بيت الرمل الأخير

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ياسمين مجدى

زوجة وقط.. الرفاق الأكثر حضورًا فى السنوات الأخيرة. يتحول منزل محمد جبريل إلى مزار للأصدقاء والمحبين فى أى وقت. يستأنف خلال إقامته المنزلية توثيق ذكرياته الأخيرة السكندرية أو يعيد إنتاجها لتتقاطع مع حياته التى يعيشها. يخيل لى وأنا أكتب ذلك أنه سيقرأه، لقد اعتدنا على حضوره.. نغيب ثم نعود لنجده، لكن القوانين لا تمضى وفق هوانا، فالعالم يواصل سيره فى كل الأحوال، بينما نحن نراوغه ونسميه نوعًا جديدًا من الحضور.

عدة سنوات قبل الرحيل كثف فيها جبريل طاقته للكتابة، واستعاض عن السير فى الشوارع واقتناص الحكايات الجديدة بالعودة إلى جذوره، وتوثيق ذكرياته القديمة، حيث الإسكندرية، وطفولته ثم يتمه، وشبابه الوحيد. ثم عكست أعماله نزعات صوفية واضحة، كتب فيها عن أئمة الصوفية فى الإسكندرية فى روايته «حيرة الشاذلى» ٢٠٢١، كما أصدر فى العام نفسه «مشارف اليقين» عن رحلة شاب صوفى يبحث عن اليقين والكشف والبصيرة. ظهر الخيط الصوفى جليًا فى ختام أعماله، لكن لم تخل مسيرته الروائية الحافلة فى مجملها من الأسئلة الصوفية، فراود شخصياته الوصل والتجلى والأولياء فى رحلتهم.

عزيزتى دكتورة زينب العسال؛ رحيل رفيق العمر هو قصتك الآن، ستروينها بطريقتك، لأن محمد جبريل ليس موجودًا ليحول ذلك إلى سيرة روائية كما فعل مع كل حياته. هذه هى القصة الوحيدة التى تكتبينها وحدك فى رحلتكما، بعد ما كتب عن بلاد الغربة، وسفره إلى سلطنة عمان بالسبعينيات، حيث ولدت قصة الحب واللقاء الأول، ثم اكتمل مشروع إنسانى وثقافى ممتد بينكما. النساء تحب الأغنيات العاطفية لكن رفيقة الروائى تخلد ذكرياتها رواية، حيث الحر الشديد والعقارب الصحراوية، ثم يأنس بوجودكِ، ويبدأ حياة جديدة معكِ.

حتى القط حميدو حظى برواية باسمه، تروى سيرة بيتكم، ومغامراته بينكم وبين المثقفين الذين يترددون على البيت. 

**

منذ سنوات تأخرت عن تسجيل شهادتى حول محمد جبريل، بسبب ارتباطى بسفر إلى مؤتمر أدباء مصر، ومنذ ذلك الحين والشهادة عالقة، ليحين موعدها بعد رحيله، سأضيف إليها أننى تأخرت فى زيارته.. ولا شىء يبرر غير أننى ظننت الزمن سينتظر.

وقفت أودّع جثمانه، أخبرته أننى جئت لزيارته، وأشعر بوجوده حولنا فى المكان، أصدق أن أحبائى من الموتى حين تخرج أرواحهم تُقبل نحوى، متحررة من الجسد، شعرت بذلك أول مرة حين ماتت جدتى، وهذه المرة شعرت بالأستاذ محمد جبريل يحيط بنا، يسمعنى فى صمت مترقب كمن يستكشف الرحلة الجديدة التى ينتقل إليها، رحلة منفردة لا تصحبها كتابة. تحركت السيارة ومضت به مبتعدة.

تعرفت إلى ندوة المساء للأستاذ محمد جبريل قبيل ثورة يناير ببضعة أشهر، لم أداوم عليها سوى عدة مرات، لكننى رأيت التزامه ومحبته وجلوسه صامتًا على أحد الأطراف بينما الجميع يتناقشون. عرفت فيما بعد التاريخ الطويل لندوة المساء الأسبوعية التى دعم جبريل فيها كثير من المواهب الشابة أصبحوا فيما بعد أسماءً متحققة. وروت زوجته د. زينب العسال أنهم ضلوا الطريق فى قرية نائية يومًا، فظهر لهما شابان للمساعدة، وكانا من رواد ندوته الأسبوعية، وأكدت أن فى كل قرية مصرية أحد رواد ندوة محمد جبريل.

