بوظة الست هوانم

ashraf al sabbagh
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أشرف الصباغ

جاء الأفندية ببناطيلهم وقمصانهم وجواكتهم ورابطات أعناقهم ليغزون حارتنا ويحطون رحالهم في بوظة “هوانم”. حالفهم الحظ الذي لم يكن يحالف حتى مخبري قسم الجمالية أو أبناء أثرياء الغورية. وجدوا أربعة مسامير خالية وكأنها قسمت لهم وهم في بطون أمهاتهم. فراحوا يضحكون معكرين صفو البوظة وهدوء بال الأجساد المسترخية كما خلقها الباري عز وجل وأسسها منذ أبد الآبدين. بل ذهبوا للسخرية من الخالعين جلاليبهم أو فانلاتهم الداخلية. قال أحدهم ضاحكا إنه يشعر بأنه دخل إلى “حمام التلات” وليس إلى بوظة الست هوانم التي سمع عنها في بارات وسط البلد، ومن أفواه صُيَع باب الشعرية ودرب البرابرة. خرج بعض الجالسين من داخل أنفسهم ونظروا إلى بعضهم البعض في صمت، ثم ابتسموا. سرت عدوى الضحك، فضجت البوظة بهمهمات وضحكات ما لبثت أن تضاءلت مثل موجات محيط هادر رأى امرأة حلوة فَخَرَّ ساجدا. علق أولهم جاكتته على المسمار الذي سيجلس تحته، وقال ساخرا إنه لن يكون أبدا مثل هؤلاء البغال الجالسين فاتحين أفواههم يَشْتَرُّون مثل الحمير. وقال الثاني بيقين الأفندية الذين لا يزالون يحصلون على مصروفهم اليومي من أخواتهم البنات: “منظر بشع، لو كنت قد توقعته لما أتيتُ إلى هنا أبدا”. وضحك الثالث الذي بدا خبيرا بالمكان وقال إن الماء سيكذب الغطاس، وخلع نعليه غامزا لرابعهم الذي كان قد خلع حذاءه وجواربه وعلق جاكتته على المسمار فوق رأسه.

وكان من آداب الدخول، أيامها، أن يقعد كل واحد تحت مسماره، ويركن ظهره للحائط استعدادا للمعركة المصيرية الكبرى التي سيخرج منها منهكا كبغل انتهى للتو من جر ثلاثين طنا من الجرانيت. هكذا تعودنا على مشهد العربجية والحمالين وسائقي الحناطير، وبعض الغرباء الذين كانوا يأتون بين الحين والآخر إلى حارتنا للسياحة تارة، وللتجسس لحساب الحكومة تارة أخرى، ولتجريب بوظة هوانم الشهيرة وشاي وشيشة المعلم عاشور في المغربلين. وعندما خالف أحد الأفندية، الذي كان يرتدي بنطلونا وقميصا ويحمل حقيبة جلدية محترمة، التعليمات ذات مرة وارتدى ملابس جاره بالمقلوب، ضحك الجالسون في البوظة، واختلطت ضحكاتهم بضحكات الجالسين على قهوة عمي عاشور الذي كان قد تزوج منذ عامين فقط من الست هوانم وجمعا شمل المكانين المشتركين بجدار واحد، تفصل بين بابيهما عدة أمتار، ووحدا أموالهما وفراشهما وغطائهما ولقمة خبزهما وابتسامتيهما اللتين كانتا تضيئان الحارة وتؤنسان المكان وتطمئنان الجالسين والعابرين والسكارى والحشاشين.

زعق أحدهم أن ائتونا بأربع “قرعات” مما تحبون. فآتوهم بقرعات صنعت خصيصا من أجل الضيوف والأفندية لتحسين سمعة البوظة وتشجيع السياحة الداخلية، وأملا في بقشيش سخي يفك النحس ويفتح أبواب الرزق للغلابة وأولادهم ونسائهم. عَبّوا ما شاؤا حتى ارتوا بالرباعية الأولى. فنادوا على الساقي أن ائتنا بما رزقنا الله وإياكم. فآتاهم بأبيض مبهج تعلوه الرغاوى وتبقلل منه فقاعات تبهج العين وتسلي النفس وتزيل الكرب. هبت موجة حر لا أحد شافها ولا عرف من أين أتت، ففتحوا أزرار قمصانهم البيضاء والملونة وراحوا يحركون أكفهم أمام وجوههم لعل نسمة ماكرة تخرج للقاء جلودهم التي بدأت تنز عرقا. وما إن آتاهم الساقي بالرباعية الثالثة حتى كانت قمصانهم قد صعدت بإذن المولى العلي القدير إلى المسامير فوقهم وتناثرت جواربهم حولهم واختلطت الأحذية وكأنها صارت من مخلفات الحرب العالمية الأولى.

على الرغم من أنها كانت تعرف أن غالبية رواد المكان لا يعرفون لا القراءة ولا الكتابة، إلا أن هوانم، بعد حادثة الأفندي صاحب الحقيبة الجلدية، عَلَّقَتْ مرسوما على باب البوظة يحذر زبائنها من فقدان مساميرهم أو التزويغ والجلوس تحت مسامير غريبة، ومَن ليس له مسمار فعليه أن ينتظر حتى يفرغ أحد المسامير، لأن الأمر قد يتجاوز الضحك والمزاح إلى الاتهام بالسرقة وربما بالتحرش وتنقلب الدنيا رأسا على عقب، وتسيل الدماء وتسحب منها الحكومة رخصة البوظة، أو تغدر على عمي عاشور وتبدأ في تضييق الخناق عليه فينفض الناس عنه ويزهدون في حشيشه الذي كان دوما أجود وأرخص من حشيش الباطنية. لكن الافندية عادة ما يفسدون أي كار يدخلونه أو أي كيف يتعلقون به. ونحن على باب الله، يجبرنا ضيق الرزق على ما لا يستطيع أن يجبرنا عليه الزمن، ويحني ظهورنا ويخفض جباهنا. وما باليد حيلة، فالفقر لم يكن أبدا حشمة. كان دوما عيبا وذلا وكفرا، مهما علقونا في حبال الأمل بالستر في الدنيا ومهما عشمونا بالجنة في الآخرة، ومهما وعظونا بالصبر ووعدونا بالعوض في الحياة الآخرة.

أطاحت الرباعية الرابعة ببناطيلهم التي بدا كما لو أنها قد طارت بفعل سحرة فرعون على المسامير. وصار المشهد متجانسا بحول الله، يعكس لوحة من لوحات ألف ليلة وليلة، تضم رجالا أنهكهم الهوى فمن منهم ظل بثيابه الداخلية ومنهم من كاد يخلعها عن بكرة أبيها. أما الأفندية الأربعة فقد نظروا إلى بعضهم البعض وهم بلابيص إلا من كيلوتاتهم الملونة والمزركشة فلم يتعرف أي منهم على الآخرين، ثم نظروا حولهم، ودققوا في وجوه الجالسين فلم يتذكروا أين هم ومن الذي أتى بهم إلى هنا، فعادوا مرة أخرى ليبحلقوا في وجوه بعضهم البعض. وما إن اكتشفوا أنهم لا يعرفون بعضهم ولا يعرفون الجالسين ولا يعرفهم أحد حتى بالوا على أنفسهم وراحوا يخلعون كيلوتاتهم من شدة الحر وشدة العرق وشدة الوجد.
……………
*(من مجموعة “أول فيصل”)

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم

ashraf al sabbagh
تراب الحكايات
د. أشرف الصباغ

النملة

ashraf al sabbagh
تراب الحكايات
د. أشرف الصباغ

الكلب

ashraf al sabbagh
تراب الحكايات
د. أشرف الصباغ

الطيور