نهى محمود
منذ صغري وأنا مغرمة “بالفنار”، House of light، الطريقة التي يقف بها الفنار ليلًا وسط وحشة الليل، رهبة البحر. كل من ينظر نحوه ليلًا يرى شيئًا مختلفًا. إن كنت تقف على جسر ستشعر بشيء مختلف عما إذا كانت قدماك غائصة في رمل مبتل بالماء، شعور مختلف إن كنت في سفينة وسط الظلمة الهائلة أو عاصفة مرعبة.
مشاعر البشر نحو “الفنار” مربكة، الإحساس الغامض الذي يملؤنا بالنظر نحوه، قد يكون مصدرًا للنجاة والأمل، أو صورة أخيرة تطبع في ذاكرة غريق.
هذه هي الكتابة عندي.. بيت من الضوء معلق بين السماء والأرض، بين الأرض والبحر، بين الموت والحياة.
مبكرًا جدًا.. انجذبت نحو تحويل مشاعري لكلمات، أفكر أن الأمر بدا مثل ميل ساق وأوراق نبات نحو الشمس، ناحية الضوء.
الميل ذاته، للكتب حين رأيتها في مكتبة أمي المحملة بكتب الألغاز وأجاثا كريستي وأدب الستينات والأدب الروسي، ومكتبة المدرسة الممتلئة بنسخ من سلسلة المكتبة الخضراء، أمر يشبه رؤية شيء مدهش، أسطوري مثل الديناصور الأخضر الذي أحبه وأعرف أني قابلته في مكان ما وتبادلنا اللهو والضحك.
مشاعر الانجذاب تلك نحو الكتب، غير مفهومة لكنها غامرة..
كنت صغيرة جدًا لأعرف أنه العالم الذي أنتمي له، كنت أدخل عالم الحكايات التي أقرأها بطريقة ما، أتحرك داخلها وأبقى، التماس بيني وبين عالم الحكايات الذي فوت عليّ في سنوات طفولتي ومراهقتي التعامل مع العالم الحقيقي، مما سيجعلني أعاني كثيرًا فيما بعد وأنا أجرب كسر الحائط الرابع، والإيهام بيني وبين الحياة.
أفكر الآن أني كنت طفلة غريبة الأطوار، تترك بيت عائلة ممتلئًا عن آخره بالأطفال، اللعب والجري والصراخ ورمي الكرة ومضارب تنس الطاولة لتطالع كتبًا طوال الصيف. بيت فيه عشرة أطفال، أكون أنا الأخيرة دائمًا في تعلم أي لعبة بينهم.
المشهد الغامض الكبير حقًا في طفولتي كلها هو ظهور بائع الكتب الشبح ومكتبته، حكى لي معظم أصدقائي الكتّاب ودونما اتفاق أنهم قابلوا واحدًا في طفولتهم أيضًا.
دائمًا كان هناك “دكان” كتب منزو قديم له صاحب عجوز.
فكرت عندما كبرت أن ذلك الدكان سحري والرجل غير مرئي وليس له وجود حقيقي، وإني كنت زبون المكتبة الوحيدة، كانت مجرد طريقة لتعبر الكتب نحوي.
في طريق عودتي من المدرسة ذات يوم، ظهرت البناية القديمة والرجل القديم فجأة في شارع أمرّ عليه كل يوم، المكان قديم ومظلم ومترب ورائحته مثل الورق القديم.
أزوره لسنوات في الصيف والشتاء، أشتري كتب الجيب والألغاز والكتب البوليسية، لم يكن لديه أكثر من ذلك. يضع أمامي كومة من الكتب، أشتري كل مرة ثلاثة أو خمسة حسب ما معي من نقود قليلة، وعندما أنهيها.. أعود.
عندما أنهيت قراءة هذا النوع من الكتب وتشاغلت عن المرور من هناك، بعد فترة لاحظت أن الرجل والدكان والبناية كلها لم تعد موجودة، أو ربما لم تكن أصلًا هنا.
في الثمانينات، في طفولتي بين عمر خمس وسبع سنوات، تسمرت فجأة أمام التلفزيون حين سمعت صوت محمد منير يغني تتر مسلسل أطفال.
أضاء شيء داخلي. الشيء نفسه الذي جعلني في هذه السن أهتم وأتابع مسلسل “نهاية العالم ليست غدًا”. وعندما أكبر أحب كل ما يكتبه “يسري الجندي” ومسلسل “سفر الأحلام”، ثم أحب “وحيد حامد”.
تلك الاختيارات الغريبة على طفلة، كان معها شيء ينمو داخلي مثل حديقة سرية، رغبتي في تلقي الجمال من العالم سواء في حكاية أو نغمة أو مشهد.
تلك الحديقة السرية التي نمت داخلي، ومنحتني شيئًا مختلفًا، طريقتي وحساسيتي الموجعة في استقبال الجمال والقبح على حد سواء.
لم أكن أفهم سبب ما أشعر به من حزن قديم في قلبي، وطريقتي المرهقة في سحب العادي تحت المجهر.
التفاصيل التي ألحظها وتظل عالقة في روحي أو مختبئة حتى تسطع من جديد.
أحتاج الأمر لنحت كل تلك الحجارة والحصى الذي يملأ الطريق وألحظه، التشتيت والفوضى والبشر.
كل شيء يمر لداخلي ويحتاج لطريقة ما ليتحول لكلمات، ليخرج الصخب من عقلي، والصمت الكبير من قلبي.
أحتاج للكتابة حتى أفهم نفسي، وفوضى العالم من حولي، بدت كطريقة لمصاحبة الفقد، والحزن، والخذلان، إعادة تشكيل الوجع لشيء يمكنني احتماله والمضي عبره.
الكتابة هي اللعبة الأجمل في الحياة.. هي الحياة حيث يمكننا أن نبدأ من جديد، ونقص الحكايات بألف طريقة ونختبر بدايات أخرى ونبدل نهايات مؤسفة حتى نضمد جروحنا ونتواصل مع الفوضى والزحام، ونخربش على حائط الزمن أننا كنا هنا، عبرنا وبقينا قليلًا ثم غادرنا.