لم يتوان عن تحويل حفل توقيع أحد كتبه إلى ليلة لتأبين الشاعر مجدى عبدالرحيم الذى رافقه قبيل وفاته، وبدلًا من احتفاء جبريل بكتابه الجديد، أحضر أسرة الراحل وواساهم بالحديث عن الفقيد، وفاءً للصحبة. هذه إحدى طرقه فى تدوين الذكريات والاحتفاظ بالبشر.

ولا أنسى منى التى هاجمنا نصها بشدة فى ندوة المساء الأسبوعية، ثم تدخّل الأستاذ مدافعًا عن النص وعنها لأنه شعر بقسوة غير مبررة،  وهو موقف لن تنساه كاتبة شابة من كاتب كبير يصفق لها كى تواصل ولا يكف صوتها عن الكتابة.

**

سألته يومًا عن طقوسه فى الكتابة، وأخبرنى عن قدرته على الكتابة رغم أى ضوضاء محيطة، لأنه اعتاد الكتابة فى غرفة المحررين بالجريدة، فيفصل نفسه عن الضوضاء حوله، ويعيش داخل روايته، ربما لأن لحظة ميلاد روايته أعلى صوتًا، وهو ينهمك مع شخوصه أكثر مما يتورط فى العالم حوله.

يستعيد الذكريات المسجلة البحر ورائحة الرمل والوجوه، لا ينسى الفتى الإسكندرانى أن يبنى بيتًا من الرمل على الشاطئ، تتدفق الذاكرة البعيدة، يتأمل بيوت من رمل لفتى قطع رحلة من الإسكندرية إلى القاهرة، وبقى «بيت الرمل» الأخير.. عنوان روايته التى أوشكت على الصدور، لكن صدورها الفعلى اكتمل بعد رحيله، لأنه بيت الفتى الأخير على الشاطئ.

رحلة كتابة طويلة تخدعنا أن تلك الحياة مستقر، ثم تكتشف فى لحظات أنك تترك البيوت الرملية وتنسل مع الموج. يعزينى أننى هاتفتك قبل أسبوع من وفاتك، وإن وتساءلت حينها لماذا لم تطل المكالمة ولم تتحدث باستفاضة كعادتك عن عملك الجديد «بيت الرمل»، لكن لم تكن لديك الرغبة، وهى الإشارة التى لم أفهمها حينها.

ثم أرسل لى رابط مقاله الأخير، وأظننى لو سألت المحيطين به، سأجده أرسل المقال إليهم، وتلك إشارته الثانية للوداع، فمقاله بعنوان: «ما لا نراه»، يقول فى مقدمته: «المدى البصرى – مهما يبتعد – فهو محدود. مع ذلك، فإننا قد لا نستطيع رؤيته، وهو ما ينتسب إلى رؤيا الغيب، وهذا الغيب – بالطبع – نسبى». وفتح المقال الباب الأخير لينفذ منه محمد جبريل إلى غيب روى عنه، ثم انفلت.

كتب الأستاذ محمد جبريل أنه يتمنى أن يواصل السير دون توقف وسط الناس، فقد أمضى أغلب أيامه وهو جالس إلى الكتابة، ثم انتبه بعد أن أصابه المرض أنه فوّت أشياءً فى الحياة بعد أن أخذته الكتابة. لكن الكتابة وفية ستحمل سيرته الطويلة إلى الحضور، ولو عادت الأيام لكانت الكتابة خياره مرة أخرى.

لم يعتزل الآخرين أبدًا، وهو يقيم فى شقته بمصر الجديدة، إنما الفرص لم تمنح اسمه الكبير المحاولات المنتظرة للعلاج بالخارج، لإصلاح العمود الفقرى، أو إعادة الساق إلى عملها المعتاد.

ماذا أضافت كاميرات المصورين وهى تتبع النعش خارجًا الى رحلته الأبدية؟ فهو حاضر بيننا يسمع حديثى إليه. تندفع السيارة به مبتعدة، أسير فى الاتجاه الآخر ثم أسأل نفسى: سيمضى معنا أم فى اتجاه النعش؟

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم