بوح الرمانة في «رسائل زمن العاصفة» لـِ: عبد النور مزين أو حين يتحدث البطن بلغة الروح

رسائل زمن العاصفة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

البشير البقالي

تحمل «رسائل زمن العاصفة» في ثناياها قطبية صراعية بين مجرتين؛ مجرة الجرو ومجرة الكلب. مجرة الجرو تحيل على البطل الراوي ومحيطه ومعارفه وأصفيائه، بمن فيهم «غادة الغرناط» ورفاق النضال والنساء اللواتي تعاطفن معه وغيرهم ممن ينتمي إلى محيطهم ويحمل سماتهم، ومجرة الكلب تحيل على بوعَلي أو الراضي أبكوز ومحيطه ومخبريه بمن فيهم «الزهرة الغرناط» وهند والعربي وغيرهم ممن ينتمي إلى دائرة الجلادين.

وثمة مفارقة تفرزها هذه القطبية، على اعتبار أن الجراء والكلاب بينها قرابة دم، غير أن الصراع كان شديدا بين المجرتين، استحال معه الوئام والتوازن والمحبة. وكان أثر مجرة الكلب قاسيا على مكونات مجرة الجرو، حيث حولت عاصفةَ الحب بين الراوي وغادة إلى رماد وشظايا وانكسار، وحولت حتى حياة الزهرة، وهي جزء من مجرة الأكبر، إلى لعنات وتردٍّ وانسحاق في الجحيم.

شكلت هذه القطبية الصراعية السمة المهيمنة في هذه الرواية، تبلورت فصولها من خلال مظاهر عديدة، كانت بؤرتها الصراع الدرامي بين الأختين «الزهرة الغرناط» و«غادة الغرناط»، فبينما غنمت غادة عاصفة حب حقيقي في شاطئ الريفيين، تجرعت الزهرة عاصفة حب مدمِّر في غرفة الباطو بالرباط على الشرشف الأحمر، عاد عليها بالويلات واللعنات، وكذا الجحود والتنكر من قِبل صاحب عواصفها بوعَلي الذي باعها لكلب آخر، وأبرم معها صفقة مريرة أصبحت على إثرها مُخبرة في مجرّته. وبينما حملت غادة في أحشائها برعم ورد، حملت الزهرة كرة شوك تمزق أحشاءها، على حد تعبيرها في رسالتها. وبينما كانت غادة تتحرق وتشتاق لحبيبها، كانت الزهرة تلعن كلبها العَوّاء الكبير. وبينما كانت رسالة الزهرة عقلية تخدش صوت الضمير، كانت رسالة غادة وجدانية حركت لواعج الروح. وعلى إيقاع هذه التقابلات وغيرها، كانت أرجوحة الصراع الدرامي تتحرك وتتنامى بتوازن واتساق.

لقد أخضع الكاتب كلمة «العاصفة» في العنوان وفي النص برمته، لبلاغة التورية، حيث عنى بها، ظاهريا، هيجان وفورة الحب الذي ربطه بغادة الغرناط في شاطئ الريفيين، وكذا الهيجان الذي عرفته غرفة الباطو في الرباط، واختبرته فتيات كثيرات فوق الشرشف الأحمر. غير أن العاصفة أوحت، ضمنيا، بسنوات الرصاص التي اقتلعت الروح وذرّت رمادها، وما خلفته من آثار، يقول الراوي: «تلك الليلة تزعزعت حياتي وتصدعت، شرخ عميق فلق رأسي، ومنه انتشر إلى كياني… وما توالى من أيامي، لم يكن سوى شظايا روحي المحروقة تتلهى برمادها وبقايا عوائها ريح عاتية مسعورة».(1)

إن بؤرة الرواية كانت هي الروح، تجلى ذلك من خلال كل الشخصيات المكلومة والمشروخة في صميمها ودواخلها، بعد أن دمرتها انتكاسة العواصف التي كان لها انعكاس على المجتمع، وشرخت الروح، ولم يبق سوى العقل الذي يحمل الذكرى ويتمنع أمام الجنون، يقول الراوي: «وأبقى شقيا بعقلي الذي لا حاجة بي إليه، زائدة دودية أخرى تنتظر الاستئصال».(2)

