عبد الوهاب عبد الرحمن
ألماني نشأ في سويسرا رسام يختزل علاقته باللون: “أنا واللون شيء واحد، أصبحنا كيانا واحدا، لقد صرت مصورًا، أحس بالقلق” اعتمد على مبدأ “الفن لا يكرر المرئي لكنه يجعله مرئيا”. وباللون يتشكل عالمه من رموز تختزن معان ودلالات مسكونة بهواجس التحديث متفردا بأسلوب قريب من التجريد يحيل به الاشياء إلى تكوينات يحرص على بنائها جماليا وطرح أفكارها بلغة اللون ومساحات الكتل والفراغات بما يحقق قيما للتعبير عن تطلعات الإنسان بحثا عن عوالمه وهي تتشكل بتأثير من متغيرات الحياة عبر تقنيات مبتكرة كانت محور اهتمامه لجعلها متنوعة حرة غير مقيدة بتقليد دارج او أسلوب محدد مغلق محكوم بقواعد تحد من الخيال وإطلاق المشاعر.. ولتحقيق ما يريد ويطمح جرب طرقا مختلفة وحقق ما أراد” ليكون الأقرب إلى قلب الكون” كما قال وكتب على شاهد قبره في بيرن بسويسرا.
وبول كلي له اسهامات مميزة في فنون الموسيقى وكان بارعا في العزف على الكمان والفيولا وعمل في اوركسترا (بيرن) كما كانت له تجربة في فنون القص والشعر، لكنه آثر التفرغ كلية لفنون التصوير وعمقها وأردفها بفنون الكلمة والموسيقى مما عمق ميوله الابتكارية وروح الدهشة وهو يبحث في أسرار الإبداع وطرق تطويرها. جعله يعتقد أن ما يبدو عرضا هو في الواقع جوهري، وأن للواقع مستويات من الرؤى تتداخل فيها حقائق وأوهام وعليه مهمة الكشف ليفصل بين ما يتفاعل معه الإنسان من أحداث ومواقف تترك صداها الحي في ابتكار أساليب تتقصى أزمات الإنسان وهمومه ليحيلها إلى تكوين حسي مشحون باحتمالات تكون على غير الحقائق لأن الاحتمال يشي بمتغيرات لا نهائية على عكس الحقائق التي تحسم بشكل قاطع يحد من فضاء الإبداع المفتوح، ويقع هذا في صميم العمل الابداعي مما يفسر لنا أسباب ميوله لاختيار التجريد كأسلوب تعبير يهتم بالخطوط والمساحات المتفاوتة الأحجام والأشكال معبرة عن فضاء يوحي بسعته واستيعابه أكثر مديات من التفسير تفضي إلى تجليات غامضة موحية تبحث في المجهول الذي يصعب كشفه واحتوائه على قدرة تحفيز التفاعل معه بأطر واقعية تتخذ أشكالا تعبيرية أكثر قوة واستيعاب وقدرة على التجريد الأسلوب الذي يرى فيه الفنان طاقة على اجتراح عوالم غامضة مبهمة لا نعدم فيها شدة الايحاء “فكلما أضحى هذا العلم مخيفا، كما هو في هذه اللحظة، اتجه الفن إلى التجريد”. مع لحاظ أن العالم كان على تخوم حرب كونية مدمرة قد تجتاح العالم في أية لحظة، مما يتطلب تعقب آثارها على الحضارة والإنسان وعلى الفنون بما تملك من حدس تنبؤي ان تتقصى هذا الهم الكوني المروع وليكون الفنان أكثر تأملا في طبيعة هذا الصراع الوجودي بين الإنسان وما يحيطه به من مخاطر بينه وبين ما يتهدده من فناء ومحاولة تفسير واقعه وتحديد أفق أخطاره وتوقعاته الغريبة المقلقة.. الفن أصبح له دور أخطر وأكبر لأنه أمام ضرورة تنوع في طرق اختيار لغة التعامل مع ما يجهله ويسعى لمعرفته وفك رموزه حتى لو اضطره ذلك إلى خروجه على المواضعات التقليدية التي توفر واقعا مزيفا مضللا لإنسان مهدد في وجوده وكيانه.
ويختار (كلي) فنون البساطة والتلقائية ليصل إلى عمق الأسرار، فكانت الشاعرية إحدى الوسائل الفعالة إلى تقريبه من المبهمات التي تحتاج إلى وضوح وكشف بقدرات ايحائية وقوة عاطفية نفاذة.. واستطاع أن يتمثل إشكاليات عصره ليتواءم مع ما ساده من اتجاهات تغريبية تسعى إلى الحداثة ليحقق منجزا متفردا يكرس تواصله مع العصر وما يعانيه من مآس.. يعد لها ما استطاع من قيم جمالية تكون نوعا من العزاء لإنسان هذا العصر البالغ الاضطراب، فكان ما قدمه من لوحات مثار جدل حاد في زمنه اختلفت فيها الآراء وتباينت التقييمات. ولكنه بقي متفردا في اكتشافاته مما جعلت منه ظاهرة توفرت على ملامح وقسمات ميزتها وجعلت لها امتدادات اخترقت فنون التشكيل بكل قيمها التقليدية واساليب جمالها الجامدة..وحاز (كلي) على تقييم نقدي فاق به اقرانه واحتل مكانة فارقة في تاريخ التجريب والتحديث ووصفت آثاره الفنية: “بالقدرة الفائقة في التعبير عن الجوهر في حركة الوجود”. هذا ما كان يسعى إلى تحقيقه وفعل، واستطاع أن يتفاعل مع كل ما هو طارئ وغريب في حالة من التحدي لاحتواء كل غرائبي وتجاوزه، مازجا بين النقائض معمقا الميل إلى الواقعي بروح التجربد بما يضاعف من مستوى المعالجة الجمالية بتفوق واضحة معالمه وأبعاده.. جاعلا متأمل لوحاته مستغرقا بما كان يحلم به ووجده ماثلا أمامه بكامل ملامحه وكأنه حقيقة واقعة، مما دفعه وآخرين من مجايليه لتأسيس مدرسة مهمتها تأهيل وتدريب الموهوبين من عشاق الفن.
وكان كاندنسكي أحد أهم رواد فنون التجريد من المؤسسين لهذا الصرح التعليمي الذي اطلق عليه مدرسة (الباو هاوس) وهي كلمة ألمانية تعني “بيت البناء” اراد من خلالها ان يتجاوز الجمود والتقليد ويطور منهجا فنيا ينفذ إلى الاعماق متطلعا إلى أفق جمالي أبعد وأشمل وأكثر فاعلية يشمل فنون لتصاميم بنائية مختلفة لإشاعة قيم الجمال لكل مرافق الحياة المعيشة من خلال فكرة التغيير والتطور والاستمرار ولكن النازية تهدد بالإلغاء لأي مدارس فنية تسعى إلى التحديث والتغيير لصالح حرية وارادة الفنان ويختارون من الفنانين من يثبت ولاءه للحزب النازي إلا أن (كلي) رفض هذا الابتزاز مما جعل النازيون يقتحمون شقته ويستولون على مقتنياته الشخصية ومحاضراته وكتبه مما اضطره إلى مغادرة المانيا معلنا صرخته ضد النازي “لا أريد Hن ارى المرارة تتسلل الينا”. وعبر عن هذه المرارة القاسية في لوحته الشهيرة “مشطوب من القائمة” وضح فيها بجلاء مدى الاضطراب الذي كان قد وصل اليه.. وتعكس عمق المرارة التي خاف أن تتسلل إلى روحه.. واللوحة تعرض وجه (كلي) يملأ مشهد اللوحة يعلوه الحزن والخيبة يظهر مغمض العينين وكأنه يهرب من رؤية واقع مؤلم وهو يغادر المانيا مرغما وقد وضعت علامة (إكس) كبيرة على راسه بمعنى إلغاء وجوده وهي تأشيرة طرده من قبل النازي الذي عرف بوضع علامات على غير المرغوب بوجودهم في المانيا وعلى من يريد عزلهم تمهيدا لاستبعادهم بالإلغاء أو التصفية في وجهه اعمق مشاعر الحزن وغضب مكتوم دلالة على ضعف الإنسان في مواجهة القهر والاذلال وحتمية الغربة ليصل إلى مصير يجسده بقسوة وحدة في لوحة “الموت والنار” عام 1940 سنة موته واللوحة تصور شبح جمجمة تحيط بها حروف تتشكل في تكوين جمجمة والحروف تشير إلى كلمة (الموت) الذي يمثل قرب أجله ففي هذه السنة رسم (بول كلي) مشهد النهاية المريع مغادرا عالمه ليموت في (بيرن) بسويسرا أحب الحياة وعبر عنها باللون واراد أن يكون قرب قلب الكون.