أحمد عبد الرحيم
فى أولى تجاربه مخرجًا، يتقهقر بات بروفت عن المكانة التى وصل إليها فى عالم الكوميديا عدة خطوات إلى الوراء. فهذا الرجل عرفناه كاتبًا كوميديًا منذ نهاية السبعينيات، لمع اسمه بقوة فى سلسلتى Naked Gun، المعروفة فى مصر بالشرطى الجهنمى، فى أفلام من إنتاج (1988، 1991، 1993) وHot Shots، المعروفة فى مصر بـمواقف ساخنة، فى فيلمين من إنتاج (1991، و1992) كمشارك فى تأليف الأولى، ومشارك فى تأليف وإنتاج الثانية؛ وكلاهما حقّق نجاحًا ضخمَا صنع مجد العصر الذهبى لأفلام المحاكاة الكوميدية فى هوليوود، التى تسخر – أساسًا – من أفلام سينمائية عديدة، خلال ذروة تعاونه مع ثلاثى المحاكاة الأنجح ديڤيد زوكير، وچيرى زوكير، وچيم إبراهامز، وهم الأشبه بمؤسسة تأليف، وإنتاج، واخراج تخصّصت فى هذا الضرب.
بروفت الذى انتسب لثلاثى المحاكاة الأشهر منذ المسلسل التلفزيونى الكوميدى Police Squad أو قوة الشرطة (1982)، كتب مع نيل إزرائيل فيلمًا كامل الهزلية والكارتونية هو Police Academy أو أكاديمية الشرطة (1984) الذى فجّر نجاحه 6 أجزاء مُكمِّلة، ومسلسلًا كارتونيًّا، وآخر sitcom، ليؤسِّس مع نشاط الثلاثى الأسبق وفيلمهم القنبلة Airplane! أو الطائرة! (1980)، المعروف عندنا بمجانين فى الجو، ملامح تيار الكوميديا السينمائية جنونية العبث، المميَّزة بالمحاكاة الساخرة، والمُسلّحة بالمفارقة اللفظية / البصرية السريعة، والمُخلصة للإيقاع الكارتونى اللاهث، والكوميديا البصرية الخالصة فى الأفلام الصامتة؛ حيث يتصاعد الموقف الضاحك لأقصى طاقات خبله وصخبه، فى تمسك أبدى بشعار الضحك للضحك.
لا شك أن هؤلاء الفرسان الثلاثة، مع رابعهم بروفت، مثّلوا الحلقة الثالثة للمحاكاة الكوميدية فى تاريخ السينما الامريكية؛ بعد كوميديات بليك إدواردز العبثية، ومغامراته مع الفهد الوردى، ثم سخريات ميل بروكس من أنواع السينما وأفلامها الشهيرة. لذلك يجىء تفتُّت فريقهم منذ منتصف التسعينيات مُحزنًا أكثر من تفتُّت فريق البيتلز، إذ تراجعت كل الملامح البديعة لسينماهم فى أفلامهم منفردين، مثل فيلم چيم إبراهامز Jane Austen’s Mafia! أو مافيا چين أوستن! (1998)، وفيلم ديڤيد زوكير BASEketball أو كرة القاعدة-السلة (1998). وذلك قبل أن تُترك الساحة لفرق تأليف وإخراج أخرى؛ مثل فريق الإخوة واينز أصحاب الجزأين الأولين من سلسلة Scary Movie أو فيلم مخيف من إنتاج (2000، و2001)، أو فريق الثنائى چيسون فريدبرج وأرون فليتزر أصحاب أفلام Epic Movie أو فيلم ملحمى (2007)، وDisaster Movie أو فيلم كارثى (2008)، وهى فرق كان العيب الأكبر لأفلامها، غير الميل للبذاءة المفرطة، الانشغال اللحوح بالتهكم على أفلام أخرى… فحسب!
هذه البذرة السيئة، ستلمحها مبكرًا جدًا، فى الفيلم موضع حديث المقال، فبعد تفتُّت فريق زوكير، زوكير، إبراهامز، عاد بات بروفت سنة (1997) مؤلفًا للفيلم الكوميدى Mr. Magoo أو السيد ماجو الذى كان كوميديا متلعثمة كبطلها، واستغلالًا مُفجِعًا لشخصية الكارتون القديمة، بشكل جعل تقييمى لها تراوح بين نجمة ونصف نجمة! ثم فى فيلمه التالى كمؤلف ومنتج، والأول كمخرج، Wrongfully Accused أو مُتهم ظلمًا (1998)، الذى عُرض تجاريًا فى مصر بعنوان مُتهم بالعافية، أصرّ بروفت على تفصيل عمل من قصاصات أفلام ناجحة، أغلبها معاصر لفترة الإنتاج، بعد ادخالها فى ماكينة السخرية الخاصة به، مُستلهمًا من فيلمين شهيرين للنجم هاريسون فورد المدخل والمنتهى.
ففى البداية، يهرب بطل الفيلم (أداء ليزلى نيلسون؛ نجم المسلسل التلفزيونى Police Squad ثم سلسلة أفلام Naked Gun للمؤلف نفسه) بعد اتهامه بجريمة قتل ارتكبها أخر، كبداية فيلم هاريسون فورد The Fugitive أو الهارب (1993)، الذى يُمسك بطله د. كمبل بذراع القاتل الصناعية؛ هنا يخلع نيلسون ذراع القاتل، وساقه، وعينه مُشوِّهًا إياه تمامًا!، وفى النهاية تنكشف براءته فى مشهد مأخوذ من مذبحة المحققين الفيدراليين من فيلم فورد التالى مباشرة Clear and Present Danger أو خطر واضح وداهم (1994)، وما بينهما ليس إلا هراء سينمائى بحت شمل التهكم على أكثر من 15 فيلمًا، وعدد من المسلسلات التلفزيونية، وبعض الإعلانات، لنرى نيلسون يصرخ صرخات الحرب كميل چيبسون فى Brave Heart أو القلب الشجاع (1995)، ويتسلّل لحجرة مُحصَّنة بأجهزة إنذار فائقة كتوم كروز فى Mission: Impossible أو مهمة مُستحيلة (1996)، ويطارده البوليس على طريقة مسلسل Charlie’s Angels أو ملائكة تشارلى (1976: 1981)، وصولًا للحظة التى يقف فيها وراء حبيبته وقد مدّا ذراعيهما لتخبره فى نشوة: “أشعر أنى أطير!” كبطلى فيلم Titanic أو تيتانيك (1997) اللذين نَجَوَا من الكوبرى العلوى الذى يطيح بنيلسون وحبه من فوق السفينة فى لقطة الختام!
استمد بروفت مواقف ولحظات من أفلام أخرى، ليصنع منها لوحة كاريكاتير ضاحكة كالمعتاد، لكن المشكلة أنها تجىء أضعف من هذا المعتاد ذاته؛ فالفيلم ليس كوميديا مجنونة، ربما فقط بلهاء!، تحلِّق فى سماء السينما، فى محاولة أن تصبح واحدة من “مجانين الجو”، لكن عبر طيران متخبط، وتيه متتابع، يفتقر لأى ذروة درامية، أو كوميدية.
مُتهم ظلمًا يكاد يكون ميتًا دراميًا؛ حيث لن تجد الحدوته المتماسكة شبه الممنطقة، الشخصيات المُميَّزة، الصراع المتصاعد، هزيمة البطل لأسباب ضعفه، مع تحوّله فى النهاية للأفضل، وهو ما قدمته أفلام Naked Gun، أو ذكاء الفكرة الرئيسية، ووحدة المضمون؛ كالسخرية من الأفلام الحربية، بل أطراف حرب الخليج الثانية فى Hot Shotsبجزأيه، كذلك تغيب أمور أخرى كالتتابعات المبهرة بصريًا التى قدمتها سلسلة Naked Gun، أو حتى استضافة نجوم فى أدوار شرفية لإكساب فكرة المحاكاة ضميرًا فنيًا، وتوفير عنصر جذب جماهيرى، ليتقلّص الأمر لمجرد اسكتشات تليفزيونية مشتتة، تلهث فيها وراء محاولات تخمين عنوان الفيلم المأخوذ عنه هذا المشهد، أو هذا الأداء، أو هذا الكادر (وهنا – للتميّز – وصل الحال لهذه الجملة!)، ويُرهَق العمل بالتداعيات السينمائية التى تقتحم الحدث، وتصبح هى الدراما الفعلية، فى فصول دخيلة تعرقل المتابعة، وجو مرتبك، غير مبدع، دمّر نفسه تقليدًا. مثلًا، مشهد المحاكاة الخاص بمسلسل ER أو حجرة الطوارئ (1994: 2009)، التى يتنكر فيها البطل كطبيب، ويمارس بلاهته فى مستشفى، يمكن حذفه بالكامل دون أن يسبب هذا إزعاجًا لسيناريو لم يكترث إلا بتعبئة متعجلة لأحداث من أفلام أخرى؛ ليبدو العمل فى النهاية أشبه بفيلم بالأفلام، أو فطيرة البيتزا التى توهمك أنها تحوى مكونات عديدة؛ لكنها – فى الواقع – ليست سوى صور باهتة لهذه المكونات، كما أنها – غالبًا – ليست مُشبِعة كفيلمنا هذا.