لقد صور الكاتب آثار العاصفة على المجتمع من خلال شخصيات عدة، انسحقت في دوامة التيه والهوان والغربة الروحية والتشظي والجنون، فعبد الحي أُلحِق بمستشفى المجانين ومات هناك، وعبد الرحيم السوسي انتحر، والدسداسي جُنّ برغبته، والزهرة انسحقت في اللعنات والجحيم، وغادة انكسرت وتاهت ثم ماتت في أحداث تطوان، والراوي سُجن في زنازين لعلو وطوليدو وغرناطة، وعانى كذلك في زنازين النفس والذاكرة والنكوص. كما تجلى الانكسار من خلال شخصيات أخرى أضاءت بعض عتمات الحكاية وأشارت إلى داء الروح، حيث عانت من فقد الأهل أو الهجران أو الحروب أو الهروب أو الأحبة، ومن هذه الشخصيات؛ مارطا وليندا وأم الراوي وزوجة بوعلي وابنه وسعاد وغيرهم.

وكان الراوي فوهة البوح بكل النكسات الإنسانية في النص، وقد بدا مثل كراسة مخطوطة بكل الأهوال والأنواء، وأشبه بمتاهة كبيرة تدل على كل المتاهات التي تخوضها الشخصيات، فصورها بدقة، وشرّحها بمبضع التحليل النفسي، ورسم صورها الإنسانية المتردية ومآزقها القاتمة، وتجلى مثل عالَم تتحطم على أعتابه كل المكنونات ، ويبوح بكل الانكسارات التي خلفتها العواصف في فضاء يملأه الخواء والعُواء.

إن صراع المجرّتين لم يكن مجرد خيال عجائبي، بل إن رؤياه تستند إلى حقيقة علمية في علم الفلك، إذ يتحدث عن كوكبتين؛ إحداهما كوكبة الكلب الأصغر، والأخرى كوكبة الكلب الأكبر(3). وقد استوحى الكاتب رؤيا المجرتين من هاتين الكوكبتين، برمزية سوّغت جمالية البناء والصراع الدرامي، وأكسبته عمقا دلاليا، إذ أقحمه في سياق كوني وإنساني، مما جعل «رسائل زمن العاصفة» ليست مجرد حكاية البطل الراوي أو مجموعة بشرية معينة أو رقعة جغرافية محددة، إنما حكايةً ممتدة في الزمان والمكان والكينونة، تحاكي سياقا إنسانيا كونيا مختلا ومفارِقاً.

لقد كانت موضوعة سنوات الرصاص مجرد إطار زمني موضوعي للحكاية، يربط معلولها بعلة ويتيح تجاوب المكونات والسمات النصية وشروطها البنائية، وفق تنظيم يستدعيه تنامي الصراع الدرامي بشكل متوازن. أما الرواية، بِرِهانها الجمالي والإنساني، فأبت إلا أن تقفز على الوقائع وتنغمر في رمزية عميقة وتوليفٍ مناوِرٍ للموضوعات والمرجعيات والأشياء والأسماء، لتصوغ رؤيا حول الإنسان ومآزقه الوجودية وإفلاس جوهره الإنساني. لذلك فهي لم تكن مجرد بوح للذاكرة، ولم تسقط في فخ التسجيلية، وإنما افترعت آفاقا دلالية رحبة وسافرت عبر الواقع والخيال والفكر، لتصور لحظة إنسانية متّسمة بالديمومة في علاقة الإنسان مع ذاته ومع الوجود.

لقد ارتقت الطاقة التعبيرية في هذه الرواية من مجرد إشارات إلى رموز، كما ارتقت اللغة من مستوى الرمزية بالمعنى الاعتباطي الرياضي، إلى رمزية قائمة على التناسب الهندسي الذي يفرز علاقات غير اصطلاحية بين الدال والمدلول. وتبعا لذلك، تسامت الصور الروائية من مجرد التفسير إلى مستوى التأويل، في تواشج وتعالق كمثل تعالق الصوت والصدى، وقرعت أبواب النظرية التقليدية للمعاني؛ الحرفي والمجازي والأخلاقي والباطني، وأخضعت تشكيل العالم السردي لتوليفات جمالية ودلالية تستبطن أكثر مما تشير. وبذلك انفتحت الرواية على جدلية الظاهر والباطن، واستثمرت المشابهة والمماثلة والمطابقة بوصفها آليات عرفانية لإنتاج المعرفة وتأويلها، وكشفها وإخفائها معاً.

إنني لا أقصد بالباطنية هنا الباطنية المذهبية، إنما أقصدها بوصفها مفهوما كليا وكونيا قائما على السر والإخفاء والانكسار والترميز وبعض الخيمياء(4)، وكلها حاضرة في هذا النص. ولعل أول مؤشرات الباطنية يطالعنا في العنوان «رسائل زمن العاصفة»، حيث إن الرسائل في طبيعتها تكتسي حُرمة الحميمية والسِّرية، وكشفُها وإعلان محتوياتها فيه نوع من اقتحام الخصوصية وهتك السرية الواجبة في حق المراسلات. بما يوحي بأن النص يتجه في اتجاه الكشف والرحلة نحو الداخل والباطن لتحريكه وفرقعة مكنونه. كما أن الحكي كان باطنيا غلّفه الصمت أكثر من الصوت، ثم إن الاغتراف من الذاكرة مؤشرُ باطنية أيضا، إذ يعكس الحفر والغور في عمق الذاكرة والزمن وزنازين الذات. وجاء الزمن منكسرا على غرار الزمن الباطني، غلب عليه السرد بالجرعات المتقطعة غير المتلاحمة، زمنيا، فبدا المَحكيّ غير ملتئم والحكاية منكسرةً تضاهي انكسار الوجود.

على أن الباطنية تكشف عن نفسها أكثر، بالنظر إلى كيفية التصوير والترميز الروائيين، خصوصا على مستوى الأسماء. فقد ترك الراوي اسمه سريا واكتفى بوصف نفسه بـِ «حبيب غادة الغرناط»، بما يوحي به وزن «حبيب» من تقعير وانتماء إلى الداخل والباطن، مما يجعله رمزا وليس مجرد إشارة. ثم إن التأمل في اسمي «غادة الغرناط» و«الزهرة الغرناط» قد يقودنا إلى بعض مفاتيح علب النص لاستشراف مكنونها الخفيّ.

إذا نظرنا إلى الاسمين، نجد أنهما قائمان في الظاهر على المشابهة في الاسم العائلي «الغرناط»، غير أن المشابهة هنا مخادِعة ولا ترقى إلى مماثلة، لأنها مشابهة في مجال عامّ، والاتفاق بينهما يبدو في الكيفية وليس في النوعية(5)، نظرا للسمات المتناقضة التي ميزت الشخصيتين. ولعل التقصي ورصد العلاقات والسمات الجزئية التي ميزتهما، من شأنه أن يسعفنا في تلمّس اختلافات وتباينات عميقة. لذلك علينا أن نستكشف نوعية الغرناط لدى كل منهما.

إن العلاقة التركيبية بين «غادة» و«الغرناط» نسبة، بينما علاقة «الزهرة» و«الغرناط» صفة، كما أن «غرناط» غادة مستوحى، كما سنتبين لاحقا، من كلمة «أغرناطة»، وهي تعني باللغة الأندلسية؛ رُمّانة(6). وإذا علمنا بأن «غادة» اسم يوحي بالنعومة والليونة، فإنها تشير إلى سُرّة الرمانة، أي فمها الموجود في عمق التاج. بينما اسم «الزهرة الغرناط» يعني؛ الزهرة التي «تُغرنِط»، و«الغرنطة» تعني، في بعض مناطق المغرب؛ كثرة النّقنَقة، أي إصدار صوتٍ ما نشاز. وبذلك تشير الزهرة الغرناط إلى زهرة أشبه بجرس، والمؤشر النصيّ على ذلك وصفُها ابنتَها بـِ «كرة الشوك»، وهي نبتة معروفة، في شكل كرة شوكية يثمرها نبات طفيليّ مُضرّ، يزهِر ويُثمِر في الآن نفسه.

هكذا يكون الكاتب قد أقام مشابهة ومماثلة غامضة بين الإنسان والطبيعة، لإنتاج معنى باطنيّ في صور حسّية، وأخفى كيفية التصنيع كما يفعل الخيميائي. ولا غرابة في ذلك، خصوصا وأن الكاتب طبيب، على دراية بعلم الأحياء وفهم الكون، إلى جانب حس الإبداع لديه وكذا حس الخيال والتصوير باللغة والكتابة. وقد جعل أوغسطين فهم الكون شرطا لضبط المعاني الباطنية للكتابة، حين قرن فهم النصوص بما يتجاوز فهم الأسماء، وهو معرفة الكون كذلك؛ كالفيزياء والجغرافيا وعلم النبات وعلم المعادن.(7)

ويتجلى عمق المشابهة بين الغرناطين وكذا الاختلاف بينهما، حين ننظر إلى داخل الثمرتين، فكرة الشوك في داخلها بذور حمراء تشبه حبات الرمان، إلا أنها تصيب الإنسان بالاختناق وضيق التنفس، على عكس حبات الرمان التي تُنعش التنفس وباقي أجهزة الجسم. وهكذا يُظهِر التصوير الروائي تناسقا وتوازنا بين سمات الثمرتين وسمات الشخصيتين، وهو توازن جمالي يُساوِق التوازن الدلالي ويُحايِثه.

إن المماثلة الباطنية بين الإنسان والطبيعة، تَبرز في رواية «رسائل زمن العاصفة» في صور عديدة، غير أنها تبدو بشكل أكثر شمولا واتساعا في صورة تحمل كثيرا من الغرائبية والطقسية، حين حكى الراوي عن مرض ألمَّ به وهو طفل صغير، فأخذته أمه إلى عجوز في القرية كَوتْ محيط سُرّته وأوصت الأم بأن تُشرِبَه دم جرو وليد. نقرأ قول الراوي:

«كوتْني سبع كيّات دون أنين أو حركة. كانت أمي تدير وجهها وتبكي عند كل كيّة، ورائحة الشواء الممزوجة برائحة الفِلّين المحروقة، تملأ خياشيمها. غمغمت العجوز وبخت رذاذا من فمها على وجهي ثم أعادت لَفّي في المنديل والتفتت إلى أمي توصيها بما عليها فعله حين تعود إلى البْلاط وهي تقول: هل لديك جراء وليدة؟

– لا، لا جِراء لنا.

– تدبَّري أمرك، لا بد لك من جرو وليد».(8)

وفي موضع سابق من الرواية، تكتشف غادة ندوب الكيّات، ويدور بينها وبين الراوي الحوار الآتي:

« – ما هذا؟ لم أنتبه إليه من قبل.

– هذه مَجرّتي يا غادة، مجرتي.

– مجرتك؟

– مجرتي، أي نعم.

ضحكت ضحكة عالية مسترسلة وهي تلقي برأسها إلى الوراء، ثم عادت تنظر إلي وهي تلاعب مجرتي من جديد.

– وما اسم مجرتك هذه، يا صاحب المجرة؟

قالت وهي تضحك من جديد حتى نضحت عيناها بدمع خفيف جعلت تُمسكه بظهر يدها.

– الجرو، مجرة الجرو، هكذا أسميها».(9)

رغم نغمة الغرابة في الصورة الأولى، ونغمة السخرية في الصورة الثانية، فإن القصد ينحو منحى جادّا في بناء العبارة وبلورة المعاني والدلالات البعيدة، إذ الأمر ليس مجرد حكاية عابرة لإثارة ذكرى أو تسلية، إنما هي الحكاية المركز في النص ومحور عالمه الروائي، طالما يتحدث الراوي عن السرة التي هي المركز من كل شيء في الوجود، وطالما أنه يتحدث عن المجرة، وهو مصطلح فلكيّ، سيتم تأكيده في موضع آخر من الرواية حيث سيسمي الراوي ندوب الكيّات بالأجرام السبعة(10). وهذا الكلام ليس اعتباطيا، بل له مقصديته وباطنه. فالأجرام السبعة هي؛ عطارد، المشتري، الزهرة، زحل، المريخ، الشمس والقمر. الأمر الذي يعني، جدلا، أن السرة هي الأرض. ومثلما أن جذور النباتات تكون في الأرض، فإن جذور الإنسان تكون في الروح، وبذلك تكتسي السرة دلالة الروح، أو نقطة الاتصال بالروح.

إذا عدنا إلى نظرية مراكز الطاقة أو الشاكرات، نجد أن منطقة السرة هي الشاكرا المعروفة باسم الضفيرة الشمسية، وهي ترتبط بالطاقات العاطفية الست، من انجذاب وشجاعة وفرح وصبر وأمل وثقة، ومقابِلاتها من كره وخوف وتعاسة واضطراب وتشوّش ويأس(11). كما ترتبط طاقتها بعنصري النار والحيوان.(12)

وبالعودة إلى صورة الكيّ أعلاه، نجد أن طاقة الطفل ارتبطت بالكي ودم جرو حديث الولادة، أي بعنصري النار والحيوان. ثم إن الجرو في حد ذاته، يوحي بطاقة الارتباط بالروح، طالما أنه حديث العهد بالانفصال عن حبل السرة، أي أنه ما يزال منجذبا إلى طاقة الروح. وثمة إشارة علمية دقيقة حين قال الراوي بأن الكي تمّ بدون أنين أو حركة، إذ حين لا يتألم الإنسان على مستوى السرّة، فإنه يكون إلى الموت أقرب. وبقدر ما تصور لنا الجملة وضعية الطفل، فإنها توحي بمسألة الطاقة الروحية التي تغذى بها.

قلنا، سابقا، بأن شاكرا الضفيرة الشمسية ترتبط بست طاقات إيجابية ومقابلاتها السلبية، ونحن إذا تأملنا تاج الرمانة نجد أن عدد حدباته سِتّ وعدد الفراغات بينها ستة كذلك، وهو رقم يوازي عدد الطاقات. وحين تكون تلك الحدبات مفتوحة، يكون شكلها أشبه برسم تخطيطيّ للشمس، وفي داخل التاج توجَد شعيرات مع حَبٍّ صغير، تعطي شكل ضفيرة. ثم إن مدخل فم الرمانة يشبه سرة الإنسان تماما. لنتبين أن «غادة الغرناط» التي يتحدث عنها الراوي هي السرة، وبمعنى آخر هي نقطة الاتصال بالروح، وثمة في النص مشير تعبيري يقيم التناسب الهندسي بين الرمانة ومنطقة السرة، في صورة وردت في سياق حديث الراوي عن العجوز والكيّ، إذ يقول عن بطنه: «كانت كبالون صغير يوشك أن يرتفع في الهواء حاملا معه جسم الضفدع الذي كنتُه»(13). ولا يخفى أن بالونا صغيرا بسُرّة، يناظِر، هندسيا، رمّانة بتاجها.

