صحيفة، ولكن الإدارة التونسية كانت تضعه تحت المراقبة منذ وصوله، باعتباره مشاغبًا وباعث ثورات، ولأن الدعاية التي أحاطته منذ وصوله أنه ينتمي إلى عائلة أصلها تركي وأنه كان أحد الثائرين في مصر ضد انجلترا ، فقد جعلت تلك الدعاية -كما يقول بيرم- حينما يعود من جولته اليومية إلى الفندق الذي ينزل فيه يقول مديره للخدم: “أعطو التركي مفتاح غرفته عشان يرقد” ، ولهذا كله لم يستطع ممارسة أي نشاط صحفي أو سياسي طوال فترة إقامته، فيقرر الرحيل من تونس بعد أربعة أشهر، إلى فرنسا، متجولاً بين مُدنها، باريس وليون ومارسيليا، وقاضياً أغلب السنين في مارسيليا تحديداً.

تُظهر المذكرات، شغفاً بمرسيليا على عكس بقيّة المدن الفرنسية التي مر بها بيرم، ليون وباريس على الأقّل، فقد صوّر معالمها ونواديها ومنتزهاتها وحلّل طبائع السكان وعاداتهم من ذاكرته وذكرياته، وعرض أن يكتب لها دليلاً سياحياً بالعربية على شركات السياحة، ورفضوا هناك لمجرد أنه عربي، وظهر هنا شغفٌ خاص بالنساء في مرسيليا.

فكما أبانت هذهِ المذكرات أراء بيرم الاجتماعية وتوجهاته السياسيّة، فقد أبانت أيضاً ملامح من شخصيّته لم تكن ظاهرة لصورته العامة في مصر، فالرجل الذي تزوّج مرتين لا لشيء إلا للحاجة للرفقة والرغبة في سُكنى بيت ورعاية الأولاد، وكتب العديد من الأغاني والقصائد التي تتحدّث عن الحُب والهجر والضنى، لم يتطرّق أبداً لحبّه للنساء إلا هنا، فيقول:” أما نساؤها فعلى جانب وافر من الجمال الذي لا يُرى من أي ناحية أخرى في فرنسا كلها، ويمتزن على جَمال الوجوه بجمال الأبدان وليونتها التي تنبه كُل كامن من الإحساس، وتحرّك كُل ساكن من الشعور، والجمال يوجد هناك في الطبقات السفلى أكثر من وجوده في غيرها، (…) وترى امرأة تبيع الفاكهة جالسة على صندوق من الخشب وأمامها أوعية من الفواكه والميزان العتيق الذي يُحمل باليد وهي على ما في جسمها من رزانة وامتلاء تتحرك كُل جارحة فيها بحركات سالبة موجبة خافضة رافعة فتجد أنت نفسك مندفعاً إليها ولا حاجة لك بالشراء وتراها وهي تدس الفواكه الفاسدة وتسرقك في الميزان وتغالطك في النقود ولا تجد ما تقوله لها غير الشُكر والرضى.”

وفي سؤال حول علاقاته العاطفية وعن دور المرأة في حياته، في حوار أجرته معه مجلّة ” المصوّر” في السادس عشر من يناير 1959، أي قبل وفاته بعامين، تحدّث بصراحة:” أعرف أنك لن تصدّق أنني لم أحب امرأة واحدة في حياتي، ولكن أقسم لك أن هذا صحيح فإنني أحب نساء الدنيا جميعاً، ويعجبني الجَمال ويفتنني الدلال ومع هذا فأنا لم أحب امرأة واحدة في حياتي. وعن سبب زهده في التجارب العاطفية، وعن سبب عدم دخوله في تجربة حب قوية مع إحدى النساء قال: “شغلتني الحياة وكفاحي فيها عن الحُب ولكنني أحببتهن جميعاً دفعة واحدة، “أحببت الصنف كله”، ولكن بلا آهات ودموع وتنهدات وهجران وتعذيب.

مُذكّرات المنفى هي رحلة مُمتعة في سنين بيرم التونسي، وفي عاميّته التي تقارب الفُصحى وفُصحاه التي تُداعب العاميّة، أسلوبه الساخر اللذيذ الذي يستخدمه مع كُل الأحوال، المُبهج منها والتعيس، وينطلق به من السياسة إلى الفن إلى النساء بُمنتهى السلاسة.

مذكرات بيرم التونسي” هي افتتاح مشروع “قطاع الثقافة” بـ “دار أخبار اليوم”، اختارها الأديب عزّت القمحاوي رئيس القطاع، لتكون بداية سلسلة “الروائع”، وتحقق مجموعة من العوامل الصعبة للقارئ، ما بين قطع الجيب تماشياً مع أشكال القراءة الإلكترونية الجديدة، وما بين جودة الطباعة والورق المُستخدم، وما بين الاهتمام بسعر مُناسب للكتاب، وجودة العمل المُقدّم، فالسلسلة ليست مُقتصرة على الأعمال العربيّة فقط، وإنما المُترجمة كذلك، فالاختيارات القادمة هي “ليس لدى الجنرال من يكاتبه”، و”الحب وشياطين أخرى” لجابرييل جارسيا ماركيز من ترجمة صالح علماني، و رواية ” آورا” لكارلوس فوينتس، والمفاجأة اللطيفة، مجموعة مقالات لكوكب الشرق أم كلثوم، مقالات كتبتها بنفسها، ونُشرت بالجرائد المصرية، وسيتم تجميعها في كتاب من إحدى كُتب سلسلة الروائع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كاتبة مصرية 

مقالات من نفس القسم