ليزلى نيلسون، الممثل الجاد سابقًا الذى جرفه نجاح أفلام المحاكاة الكوميدية ليتحوّل إلى نجم هزل مطبق، يبدى دومًا حيوية لا تُصدَق مع حقيقة كونه من مواليد (1926)، لكن هذه الحيوية تشرع فى التلاشى مع سيناريو كهذا يفكِّك سفينته، ويغرقها فى نكات قصيرة عابرة. كيلى لى بروك، التى لعبت دور الشريرة، عانت من البرود، لكن دعنى – أيضًا – ألوم برود الفيلم فى التعامل معها؛ حيث ابتعد عن استثمارها فى مواقف تضحكنا. ميلندا ماكجرو، فى دور البطلة الطيّبة، كانت أكثر لطفًا، وإن لم تصل لدرجة التفرد. ممثلو الأدوار الداعمة، مثل ريتشارد كرينا ومايكل يورك، كانوا أفضل حالًا بكثير، بخاصة الأول، الذى ترك بصمة ملونة فى محاكاته الساخرة لشخصية الضابط شديد الثقة، غزير الأوامر، صمويل جيرار، التى اضطلع بها الممثل تومى لى چونس فى فيلم الهارب.
بينما كان تصوير جلين ماكفيرسون تقليديًا، ضيّقًا، مفرغًا من أى إبهار، كان مونتاج چيمس سيمونز بارعًا فى جمعه لشتات الفيلم. لكن الجديد، والمبدع بحق، هو توجيه مؤلف الموسيقى التصويرية الرائع دائمًا بيل كونتا تحية لائقة للأصول السينمائية المُستخدَمة فى الفيلم؛ ليقدم موسيقى ماكس ستاينر فى الجملة الشهيرة من Casablanca أو كازابلانكا (1941)، عند الصدمة العاطفية – المُبالَغ فيها – للبطل، ثم يحيّى الثنائى برنارد هيرمان-ألفريد هتشكوك، بأن ينشر موسيقى Vertigo أو دوار (1958) على خلفية الإعادة التهريجية لمشهد محاولة الاغتيال بطائرة رش المبيدات من North by Northwest أو شمال الشمال الغربى (1959)، ثم يتحوّل إلى چيمس هورنر وهو يدق أجراس القيامة فى إعادة مذبحة خطر واضح وداهم. كما استطاعت موسيقاه، الأصلية وليست التقليد، أن تعزِّز من قيمة الفيلم، مُضيفة إليه رونقًا وبهاء، أقوى وأبقى مما كانت تضفيه موسيقى روبرت فولك على سلسلة أفلام أكاديمية الشرطة، التى رغم اجتهادها كنت تنساها بسهولة – هى والفيلم – عقب خروجك من دار العرض.
حتى لا نظلم بروفت، نقول إن الأمر على سيئاته لم يخلُ من بضع ضحكات استثنائية تذكِّرنا بأيام فوران الكوميديا المجنونة، كمعالجته الخاصة جدًا لمشهد المذبحة من فيلم خطر واضح وداهم: السيارة تكتظ بالراغبين فى الهرب بحياتهم من تحت سيل الصواريخ الموجهة، بينما سائقها / البطل يهبط لينشغل بمسح زجاج السيارة أولًا، وبتمهل شديد، أما الإرهابيون فينبرون فى أداء رقصة أيرلندية مبتهجة خلال إطلاق النار عليهم من قِبل رجال الشرطة الأمريكيين، الذين سيتركون أسلحتهم بعدما يجبرهم عرض الإرهابيين الراقص هذا على التصفيق إعجابًا، وعلى الرغم من كون المشهد جميل الصخب، فإنه يبقى التتابع الوحيد طموح الامتداد، وسط حشد مشاهد أخرى بدت ضحكاتها استهلاكية جدًا، أو بالأحرى “تيك أواى”!
بروفت – وكل من زملاء فريقه – يصمِّم على تحويل تاريخ السينما الأمريكية لبيت ملاهٍ كبير، فقط لنتسلى قليلًا ببعض أفلامه التى تتحوّل إلى ألعاب أو نكت، ولهذا يعلن صراحة فى لوحة البداية أن “هذا الفيلم يقوم على قصص حقيقية.. وقعت فى أفلام أخرى!” كشريعته الخاصة فى صناعة السينما قبل 20 عامًا، وإن كانت تكتسب مذاقًا أقل جودة وهو يعلنها بعد انفراده الكامل بالتأليف والإنتاج والإخراج، حيث عانى من ركاكة الخيال، وتسرع البناء، ومن ثم فقدان الخصوصية، مُنفِّذًا عمله بروح صانع بيتزا، وليس صانع سينما؛ يرجو لفيلمه ولو نفحة من الوحدة، والاتساق، والأصالة.
…………………………….
*نُشرت فى موقع عين على السينما – 28 مايو 2014.