لقد أقام الكاتب مطابقة بين الراوي والكون، من خلال الحديث عن المجرة وكذا من خلال رمزية النباتات، واختصر الكون في جسده، وهي مطابقة رمزية تستبطن دلالات، صحيح أن المطابقة هنا لا تتميز بصبغة موضوعية، إلا أن ذلك من صميم سمات المطابقة الباطنية، إذ تتخلى عن الضبط المنطقي والعقلي، وتكون خلاصة انطباعات وجدانية وذاتية أو صوفية.(14)

ومثلما أن الرمانة؛ أي غادة الغرناط، جزء من الراوي تمثل منطقة السرة، فإن الزهرة الغرناط وكرة الشوك جزء من الراوي كذلك، طالما أنه يمثل وحدة كونية. قد تكون الزهرة الغرناط كناية عن الرأس، لأنه أشبه بكرة شوكية ويتضمن فماً «يُغرنِط». ونحن قلنا، في سياق سابق؛ إن النبتة مضرة، وهي تثمِر وتُزهر في الآن نفسه، والراوي بدوره يشير إلى ذلك، إذ يقول في لحظة مناجاة: «آه يا غادة الغرناط.. آه … الزهرة أختك يا غادة نبتة ملعونة».(15)

ومما يعزز هذا الافتراض الحدسيّ، أننا حين ننظر إلى باطن كرة الشوك النباتية(16)، نرى أن بذورها تنتظم في شكل دماغ، يفصلها غشاء كمثل غشاء مصفوفات حبّات الرمان، فتبدو تلك البذور في هيأة مُخّ تماما، مع تمايز في اللون، إذ أن كومة البذور حمراء. وهذا، في حد ذاته، يعزز افتراضنا أكثر، حيث إن الزهرة في رسالتها تسمي ابنتها بكتلة الدم المتخثر، وهي عبارة تحيل مباشرة على ورم الدماغ الخبيث، بنفس درجة الخبث الذي ظهرت به الزهرة الغرناط.

نأتي لنقول؛ إن الكاتب بنى حكاية واقعية، وفي الآن نفسه، كان يبني حكاية أخرى غير مرئية في ثنايا المَحكيّ، يبنيها بوعي عميق بالكون والطبيعة والأحياء والنبات والنفس البشرية وهواجسها ومآزقها الوجودية، وحاكت الحكاية جدلية الروح والمادة، ووضعت يدها على موطن الداء، برؤية رمزية شفيفة كشفت تناقضات الواقع وصراعات الإنسان بكثير من الحس العقلي تجاه الوجود، كما كشفت، في الآن نفسه، أن الجسد واحد؛ هو جسد مجموعة الاحتجاج أو العُواء، على حد تعبير الراوي، غير أن هذه المجموعة التي شكلت الجسد الواحد، أفرزت ثنائية قطبية؛ فهناك من كان يعوي بِرمّانة بطنه، أي بروحه، وهناك من كان يعوي بزهرة رأسه فقط، أي بفمه. تقول الزهرة الغرناط في رسالتها متحدثة عن بوعَلي أو الراضي أبكوز: «عُواؤه لم يكن مثل عوائكم، كان منهم. لم يكن كلبا ضالا يعوي على هواه، كان كلبا مدرَّبا يعوي تحت الطلب».(17)

هذه الثنائية القطبية جسدت الصراع الدرامي بين مجرة الجرو في البطن، أي نقطة الاتصال بالروح، ومجرة الكلب في الرأس، أي قوة الدماغ. ونجد في النص ما يَدعم ذلك، حين تحدث الراوي عن عالم الراضي أبكوز، إذ يقول: «عالَم بوعَلي كان عالما من عيون وآذان، يرصد العواء من منابعه الأولى»(18)، حيث إن هذا العالم يتضمن مكونات الرأس؛ العيون والآذان.

هذا التداخل في الرموز والدلالات يضعنا أمام سمة جديدة في الرواية، وهي سمة التوليف؛ بين حكاية ظاهرية بأبعاد واقعية، وحكاية باطنية بأبعاد رمزية. وهي سمة لا تقف عند كونها بنائية فحسب، بل ترقى إلى مستوى سمة جمالية تكوينية، لأنها تتغلغل في جل المكونات السردية. فقد قام الكاتب بتوليفٍ جمالي بين الرواية والتراجيديا الإغريقية، بالنظر إلى الإيقاع الدرامي الصراعي الذي نَظَم الحكاية، وكذا حجم المأساة التي عاشها البطل لا لخساسة فيه وإنما لخطأ ارتكبه، كما يقول أرسطو(19)، إذ كان لا يفهم إلا بعد فوات الأوان، وبالنظر كذلك إلى تقنية التعرف الأرسطية التي وظفها الراوي في التعرف على ابنه من خلال القلادة(20). مما أكسب النص نَفَسا أسطوريا تعزَّز بجدلية المقدس والمدنس، وألهمه قوة الملحمة من خلال تعدد الموضوعات والشخصيات، غير أنها ملحمة عواء، حيث لا شيء سوى العواء.

وتبرز هذه السمة أيضا في التوليف بين الذاتي؛ أي هموم الراوي، وبين الموضوعي؛ أي هموم المرحلة التي يحكي عنها، وكذا الإنساني؛ من خلال تأويل جدلية الروح والمادة. وقد كان هذا التوليف متدرجا ومتجاوِبا عبر كل مراحل الحكاية. وبدت الرواية وكأنها تلفظ غَصة كانت معربِدة في النفس حين جعل الراوي رسالة الزهرة الغرناط المطوَّلة بمثابة صك اعتراف وإدانة في الآن نفسه، إذ جاءت مثل كشف بالصدى أو بوح بالمرآة، ليرى أهل مجرة بوعلي أنفسهم عبر المرآة؛ يعبّرون من خلالها بلسان حالهم، ويستشعرون وضعهم، ويتلمسون لعناتهم وانسحاقهم في جحيم أنفسهم.

ومن مظاهر التوليف كذلك، تعالق السرد والرسائل وتجاوبهما داخل تمفصلات الرواية. ونحن إذا ما أمعنّا في بنية كل من الرمانة وكرة الشوك، نجد أن حبات الرمان تنتظم في مصفوفات تفصل بينها أغشية، كأنَّ حبات الرمان هي السرد وتلك الأغشية هي الرسائل، ست رسائل من غادة، ورسالة واحدة من الزهرة انسجاما مع الغشاء الوحيد الذي يفصل بين بذور كرة الشوك النباتية.

وعلى هذا الأساس، تبدو الرواية كأنها بوح يشبه فرقعة الرمانة، كما يقال في التعبير الشعبي المغربي كناية عن فضح الأسرار، وهذا بالضبط ما فعله الراوي حين غاص في الذاكرة والذات، وأنجز رحلته الداخلية وكشفها بما لها وما عليها، وبعث من خلال ذلك رسائل موجهة، هي في الحقيقة رسائل من زمن العاصفة وليست رسائل زمن العاصفة؛ رسائل ليست بمعنى الخطابات والمراسلات، ولكن بمعنى ترميزات وشِفرات واعية، وومضات تختلس الرؤية في عتمات المرحلة وتكشف بعض أسرارها الباطنية.

على أن ثمة توليفا دلاليا غير مرئي تفرزه فكرة المثلث المفقود، والمثلث عند الباطنيين هو أساس العائلة، وأطراف هذا المثلث هي؛ الروح؛ أي الأب، والمادة؛ أي الأم، واليانغ؛ أي الابن(21). وفي الرواية ظهر هذا الثلاثي مكسورا، ولعل في حديث غادة الغرناط في رسالتها الرابعة عن تريس بيدراس؛ أي الأحجار الثلاثة، إشارة إلى نوع من التّوْق إلى هذا الثلاثي المتجسد في الحجارة والمنكسر على مستوى الإنسان، وهو انكسار يشير على مستوى الظاهر إلى آثار الفترة التي يحكي عنها النص على المجتمع والإنسان، إذ يبدو مفككا مشوَّها لا ينظمه توازن ولا تناغم، تسوده انحرافات بلا وازع أخلاقي ولا أنساق سوية، في ظل انكسار الجسور، ويشير، باطنيا، إلى اختلال قوى الإنسان؛ الروح والعاطفة والدماغ.

بذلك يكون الراوي قد شرّح النفس بمبضع طبيب باطني، وكشف مواطن الداء الذي تعانيه الإنسانية والمآزق الوجودية التي خلفها صراع قوة الروح، من خلال نقطة اتصالها التي هي السرة والتي تجلت في شكل رمانة، في مقابل قوة العقل التي تجلت في شكل كرة الشوك والزهرة الغرناط، وبيَّن أن التناغم مفقود بين الروح والعقل بفعل انكسار جسر العاطفة والأخلاق. هذا ما أتاح لكرة الشوك، أي الرأس، قيادة الإنسانية إلى تدمير قوة الروح وإلى التفكير المادي والمؤامرة والعنف والصراع والكراهية والعواء والدسائس وجحيم الجنون بأشكاله، في غياب فضاء ومعبر للريح بينهما. غير أن الكاتب لم يفقد الأمل، ولم يترك الأمر للعدمية والسواد، حين تحدث عن برعم ورد حملته غادة الغرناط؛ إنه ابنهما الذي قد يكون رمزا للعاطفة والأخلاق، أي القلب بما هو جسر بين قوة الروح وقوة الدماغ.

هكذا، إذن، تشاكل في الكاتب اثنان؛ أديب وطبيب. وبينما كان الأديب يسرد وينظم خيوط الحبكة، كان الطبيب يشخص الداء ويعلله بعلله ويكشف أعراضه. الأديب استند إلى الوقائع والأحداث، والطبيب استند إلى علم الأحياء والنبات والفلك، وبذلك اختزنت الرواية قوة التصوير والتأويل، وكانت الحصيلة حكايتين؛ حكاية ظاهرية تصويرية تفسيرية، وحكاية باطنية تأملية تأويلية…

************************************

الهوامش:

(1)- عبد النور مزين، رسائل زمن العاصفة (رواية)، ط 2، سليكي إخوان- طنجة، ص: 61.

(2)- نفسه، ص: 68.

(3)- أنظر: ويكيبيديا الموسوعة الحرة، عبر غوغل.

(4)- محمد البوغالي، الباطنية بين الفلسفة والتصوف، دار النشر آدم، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، الطبعة 1، ص34.

(5)- محمد البوغاني، من نظام المماثلة إلى فوضى المطابقة- مأزق التأويل العرفاني، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، ص7.

(6)- مجد الدين الفيروز آبادي، القاموس المحيط، تحقيق: أنس محمد الشامي وزكريا جابر أحمد، دار الحديث- القاهرة، ص: 1185.

(7)- عن: أمبرتو إيكو، السيميائية وفلسفة اللغة، ترجمة أحمد الصعدي، مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت، الطبعة 1، ص: 368.

(8)- رسائل زمن العاصفة، سابق، ص: 42.

(9)- نفسه، ص: 14.

(10) نفسه، ص: 43.

(11)- د. قيصر زحكا، رمزية الأرقام في الحياة النفسية والعصبية، عبر غوغل.

(12)- أمل الشريف، شفرة الكون- ج1، مؤسسة يسطرون للطباعة والنشر، ص: 66.

(13)- رسائل زمن العاصفة، سابق، ص: 42.

(14)- محمد البوغاني، من نظام المماثلة إلى فوضى المطابقة، ص: 20.

(15)- رسائل زمن العاصفة، ص: 75.

(16)- أنظر الصور عبر محرك غوغل بالبحث عن: زهرة جرس الشوك.

(17)- رسائل زمن العاصفة، ص: 76.

(18)- نفسه، ص: 81.

(19)- أرسطو طاليس، فن الشعر، ترجمة عبد الرحمان بدوي، دار الثقافة- بيروت، ص: 35.

(20)- أنظر فصل: التحول والتعرف، صمن كتاب: فن الشعر لأرسطو طاليس.

(21)- رمزية الأرقام في الحياة النفسية والعصبية، سابق.

 

 

مقالات من نفس القسم